د. سيد شعبان - تميمة جدي!

أورثني عباءته ومحراثه، بدا لي أن أرتدي جلبابه، حين طالعت وجهي في المرآة بلغت بي الدهشة منتهاها؛ كأنما انفلقت الحبة وأخرجت نبتتها، غير أن أشياء تنقصني:
جلده وعزيمته، تلك التجاعيد التي كانت تملأ وجهه، ثمة تحاليل تجرى عن الحامض النووي؛ تلك البصمة تعوز ساكن البيت الأبيض، نمت إلى أذنه شائعة أنني امتلك شفرة آبار النفط ومناجم الياقوت الأحمر!
الوشاة في كفرنا عدد الحصى، أسال نفسي: في زمن الوجبات السريعة ما جدوى العباءة والعصا، هل ثمة نفع لتلك السلالة الطاهرة؟
تسللت إلى حجرة الخزانة العتيقة، فيها الأوراق الصفراء والمناديل والثياب. ثمة ورقة مطوية في غير اكتراث، بها آثار قضم الجرذان.
فتحتها فإذا سطور يوصي فيها بأن أحرث الأرض فجر الجمعة اليتيمة، مسرعا أمسكت بالثورين الهلالين، كذا كان يفعل جدي.
حين لامس سن المحراث خد الأرض الشراقي، انشقت عن بقرة من ذهب صفراء فاقع لونها.
أجراس تصلصل، جموع تمسك بكتاب به تعاويذ وأشكال غريبة، مفتاح عتيق، صوت فيروز يهدر يجواري!
أوقفت الثورين الهلاليين بل فككت وثاقهما، خلعت ثوبي ومن ثم دسست تلك التميمة التي بحجم الكف!
تعددت ظنوني؛ هل ثمة مكيدة دبرها لي ملك الجن الأحمر؟
ربما!
على غير توقع أمطرت السماء، عراك الرعد والبرق ينذر بحرب كونية، تهب ريح لم تشهدها الدنيا من قبل.
أجري والتميمة في حجري، يتبعني كلب أسود يثير نباحه جلبة، تموء القطة العمياء التي تسكن تلة جادو منذ سنين؛ يجاورها ديك تساقط ريشه، يقهقه الجداوي في سخرية، أسمع همهمته: لقد وقع في الفخ!
تقطر دما تفوح منه رائحة تثير النسوة في كفرنا الذي غفى في غيابة النوم.
يتوكأ رجل يرتدي عمامة خضراء تتدلى منها ذوابة بيضاء على عصاه، وجهه ينير كالبدر ليلة التمام، يشير بسبابته جهة السماء، ترتعد أوصالي، تنتابني حالة من جنون، أتراقص كالمجذوب تسيل من فمي رغوة قانية، أتطوح يمينا وشمالا، يردد الدراويش خلفي: مدد يا ولي الله!
أسبح في ملكوت علوي، يطير بي طائر أبيض!
حين وصلت بلاد تركب الأفيال قرب نهر السند وجدت تمثالا من ذهب لشخص يجلس منتظرا رغيف خبز.
لم أخبركم أن البومة العجوز سافرت معي غير أنها لم تمتط البساط الأخضر.
انطلقت صافرة القطار الذي جاؤوا به من بلاد نسوتها شقراوت.
فزعت البومة، لم أعد أجد سلما أصعد به إلى حيث تركت البساط فوق شجرة عملاقة.
عباءة جدي سرحت فيها الجرذان ومن ثم بدت الكف التي قطرت دما أكبر من ذي قبل.
فجأة سرقت البومة العجوز تلك التميمة مسرعة بها حيث البيت العتيق؛ ساعتها تحولت عباءة جدي إلى خريطة تتسع كل يوم لتسكنها فراخ البومة العجوز.
يزحف الشعر الأبيض، تغزو التجاعيد وجهي أبدو شبيها بجدي غير أن المفتاح ما عاد يدور في مزلاج الباب!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى