مصطفى عوض - حكايةٌ صغيرةٌ عن الموت

كان على الموت أن يأخذ روحاً صغيرة، لطفلٍ صغير، في مدينةٍ صغيرة، في مكانٍ ناءٍ على سطح كوكب الأرض. في اليوم الموعود نزل، نظر في ساعته فوجد أن الوقت لا يزال مبكراً، وكان مكتئباً جداً فقرر أن يتسلى قليلاً، فتنكر في هيئة عجوزٍ بلحيةٍ بيضاء كثة وشعرٍ مسترسلٍ بلون الثلج، تمشى قليلاً عبر طرقاتٍ غير ممهدةٍ خلت من المارة، في هذا الوقت المبكر من صباحٍ شتويٍ بارد، لمح حانوتًا مفتوح الأبواب على مصراعيه، فحث الخطى نحوه ودخل
-صباح الخير
ألقى التحية على الرجل الوحيد في المكان، فترك ما بيده، ورمقه باسترابةٍ، فعقب الموت:
-أنا غريبٌ عن هذا المكان، والطقس في الخارج شديد البرودة، هل لي أن أستريح هنا قليلاً من فصلك
تهللت أسارير الرجل الستيني، وقام مرحباً، وقال
-على الرحب والسعة، تفضل بالجلوس هنا
وأشار إلى كرسيٍ مصنوعٍ من الجريد وسعف النخيل، قبل أن يعود إلى عمله، جلس الموت، شاكراً، وراقب الرجل الذي انهمك في طرق قطعةٍ من النحاس، قبل أن يسأل:
-لا أريد أن أشغلك، يبدو أنك مسترسلٌ في عملٍ هام
ترك الرجل المطرقة، والتفت إلى الموت، وأجاب مبتسماً:
-أجل، وإلى حدٍ لا تتخيله، أنا أسابق الزمن هنا
ثم ضحك مستطرداً بجذل
-على السيد الموت أن يجدني حاضراً حين يأتي، فهو لا ينتظر أحداً
-الموت؟!!
تساءل الموت مندهشاً، فأجاب الرجل، بينما يثبت قطعة النحاس في لوحٍ صغيرٍ من الخشب
-أجل، الموت...لعلك لاحظت أنني صانع توابيت
وأشار لتابوتٍ صغيرٍ أسود اللون
-كلفني سيد هذه المدينة، وأكثرها ثراءً، بصنع تابوتٍ لابنه الذي يحتضر، ينتظرون موته بين لحظةٍ وأخرى، وعلي أن أسرع
حمل الرجل لوح الخشب، وتأمله بزهوٍ، ثم وضعه فوق التابوت..فرك كفيه بجذلٍ، وخاطب الموت:
-انظر إلى تلك التحفة، تابوت من الأبانوس الفاخر، بغطاءٍ من الصندل زكي الرائحة، مطعمٌ بيدٍ من النحاس اللامع، شئٌ يليق بابن أغنى أغنياء المدينة
ثم صمت قليلاً، وعلت وجهه كئابة مفاجأة، وقال:
-من المؤسف أن يطمر هذا الإبداع تحت التراب
ثم عاد لمرحه، واستطرد:
-لكن لابأس، فالمقابل المجزي سيعوضني عن هذا، أخيراً سأتمكن من شراء كرسيٍ متحركٍ لابني الذي فقد ساقيه في الحرب، قد يبدو هذا أنانياً جداً، ولكن ما ذنبي إذا كان الرب قد قدر لي أن أكون صانع توابيت؟
هز الموت رأسه، وقام، ثم استأذن في الانصراف، وقال الرجل:
-سامحني لم أقدم لك شيئاً تشربه، فكما ترى، حانوتي خال تماماً، ٍ إلا من أدوات العمل...وأرجو ألا أكون قد أثقلت عليك بحديثي، فكلنا أمواتٌ في الواقع، وعلى أية حالٍ، فهذا الولد مريضٌ منذ زمن، أخبرتني خادمته الخاصة، بينما تدفع لي عربون التابوت، بأن الموت أفضل له، ولها أيضاً، كلاهما سينعم بالكثير من الراحة أخيراً
شكر الموت الرجل، وخرج، أعاد النظر لساعاته، وكان الوقت ما يزال مبكراً، فتمشى، حتى رأي بوابةٍ كبيرةٍ معدنية، تعلوها لافتة كبيرة مهترأة، مكتوبٌ فيها بحروفٍ كبيرةٍ سوداء: المقابر، فدخل، كانت شواهد القبور مائلةٌ بشدة، وقد علا صلبانها الصدأ، وذبلت النباتات التي زرعت حول القبور
-لا أحد يزور تلك المقابر
قال لنفسه، وهو يجول ببصره في المكان
-احترس
انتبه على الصيحة، ونظر باتجاه مصدرها، واكتشف أنه كاد يقع في حفرةٍ صغيرةٍ يتوسطها رجلٌ قوي البنية، مغبر الشعر، والوجه، بيده رفثٌ، يحفر به طبقة الأرض
-عفواً، لم أنتبه
-كدت تدهسني
رد الرجل بغلظةٍ، فاعتذر الموت مدعياً الارتباك
-شكراً أن نبهتني سيدي، أنا غريبٌ عن المدينة، وكما تعلم، فالغريب أعمى و...
-لا بأس
-قاطعه الرجل، وعاد لعمله، صمت الموت قليلاً، ثم سأل:
-قبرٌ صغيرٌ، لفتىً صغير
-أجل
رد الرجل، دون أن يتوقف عن مواصلة الحفر، ثم استوى واقفاً فجأةً، وقبض على ظهره بكلتا يديه، وتأوه قائلاً:
-أتعلم ما هو أسوأ شئٍ في الدنيا، بعد أن تكون حانوتياً؟
هز الموت رأسه مستفهماً، واستطرد الرجل:
-هو أن تكون حفار قبور
ومد يده في جيبه، مخرجاً نصف لفافة تبغٍ، أشعلها وهو يقول:
-وأنا الاثنان معاً
أطلق ضحكةً لا تناسب هيبة المكان، وجلال ما يفعله، وقال:
-الموت حادثٌ حزين، أليس كذلك؟ لكنه لا يجب أن يكون كذلك لك إذا أردت أن تكون حانوتياً! تدري
والتفت بكله للموت:
-لولا موت هذا الولد الصغير -وأشار للحفرة- لدخلت أنا السجن، وتشردت أسرتي! أدين لصاحب الحانة بعشرين قطعةٍ من الفضة، وقد مضيت على صكٍ بقيمة المبلغ، واجب الدفع اليوم، مع خمس قطعٍ أخرى، كفوائد، وعدني الرجل الغني بدفعها لي إن تمكنت من تجهيز ابنه، ليبدو وجهه طبيعيا خاليا من الحفر، وآثار الجدري، أثناء مراسم إلقاء النظرة الأخيرة على الجثمان! وافقت بالطبع، فليس أمامي خيارٌ آخر، حتى لو اضطررت إلى اقتطاع اجزاء من جلدي، لترقيع وجه الولد القبيح
ألقى ما تبقى من السيجارة، ثم عاد لعمله، دون حتى أن ينظر للموت، الذي أطرق قليلاً، ثم ذهب، أمام المقابر، كان ثمة أمرأة جميلة الوجه، تبيع الزهور، كانت ترتدي ثوباً رقيقاً رغم برودة الطقس، فاقترب منها
-مرحباً
قال، فابتسمت، ومدت له وردةً بيضاء، عطرة الرائحة
-بكم؟
سأل، فاتسعت ابتسامتها، وقالت
-هي هديةٌ لك
شكرها الموت، فسألته:
-أنت غريبٌ عن هنا، أليس كذلك
-نعم
أجاب، فردت
-مرحباً بك، أتيت في يوم سعد، فاختر وردةً اخرى إن أردت بلا مقابل
-يوم سعد؟ كيف؟
تساءل الموت، فردت:
-أنا بائعة ورد، أبيعه للعشاق، ولزائري المقابر، وكنت أربح الكثير من المال، بيد أن الناس توقفوا عن العشق منذ زمنٍ بعيدٍ ، وعن تذكر من رحل فكسدت تجارتي، اليوم سيموت ابن سيد المدينة، سيحضر جنازته الكثير من الأثرياء، من هنا، و من المدن المجاورة، وسيشترون الكثير من الزهور بالطبع، لينثروها على القبر، وسأتمكن أنا من دفع إيجار غرفتي المتأخر، قبل أن يرمي بي صاحبها إلى الشارع، ألم أقل لك أنه يوم سعد؟
ابتسم الموت، وهو يضع الوردة على الطاولة أمام البائعة، وقال:
-ستحتاجين تلك الوردة، أكثر مني
ثم دار قاطعاً الطريق، إلى كنيسةٍ صغيرةٍ، مشرعة الأبواب، فدخل، جال ببصره بين أرجائها، ثم تقدم ناحية المذبح، حيث كان كاهنٌ برداءٍ أبيض مهيب، مستغرقٌ في صلاةٍ خاشعةٍ أمام تمثال يسوع المسيح، المصلوب، لدقائق ظل الكاهن على حالته، قبل أن يرفع رأسه، راسماً علامة الصليب في الهواء
-آمين
قال، ثم نظر للموت:
-مرحباً بك
حياه مبتسماً، فقال الموت:
-أهلاً بك يا أبتِ، أنا غريبٌ، و
-كلنا غرباء
-قاطعه الكاهن
-كما أننا جميعاً عيال الرب
-أجل
رد الموت، وهو يستنشق البخور الكثيف، الذي عبق المكان وسأل:
-هل ثمة احتفالٌ ما اليوم؟
-احتفال؟ ممممممم لست أدري، اعتبره احتفالاً
ثم تناول المبخرة، ودار بها دورتين في الهواء، ثم قال:
-اليوم ستستقبل الكنيسة جثمان ابن سيد المدينة، مضى وقتٌ طويل على آخر مرةٍ رأيت فيها تلك القاعة تغص بالمؤمنين، مع الوقت، قل عدد مرتادي الكنيسة حتى اقتصر على قداسات الأحد التي لا يحضرها سوى قلةٍ من العجائز، اليوم سيحضر كل أهل المدينة، والمدن المجاورة، أعددت موعظةً أثق في أنها سترجع الجميع إلى صوابهم، ربما كان موت هذا الصغير هو طوق نجاة الرب لأبنائه، لينقذهم من الغرق
صمت قليلاً ثم قال:
-هل تريد أن أباركك؟ هل لديك اعتراف ما؟
ابتسم الموت ولم يجب، فقال الكاهن:
-الرب رحيم، وهو يغفر كل الخطايا، ماعدا القتل، مادمت لم تزهق روحاً بريئة، فأنت في أمان
-بالتأكيد يا أبت
أجاب الموت
-بكل تأكيد
فيما بعد، عندما كان يتوجب على الموت أن يقبض روح الولد الصغير، محتفظاً بها في جرابٍ معطرٍ من حريرٍ أبيض، ومخترقاً بها السماوات، إلى الملكوت، كان يجاهد ليبدوا سعيداً، بعد أن برأ ساحته الجميع، أرهف السمع لموسيقى ملائكية، تتردد بين جنبات الملكوت اللامتناهي الاتساع، فابتسم، غير أن قبضةً باردةً اعتصرت قلبه، و أصابته بغصةٍ، اجبرته على البكاء..


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى