محمد فايز حجازي - تحقيق سنة 2018.. قصة

قالت السيدة:
- هراء، لا أصدق أنه كان مجرمًا، ربما لو أخبرتني أن غدًا هو آخر أيام الأرض لصدقتك، ولكن أن يكون مجرمًا فهذا ما لا أعقله، لا أستطيع أن أصدق هذا.
ثم التفتت بوجهها إلى مدخل غرفة الاستقبال، صائحةً بصوت مُتهدج غلبه الانفعال:
- لينا... لينا.

واستأنفت حديثها مع الصحفي الجالس قبالتها، الذي ظل صامتًا يدخن في عمق قائلةً:
- إنها تتحدث في الهاتف، بعد أن تنتهي من مكالمتها سوف تطلعك ابنتي لينا على الكثير من المعلومات التي ترغب فيها، وستؤكد لك ما

أخبرتك به، أما أنه مجرم، فهذا حقًا....

إن عُمْر ابنتي لينا من عُمْر كريم، ولقد رأيت كيف أن مسكننا مُجاور لمسكنه، بوسعك أن تقول أنهما شبا سويًا تمامًا كأخوين، وطبيعي أن يرى كل منهما الآخر كل يوم، على الأقل من النافذة.

كنا أنا وأمه كمعظم سكان مصر الجديدة نرتاد حديقة الميريلاند نحتسي الشاي الساخن، ما أجمل الشاي الساخن مع قطعة الحلوى أمام الألعاب المائية لا سيما في صحبة صديق حميم، كانت لينا تلعب مع كريم بينما نتحدث أنا وأمه لساعات، وكثيرًا ما كنا نصطحبهم هناك إلى ملاهي السندباد، كم كانت أيامًا رائعة لا تُنسى.

هل رأيت كيف استحالت حديقة الميريلاند! أمست خرابًا، البعض يقول إنهم بصدد تحويلها إلى مشروع ما، كأن تكون مركزًا تجاريًا أو ما شابه ذلك، ملاهي السندباد أيضًا أضحت ركامًا، سمعت أن عمارات سكنية سوف تُبنى على أرضها، هكذا يقولون.

ألم تر كيف فعلوا بالترام! ترام مصر الجديدة التاريخي! كان يسير بين الأشجار الهائلة في لوحة فنية ما أبدعها، ضاع الترام والأشجار وضاع معهما عبق طفولتنا وشبابنا إلى الأبد.

صدقني لم تعد الحياة كما كانت، الروعة والهدوء واللمسات الفنية من حولنا تختفي رويدًا رويدًا.

تفضل هنا في الشرفة، أترى؟ إننا في مواجهتهم تمامًا.

انظر هذه هي حجرة كريم، هنا كنا نراه دائمًا يقرأ في كتاب، كان نهمًا للقراءة بحق، حتى أثناء الثورة كنا نراه دائمًا يستذكر دروسه بجوار النافذة، واذا انقطع التيار الكهربائي كان يضيء كشافًا، وفي أوقات فراغه كان يعزف الجيتار، كان مُبدعًا بحق كانت أنغامه تسحرني للغاية، وكانت ابنتي تستريح له، لأنه كان دمث الخلق نقي الخصال.



ظلت السيدة صامتة برهة ثم نادت بصوت عال:
- لينا... لينا.

وأردفت بعد أن هدأت وعادت إلى مقعدها أمام الصحفي:
- طبيعي أن صداقة لينا وكريم لم تكن تشغلني، فهو كما قلت مؤدبًا ومهذبًا، وعائلته أيضًا بلا شك عائلة عريقة ومُحترمة، وكان هناك أطفال
كثيرون في شارعنا جميعهم من عائلات كريمة، فقد كنا نحرص أشد الحرص على تربية أولادنا تربية راقية، نحرص على ثقافتهم وأخلاقهم وملابسهم.

والحق أقول فإن تربية الأولاد الآن أصبحت صعبة للغاية، في ظل الظروف الحالية والمُستجدات التي نعلمها جميعًا، وكذا الهرج والتسيب الذي ساد مواقع التواصل الاجتماعي، كلها أمور تثير الغثيان.

ألم تر بيت والدة كريم؟ إنها سيدة رائعة، أنا أعرفها منذ سنوات طوال، لقد كانت تحب كريم لدرجة العبادة، ولابد أن تلك الكارثة قد

ذهبت بعقلها، لم نعد نراها هنا، ذهبت إلى أقارب لها خارج القاهرة، هاتفتها مرات، لا أعرف على وجه الدقة ماذا كنت أقول لها في كل مرة! ماذا يمكن أن يقول الإنسان لأم قد أصابتها مصيبة كهذه!

حينها دخلت لينا، فتاة جميلة فارعة الطول، تميل إلى النحافة، لها شعر طويل كستنائي وعينين عسليتين، ويصطبغ وجهها بلون برونزي من أثر الشمس وكانت ترتدي فستانًا سماويًا طويلًا مزين بورود رقيقة وقليلة.

قالت الأم:
- تعالي يا لينا، تعالي هنا.

نهض الصحفي من على الأريكة ونفض رماد السيجارة من فوق بنطاله، قامت الأم بتقديم ابنتها إليه ثم قالت للفتاة:
- أتعرفين؟ لقد جاء من أجل كريم، إنه يجري تحقيق مع كل من عرفوه معرفة حقيقية، وذكرت للفتاة اسم الجريدة الشهيرة التي يعمل

بها الصحفي ثم استرسلت:
- قلت لنفسي إنك أيضًا تستطيعي أن تقدمي له شيئًا، وعلى كل حال ماذا يمكنك أن تقولي عنه سوى كل خير!

قال الصحفي:
- إن قصة هذا الشاب فيها جانب غامض، وأنا أحاول الاقتراب من الحقيقة بقدر ما يسعني، فأرجو أن تساعديني في تحقيق هدفي يا آنسة.

قالت لينا وقد أثارتها الشجون:
- أنت تعرف أن كريم كان جارًا وأخًا فاضلًا، فلا تنتظر أن تسمع مني عنه إلّا كلامًا طيبًا.

قال الصحفي:
- إن شخصيته الحقيقية مازالت غامضة بالنسبة للجميع، وإن قراءنا شغوفون بهذا النوع من التحقيقات، وليس من المُستبعد أن نخرج منها بمواقف مثيرة وربما عظيمة أيضًا.


- كان سيسره أن يكون محور حديث الناس بصفته فنانًا حالمًا، ولكن ما أهمية هذا بعد ما حدث.

- حتى إن كان هذا لا يهمه الآن، فمن يدري لعل هذا فيه خير له في موقفه الحرج هذا.

قالت السيدة:
- معذرة يا أستاذ، من كان يتحدث معك يا لينا؟
- إنها فيروز صديقتي، كانت تسألني إن كنت سأذهب لها اليوم أم لا، بالطبع قلت لها إني ذاهبة كما اتفقنا.
- لكن الوقت مُتأخر الآن، لا تبقي طويلًا معها حتى تكوني في المنزل قبل الثامنة بالضبط، موعد تناول العشاء مع والدك.
همّ الصحفي بالانصراف ولكن لينا ابتدرته قائلةً:
- لا، لا تنصرف. انتظر خمس دقائق وسوف نخرج معًا ونتحدث في الطريق.

ثم أردفت متوجهةً إلى أمها:
- قبل أن أذهب إلى فيروز، سأتوقف عند محل «ماندرين قويدر» في الكوربة، لآخذ لها بعض قطع الحلوى.

قال الصحفي:
- إن كان وقتك لا يسمح، فسأعود غدًا.

- كلا، كلا.. انتظر خمس دقائق فقط، أجمع بعض مُستلزماتي وآتي إليك.
قالت السيدة:
- يساورني الشك في أنها خمس دقائق فقط.

قدمت السيدة كوبًا من عصير الأناناس للصحفي، ثم قالت فجأة:
- لا تؤاخذني ولكني لم أتبين اسمك عندما ذكرته.

فأعاد عليها الصحفي ذكر اسمه فقالت السيدة مُبتسمة:

- نعم، نعم لقد قرأت مقالاتك، نعم قرأتها. أنت أيضًا تقدم برامج ناجحة في التليفزيون، أتعرف! إن مقالاتك تعجبني كثيرًا، إنها حقًا رائعة.

شكرها الصحفي، فاستأنفت قائلةً:
- حتى زوجي يقول هذا هو الآخر، من المؤسف أنه في العمل الآن، أتعرف أنه هو الذي لفت نظري لمقالاتك منذ أول مرة ظهرت فيها، إن زوجي قارئ ممتاز وكاتب أيضًا، يكتب القصة والرواية.
ماذا أقول لك يا أستاذ، هناك سيل من الصحف الجديدة والأسماء الصاعدة، ومن يحاول أن يلاحقها يجد نفسه في بحر لا قرار له.

إن رجال الأعمال من معدومي الذوق والفن أصبحوا يسيطرون على كل شيء، الميريلاند والسندباد وحتى الصحف والمجلات، لا هم لهم سوى المال والمصالح، وليذهب كل شيء بعد ذلك إلى الجحيم. ولكن صدقني إن طريقتك في الكتابة واقعية وصادقة، وكنا كثيرًا ما نمدح جرأتك المُلفتة وأسلوبك الشيق، وها أنت تأتي إلينا وها نحن

نمدك بالمعلومات.
عادت لينا، انحنت على أمها وقبلت يدها، فقالت لها أمها:
- عودي في الموعد وأبلغي تحياتي إلى والدة فيروز.

مدّت السيدة يدها إلى الصحفي، الذي انحني عليها انحناءة خفيفة وحيته في مودة.

خرجت الفتاة والصحفي من المنزل، فقالت الفتاة وهما يهبطا الدرج:
- معذرة من أشار عليك بالتوجه إلينا لتستفسر عن كريم.

قال الصحفي:
- رأيت أنه من المؤلم أن أقصد عائلته، أنت تعرفين أنه من الطبيعي أن نحاول أولا أن نسأل جميع الجيران والمعارف، فالأقارب يصطنعون كثيرًا من المصاعب ويضعون أمامنا العراقيل، وهذا بالطبع لا يخدم قضيتنا.


خرج الاثنان إلى الطريق، توقفت لينا على بعد خطوات عند بيت من البيوت ثم قالت:
- هنا كان يسكن كريم، إنه مبني رائع كمعظم مباني مصر الجديدة، لا يشوبه غير تلك الورش أمامنا التي غزت محيطه، الأمور أصبحت مذرية بحق.

- معك كل الحق، وقد سألت الكثير من أصحاب هذه الورش عن كريم، وبرغم أنهم لم يكونوا مهذبين، فقد أكدوا جميعًا اقتناعهم بأن كريم كان شابًا ممتازًا وأن أسرته أسرة نموذجية، وأفرادها مثاليون، كرماء، مهذبون.. إلى آخره، خاصة السمكري الفظ أسفل منزل كريم الذي أخذ يعدد لي حسناته.
واصلا المسير حتى أصبحا في الشارع الرئيسي فقالت لينا:
- أتسمح لي بالدخول إلى هذا المحل؟

دخلت لينا إلى محل الحلوى، وبعد قليل خرجت وفي يدها علبة
حلوى كبيرة وقالت:

- ماذا في وسعي أن أقول لك! لقد أخبرتك مُسبقًا أنني لن أذكر سوى كل خير عن كريم، يمكنك أن تقول أني أعرفه جيدًا، فقد كنا نتحدث معًا في شتى الموضوعات.

سار الاثنان بعضًا من الوقت في صمت ثم قالت لينا فجأة:
- انظر بجوارك، هذه هي المكتبة العامة كان كريم يرتادها دائمًا، فقد كان بجانب حبه الشديد للفن والموسيقى، مغرمًا بقراءة كتب القدماء، يمكث ساعات طوال بين الموسوعات.

شاهد الصحفي من خارج أبواب المكتبة الزجاجية، مناضد المُطالعة والأرفف المليئة بالكتب والمجلدات، والتماثيل القديمة، ثم قال:
- هل سلك كريم يومًا مسلك كمسلك المرائين؟ أو بمعني آخر هل شككت أنه يحجب ما يؤمن به في قرارة نفسه؟

ردت لينا في سرعة وحزم:
- مطلقًا فقد كان كريم لكل من عرفه، نقيًا واضحًا ككتاب مفتوح.

اجتازا الاثنان كنيسة البازيليك إلى حديقة عامة تتكاثف شجيراتها،
فقالت لينا:
- كان يأتي مع أصدقائنا المسيحيين لزيارة الكنيسة، فقد كان بجانب عشقه للفن الإسلامي، شغوفًا بالفن القبطي والقراءة في الأديان، يمكنني أن أعرفك بهؤلاء الأصدقاء في يوم آخر لو أردت.

بعد خطوات أشارت لينا إلى بيت من البيوت وقالت:
- هذا هو بيت صديقتي فيروز، أستاذنك في الانصراف، يمكنك الاستعانة بي متى أردت، أنت دائمًا على الرحب والسعة.

وقبل مغادرتها أضافت:
- هذا المحل هناك، كان مكان كريم المُفضل لاحتساء القهوة مع أصدقائه.

أذن لها الصحفي بالانصراف بعد أن حيَّاها بود، ثم سار إلى المحل ليحتسي فنجانًا من القهوة، فقد دار بخلده سؤال العاملين به عن كريم.

دلف إلى المحل وبينما هو جالس على المنضدة، أخرج من جيب قميصه صورة كريم، صورة من الصور القلائل التي تحصل عليها.

تفرس الصحفي تلك الملامح مرة أخرى، ملامح هادئة لشاب أنيق، مصفف الشعر بعناية ناعمه، تخلو عيناه من أي تعبير، ذي ابتسامة باهتة، من العبث أن يحاول الإنسان معرفة ما يخفيه ذلك الوجه.

اقترب عامل المحل من الصحفي لسؤاله عما يريد من مشروبات، فقال له الصحفي بعد أن طلب فنجانًا من القهوة، وأشار إلى صورة كريم في يديه:
- هل تعرف صاحب هذه الصورة؟

قال العامل في تأثر:
- الأستاذ كريم! زينة الشباب، كلامه يقطر الشهد، كنت أسمعه يتحدث مع أصحابه في أمور الفن والدين والأخلاق، فك الله كربه. كان اسمًا على مسمى، فلا يفوته أن يمنحني بقشيشًا سخيًا في كل مرة.

عندما غادر الصحفي المحل، كانت الشوارع تعج بالناس.

وكان الضجيج شديدًا وأصوات مُختلطة هنا وهناك.

وبدا وهو يسير هائمًا علي وجهه، أنه في حيرة شديدة من أمره، وأنه قد لا يستطيع كتابة أي كلمة عن قضية كريم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى