محمد فايز جازي - رفاق السماء.. قصة

الغربة... الشتات... الشقاء... والعودة..

غربة الروح... وشتات النفس... وشقاء الرحلة... والعودة إلى موكب الملائكة.

عودة من الحب الآثم ومهاوي الجحيم، إلى الحب الصالح ورفاق السماء.
بقلب مُرتجف وخطوات مُضطربة، أعود الآن، أخطو نحو شارعنا القديم، في جوار مسجد السلطان حسن.
في جو رمضان الروحاني الفريد، تمامًا كتلك الأجواء التي أسير فيها الآن بتؤدة واهنة، كنا -أنا وأصدقائي- قبل الإفطار نلعب الكرة هنا، وقد حُجبت السماء بالزينة التي تعاونَّا في صنعها وتعليقها بين بيوتنا القديمة.

مسجد السلطان حسن كما هو، قرآن المغرب كما كان في السالف، في مثل هذا التوقيت، يسري بين القباب والمآذن، صاعدًا إلى جو السماء، وهذا هو شارعنا، شارعنا بلا ريب، ولكني أراه على البعد مُختلفًا، مُختلفًا تمامًا، شيُ ما يبدو مفقودًا، الشجن يصبغ الأشياء من حولي، كل الأشياء، لا أطفال يلعبون، ولا زينة معلقة، فقط بيوت شاحبة ووجوه واجمة.
ذهبت داخلًا الشارع، تائهًا أتلوى من الألم، أهذا هو شارعنا؟! هو بكل تأكيد، وهذا هو بيتنا هناك، وهل أنسى بيتى، أصلي، هُويتي؟! البيت الذي كان مُنتصبًا أبيض، أمسى مُهدمًا باليًا، غامقًا كالحبر الأسود.
أقف الآن على باب بيتنا القديم، أطرقه، بلا رد.
أناديهم... أمي... أبي... إخوتي...
أبكي... أصرخ... ولا أحد يجيب..
أسمعهم بالداخل... يتحدثون... يمرحون... ولكنهم لا يكترثون لم يعد يعنيهم جوعي أو شقائي أو الأرض التي تدور من تحتي، أو هكذا أتخيل، أو ربما لم يعد صوتي أو طرقاتي مسموعة... صوتي الذي أمسى

واهنًا، وطرقاتي المنهكة.
أمي، افتحي لي، ألا تسمعينني؟! إني جائع، أذان المغرب أوشك أن ينطلق، أسمع ابتهالات ما قبل الأذان بوضوح، أسمعها بالداخل تنساب من الراديو في مطبخنا القديم، رائحة طعامك أستنشقها، تتسرب إلى نفسي وتمتزج بدمي، جوعي يشتد أكاد أسقط أرضًا، وأنا صائم، نعم صائم منذ سنوات.
صدقيني، على رغم شقاء الرحلة والسنوات الكثيرة، مازلتُ صائمًا، وهأنذا أتيت، بعد أن أضناني الطريق.
افتحي لابنك، افتحي وسترين بنفسك آثار الصيام على جسدي المُنهك ووجهي الشاحب وشفتي المتشققتين، إني أسمعك يا أمي، أسمعك، صوتك يهزني، يهز كل ذرة من ذرات كياني، ألا تفتحين كيما نفطر معًا؟! سأساعدك كعادتي في ترتيب الأطباق، وسنجلس جميعًا حول طبليتنا الخشبية، وسأرتضي -بلا جدال- بقطعة اللحم الصغيرة التي ستمنحينني إياها، أخبريني هل أعددتِ صينية الكنافة اليوم! أم أطباق قمر الدين! أم تراك فضلتي القطايف؟ أيًّا ما كان، فلقد اشتقتُ إلى طعامك.

صدقيني، لم آكل منذ سنوات طوال.
هلُمِّي يا أمي، افتحي لي.
أنا الآن أطرق الباب وأبكي!
أبي.. أنت من يمنحني القوة والحياة، كأني بك في الداخل تسمع الإمام الشعراوي كعادتك قبل الإفطار، أسمعه وأسمعك، أسمعك تُعقِّب على حديثه الشجي بكلمات استحسان، كما تحب أن تفعل دائمًا، هل تنصت إلى الإمام وحيدًا بغير ابنك، لا أظنك ترتضي ذلك، كم أشتاق إلى صحبتك! افتح لي وأنا أعدك بعد صلاة القيام، بأن نشاهد معًا ذلك المسلسل التاريخي الذي تعشقه، لن أتذمر أو أبدي امتعاضًا على ما تختاره للمشاهدة، فإن ذوقك راقٍ بالفعل، تلك حقيقة تيقنتُ منها أخيرًا، أنت محقٌّ على الدوام، طيب على الدوام، وأنا بدونك شقيت كثيرًا، وأنهكتني الغربة كثيرًا.

أرجوك يا أبي أتوسل إليك.
أتوسل إليك يا أمي.
كم أشتاق إليكما!

مازلت أطرق الباب.
بكلتا يديَّ، بقوة أطرقه.
قلبي يتألم وأبكي.
روحي كأنها تفارقني الآن.
لِمَ لا تُجيبانني!
الأرض تميد تحت قدميَّ.
تميد.
أنا الآن أسقط، طرقاتي تخفت.
جسدي ينهار.
يداي تنزلقان على الباب.
والرد مازال صمتًا مُطبقًا!
وما من مُجيب!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى