عبدالله السلايمة - ضربة استباقية

أكره شهر أبريل ليس لأنه شهر مولدي، بل لأنه يذكرني على الدوام بتلك المناسبة التي تعرفت فيها إلى "بشير"، وتدفعني هواجسي أحيانًا لاتهام شيخ قبيلتنا بالتواطؤ معه، إذ لم يزل يصِّر حتى وقت قريب على الاحتفال بها، ووجدتني بحكم انتمائي للبداوة متورطًا رغمًا عن أنفي لأكثر من ثلاثين عامًا بالمشاركة فيها.
وسرني أن وجدت شيخنا يفقد حماسه بدوره أمام تعرض البدو لخيبات آمال متكررة، أفقدتهم حماسهم، وعمقت من قناعاتهم بأن ليس ثمة ما يدعو بعد للاحتفال بها، بعد أن فقدت المناسبة الكثير من مضمونها وبريقها...
لو كنت أعرف أن احتفال شيخنا الأخير، الذي أقامه قبل عشرة أعوام وسمح "لبشير" بالمشاركة فيه بقصيدة، سوف يجلب عليَّ كل تلك المصائب، لما ترددت حينها في إفشاله، إذ كان يمكنني على الأقل المناورة برفضي لتلك الخطابات الحماسية، الذي لم يكتف شيخنا بتكليفي بمهمة كتابتها فقط، بل أصر طيلة تلك الأعوام على أن ألقيها إنابة عنه على الحضور، مؤكدًا ضرورة الإشارة فيها إلى بطولات أجدادنا وآباءنا، التي أكد مرارًا أن المتربصين بالبدو مازالوا يشككون في صحتها. .
لكنني كالعادة أضعت الفرصة، خشية من ردة فعله!
وليتني فعلت، فمن المؤكد ستكون أقل قسوة من تلك المؤامرة الحقيرة الذي حاكها "بشير" ضدي فيما بعد بإتقان شديد.
تصفيق الحضور لخطابي الذي جدد في دماء البدو أوهام القبيلة، لم يقلل من فداحة شعوري بالغيرة من استحسانهم لقصيدة "بشير"، لذا لم ينجح في بداية الأمر في استمالتي بحديثه، لكنه بخبرة مثقلة بالتجربة عرف من أين تؤكل الكتف.
باغتني مثنيًا على بلاغتي التي -كما قال - إنه لا يشك بأن ثمة موهبة مؤكدة تكمن خلفها.
ولم يغادر إلا بعد أن حصل منى على وعد بلقاء قريب يجمع بيننا.
يوم فارق في حياتي، ذاك الذي غادرت فيه مضارب قبيلتنا، وتوجهت إلى حيث كان ينتظرني على إحدى مقاهي العريش.
استقبلني في حرارة، قدمني لأصحابه على أنني موهبة شعرية جديرة بالاهتمام، بينما كانوا هم يقلبونني بنظرات متفحصة، لا تخلو من تعال مستفز، وعدوانية محتملة.
ربما نجح "بشير" في إيهامي بأنني أمتلك من الموهبة ما يؤهلني بجدارة لاحتلال مكان الصدارة بين الشعراء، لكنه لم ينجح في إيقاف مد حذري البدوي، الذي دفعني بقوة لسؤاله ذات يوم عن سر اهتمامه بي؟
فأجابني مدعيًا: بأن ما يفعله تجاهي ما هو إلا جزءًا من رسالة أخذها على عاتقه، ويهب نفسه من أجلها!
لكنه بمرور الوقت تخلى عن رسالته تمامًا، أمام انزعاجه من ظهوري المفاجئ بميدان، ظل هو على مدى أعوام ليست بالقليلة فارسه الوحيد.
وكإجراء وقائي للحفاظ على هيبته ومكانته، رأى من الضرورة توجيه ضربة استباقية لي، ليس فقط لإجباري على الاعتراف بزعامته، بل على ترك الميدان نهائيًا إذا اقتضى الأمر.
على نفس المقهى الذي استقبلني فيه أول مرة، باغتني ذات مساء، قائلاً:
ـ عليك أن تستعد للمرحلة التالية.
ـ أية مرحلة؟ !
جذب نفسًا عميقًا من الأرجيلة، نفث من بين شفتيه سيلاً من الدخان، ثم تظاهر بنصحي، قائلاً: بأن عليَّ ألا أكتفى بما حققته من انتشار في البلدة، وما نشرته لي بعض الصحف، بل الاستعداد لاجتياز مرحلة ما أسماها بالتمهيدية، وأكد أنه لا يشك في مقدرتي
على اجتيازها بسهولة. .
صمت برهة، ثم مضى قائلاً في ابتسامة ماكرة: لكنها ضرورية قبل الدفع بي إلى المؤتمر الأدبي العام.
وإمعانًا في تنفيذ مؤامرته الدنيئة، اتفق مع بعض معارفه من الأدباء على عقد جلسات تجمعني بهم على مقهى "زهرة البستان" بالقاهرة، جلسات لا يمكن تسميتها بأقل من تآمرية، إذ كلما رفعوا من سقف إشادتهم بقصائدي، تعاظم بداخلي شعوري بالتفرد! .
ولما تأكد "لبشير" تضخم ذاتي لدرجة قابلة للانفجار، قال متبسمًا:
ـ الآن أنت جدير بتمثيلنا.
ـ أين؟ . . تساءلت بشىء من الزهو
وكأنه يستنكر عليَّ جهلي بمثل تلك الأمور، نظر إليَّ بشيء من الاستغراب، ثم قال ماكرًا:
ـ بمؤتمر الأدباء العام، الذي يجتمع فيه صفوة المبدعين أمثالنا!
واستسلمت تمامًا لإغواء كلماته الخادعة، فيما راح يخدر أعصابي بتأكيده على أن موهبتي الفذة تؤهلني بجدارة للفوز في يوم ما بجائزة الدولة للإبداع المتميز!
وبنبرة الخبير الواثق تبرع بنصحي ألا أتعجل الأمور، وأنهى حديثه بقوله في خبث شديد: "إن غدًا لناظره قريب".
وكان أقرب مما تصورت. .
كان يمكنه الاكتفاء بما غرسه بداخلي من أوهام يصعب استئصالها، وكانت كفيلة، لو تركني لحال سبيلي، بإجباري على ترك الميدان له نهائيًا، يعبث فيه كيفما شاء، لكنه دون أدنى وازع من ضميره الفقير تمادى في لعبته الحقيرة بلا شفقة حتى النهاية، وذلك للإيقاع بي في شر طموحي غير المشروع! .
وكان له ما أراد!
إذ بعد أن تكشف لي أثناء المؤتمر تواضع هوهبتي، ومدى خِسة "بشير" وبشاعة ضربته، قررت الابتعاد عنه وعن تلك الأجواء الموبوءة، دون أن أعرف انها قد أصابتني بمرض من الصعوبة التعافي منه.
فقد غدوت مثل قط يعشق خانقه، فلا أنا الذي استطاع تجاهل حنين مُلحّ لميدان يدفعني شوقي للعودة إليه بقوة، ولا استطعت رغم كل ما فعله "بشير" ضدي، على اتخاذ قرار نهائي بمقاطعته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى