صديقة علي - فجرُ الطّين.. قصة قصيرة

لن أستنجدَ بأحد، سيقولون إنّني خرَّفتُ وسيخبرون أولادي، وهؤلاء لن يرحموني من عتابهم القاسي. ابني الكبير، بحجّة عطفه عليّ، سيجد مبرراً لسوْقي معه إلى المدينة، وأنا أمقتُ السكنَ هناك بعيداً عن أرضي وبيتي، بيتي! كيف لي أن أستدِلَّ عليه في هذا الظّلام الدّامس... أستحقُّ ما أنا فيه، ما لي ومواعيد الرّي الظّالمة، دائماً يفوتُنا ريُّ الغِراس؛ لأنّهم يُخَصِّصون لقريتنا ريّاً ليلياً، وولدي لن يحضرَ كعادته، أردْتُ أن أُفرِحَهُ بما سيدهشُه، قرَّرْتُ أن أتحدّى سنواتي الثمانين، أتَّكِئُ على عصايَ؛ لأسقيَ الغِراسَ المجاورةَ لبيتي.
(قلب رأسي) بهذه الظُّلمة اللعينة، فقدت الإحساس بالاتِّجاهات، بتُّ أُشرِّقُ وأنا مقتنعةٌ أنّني بطريقي الصحيحِ غرباً، عُدْتُ أبحثُ بنظريَ الضعيفِ عن بصيصِ ضوء، يا لسخرية القدر! فقد تُهْتُ بأرضٍ ألِفتُ ذرّاتِ تُرابها ذرّةً ذرّة. أغدو وأجيءُ مرّاتٍ ومرّات، أتتبعُ رائحةَ الأرض، للأسفِ ليس لأشجارِنا رائحةٌ، بل أنفي شاخَ ولم يعدْ يميِّزُ حتّى رائحةَ النّعناع، إذن لأُصْغيَ للماء قليلاً، الليلُ باردٌ وقاسٍ، لكنّه هادئٌ، قد يساعدُني على سماعِ تدفّق الماء الذي يُثلجُ صدري، نسيتُ أنّي فقدّتُ الكثير من سمعي، ألا يكفيني ما سمعته طوالَ عمري، بقيَ أن أتلمَّسَ الطين، يدايَ ستعرفان كيف تُسْبرُ دروب الطّين، حيث انفلت منّي الخُرطومُ الوقحُ... كاد أن يرميني أرضاً، أسندُ ظهري المحني إلى صخرةٍ... صخرة... قضيتُ عمري وأنا أنقِّي أرضي من الصّخر، إذاً أنا لستُ بأرضي، فأرضي كقطعةِ إسفنج، سهلةٌ ليِّنةٌ... كنتُ أقولُ لأولادي افترشوها، هيَ أحنُّ عليكم من أَسِرَّتِكُم، سقى اللهُ تلك الأيامَ. أُقْسِمَ يميناً معظّماً ألّا أبيتَ تلك الليلةَ ببيتِهِ، كما أسمَاهُ.
ـ اخْرُجي من هنا أيّتُها الغبيّة، أهلُكِ أولى بغبائك، وكان ذلك عقاباً لي؛ لأنّني أضعتُ المِجرفة. توسَّلتُ إليه أن يسمحَ لي باصطحاب ابني الرّضيع، لكنّه أبى، فالغضبُ كان قد أودى بعقله. جررتُ خيبتي، وانكساري، وتركتُ قلبي مع ولدي، هممتُ بالنُّزولِ بدربٍ يوصِّلُني إلى أهلي، بكاءُ صغيري أعادني لأدورَ حول صوته. يحاولُ إسكاتَهُ، يروحُ ويجيءُ به، وأنا أُراقبُهُ من طاقةٍ صغيرة، يقرِّبُهُ من مصباحِ (الكَاز)؛ كي يلهيَهُ عن جوعه بمراقبة لسان اللّهبِ. يمتدُّ خيالُه على الحائط كماردٍ كبير، قلبي ينعصرُ ألما عليهما، ولم يعدْ يحتملُ... مددتُ يدي من الطّاقة، وصرختُ صرخةً أسكتتْهُ وأجفلتُ زوجي:
ـ ناولْني إيَّاهُ أرضعُه ثم خذه.
ـ أنت هنا! لِمَ لَمْ تذهبي لأهلك؟
ـ خشيتُ أن يتناولوك بسوءٍ، إذا علِموا أنّك طردْتَني ليلاً.
ـ أصيلةٌ، تعالَيْ اُدْخُلي.
ـ ما عاذَ الله أن أكسرَ لك يميناً، هاتِ الولدَ أُرْضِعْهُ وأبيتُ ليلتي هنا...
أذكرُ يومها، بكى زوجي بشدَّةٍ، كان طيَّباً، سريعَ الغضب، دموعُهُ عزيزة. يومها تسامرْنا حتّى الفجر، وكانت نسائمه محمّلةً بحبٍّ وحنان لم ينقطع. لستُ خَرِفةً الآن، ها أنا أذكرُ كلَّ هذه التفاصيل، لكن توَّهَني الظّلام، وقتها فعل ضوءُ القمر فعله، ورأيت ما أحببت بعيونِ زوجي، لكن لا قمرَ ولا ضوءَ الآن، ولا عيونَ تعتذرُ، التَّيَّارُ الكهربائيّ مقطوعٌ، وكلُّ الأواصر مقطوعة، وقد لا يأتي ولدي. بزغتْ خيوط الفجر، فبانت أخيلةُ الأشجار من حولي، هذه غرسَها زوجي، وهذه غرستُها بيديّ، والفتيَّةُ لابني، أظنُّها ارتوتْ، ها قدِ استوت بوْصَلَتي لكن ضاع عُكَّازي؛ فرحتُ أحبو، جفَّ حلقي، شعرتُ بالإنهاك وبألمٍ شديدٍ في قلبي، إذْ غاصت قدمايَ ويدايَ بالطِّين، أسلمتُ رأسي للوحل، آخرُ ما لمحتُهُ كان الدَّرَجَ الموصِّلَ إلى باحةِ البيت، كان قريباً جدّاً؛ لكنّني انغرستُ وعليَّ أن أنتظرَ إلى أن تجِفَّ الأرضُ، وما زلتُ أنتظر ُ شمساً ويداً تقتلعُني.

صديقة علي... من سوريا


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى