أمل الكردفاني- الأرض الجرداء- مسرحية من فصل واحد

المسرح: أرض جرداء قاحلة ومستوية..يوجد مجرفة وقليل من الطوب والأسمنت أقرب إلى وسط المسرح من اليسار الأوسط.. هناك رجل يقترب من الستين وشاب في بداية العشرين..الرجل هو المقاول، والشاب متدرب مبتدئ.

المقاول: (يخطو عشر خطوات) هة.. هكذا.. هكذا.. أرأيت.. هكذا تقيس المسافة المطلوبة للبناء.. هكذا علمني أبي وهكذا تتعلم أنت..
المتدرب: ولكن يا سيدي..
المقاول: (يصرخ باهتياج) ولكن ماذا.. وهل هذا أيضاً فيه لكن؟..
المتدرب: كل ما أقصده..
المقاول: يا بُني..يا حبيبي.. أرجوك..عندما تتعلم كن صامتاً..الطالب كثير النقد يفشل.. تعلم بعينيك وبدون أسئلة.. هكذا.. أنظر (يعود بعشر خطوات وهو يحسب) عش ..ش..ش..ش..رة.. أفهمت..هل هذا صعب..
المتدرب: لا..
المقاول: بعدها تبدأ في حفر الأساس.. بعدها نربط السيخ ليتمدد رأساً، نقيم الشبك..نصب الخرسانة.. الخ.. لقد رأيتَ كل شيء من قبل..
المتدرب: ماذا لو كانت خطواتي أكبر أو أصغر من خطواتك؟..
المقاول: يا إلهي.. ما هذه الأسئلة الغبية..أرجوك تعلم وأنت صامت.. كان والدي لا ينبس ببنت شفة وكنت أنا بدوري لا أنبس ببنت شفة.. الآن ها أنت تراني..أكبر مقاول بناء في المدينة..هل هناك من هو أكبر مني؟
المتدرب: (يتردد)..
المقاول: لماذا أنت صامت (يصرخ) هل تعتقد بأن هناك مقاول أكبر مني في المدينة
المتدرب: (يتردد)
المقاول: (يرمق الشاب بنظرة مؤنبة)..
المتدرب: كل ما في الأمر أنني لا أعرف أحداً غيرك..
المقاول: (بصوت سريع) اسمع يا فتى ربما أنت تصلح محامياً وليس مقاولاً فالأسئلة توجه للشهود في المحكمة بكثرة وأغلبها أسئلة لا تقل غباء عن أسئلتك.. الآن عليك أن تحدد موقفك..هل تريد أن تصبح مقاولاً أم محامياً.. أنا أعرف ضغوط الآباء على الأبناء وبما أنك فشلت في الدراسة فوالدك -وهو رجل محترم- قرر تعليمك مهنة محترمة ولكنك لا تريد..أليس كذلك؟ هة؟ لا تريد احتراف المقاولة؟..
المتدرب: (يكاد يبكي) أقسم لك..
المقاول: لا تبكِ الآن وحاول أن تجيب بحسب ما يجيش بداخلك من مشاعر صادقة..
المتدرب: أريد أن أكون عازف أورغ..
المقاول: ولماذا لم تخبر والدك بذلك؟ هة.. هل تخاف منه؟..
المتدرب: (بانكسار) نعم..
المقاول: (يحدق إلى البعيد).. هذه مشكلة.. إن شخصيتك ضعيفة.. يبدو أنه قاسٍ معك.. إن بناء شخصية الطفل أصعب من بناء قصر..كان والدي قاسياً لكننا امتلكنا الوعي اللازم لندرك أنه كان يعمل لصالحنا.. كان قاسياً من أجلنا.. ونحن أيضاً لم نكن نعيش حياة سهلة..حياة الدعة التي تعيشها أنت وتجعلك تفكر بمثل هذه الرومانسية...أنت ربما لن تنجح حتى لو حاولت تعلم العزف على الموسيقى..هل تعرف لماذا..لأنك متضرر داخلياً.. أنت محطم الروح بحيث لم تعد تملك إرادة الجرأة لاتخاذ قرارات تتحمل مسؤوليتها وحدك.. لستُ واعظاً ولا محللاً نفسياً لقد تعودت أن أقول ما في خاطري فحسب..
(صمت)..
المقاول: سأمنحك فرصة أخرى.. أسبوعاً آخر في التدرب لعلك تحب المهنة.. إنها تدر مالاً..أعرف أعرف أنك تعتقد -وأنت في هذه السن- أنك لا تحتاج للمال وأن المال لا يعني لك شيئاً وأن الحب والغرام..الخ الخ وغيره من هراء الشباب هذا..لكن صدقني يا بُني إنك مخطئ تماماً ولن تعرف هذا الخطأ إلا بعد عمر طويل..
(يسقط المتدرب على الأرض ميتاً)..
(ينحني المقاول ويضع أصابعه على ودج الشاب)
المقاول: لقد مات..
(حيرة تلف المقاول الواقف وقد أدخل كفيه داخل جيبي بنطاله)..والآن .. ما العمل؟
(يخرج هاتفه من جيبه) لا لا.. عليَّ أن لا أتعجل إخبار والده..(يدخل الهاتف في جيبه ويزرع المساحة الترابية الفارغة جيئة وذهابا)..يبدو أن الفتى كان حساساً جداً رغم أن كلماتي لم تكن قاسية إلى هذا الحد.. هل أخطأت؟.. (يفكر) لا أعتقد..
(يبدأ في جر المتدرب ويخرج به من يمين المسرح، ثم يعود بعد برهة حاملاً مجرفة على كتفه).
المقاول: هذا أفضل.. سيختفي الغلام هكذا فجأة في هذه الأرض القاحلة، لقد علَّمت قبره بسحابة في السماء (يقهقه).. هكذا يحدث لنا جميعا في لحظة من لحظات الزمن المتدفق..تضيع قبورنا بشكل أو بآخر.. (يقرفص على الأرض)..
(يمر راعي وهو يهش خروفاً نحيلاً)
الراعي: سلام..
المقاول:(يتجنب النظر إلى الراعي).
الراعي: قلتُ سلام..
المقاول: (يشيح بوجهه بعيداً)
الراعي: حسنٌ.. لماذا قتلته؟
المقاول: (يصاب بالذعر) لم أقتله..
الراعي: رأيتك تقتله..
المقاول: كاذب.. أيها الكاذب.. اذهب من هنا.. هيا..
الراعي: إنك متعجرف..
المقاول: قلت لك اذهب من هنا..هذه أرض حكومية.. هيا..هيا..
الراعي: حكومية؟.. وهذا يعني أنها ليست ملكك..ثم أنها غير مسورة..ولكي تطردني من أرض غير مسورة يجب أن تمتلك حكماً من المحكمة يثبت حيازتك لهذه الأرض..
المقاول: أسكت أيها الجاهل..
الراعي: لن تفهم في أمور الأرض كما يفهمها المزارعون..
المقاول: ولكنك راعٍ..
الراعي: كنت مزارعاً..بعت الأرض واشتريت هذي الخراف بثمنها..
المقاول: (بدهشة) أي خراف..إنه خروف واحد هزيل؟!
الراعي: مات الكثير منها..وبعت بعضها..تبقى هذا الصديق الأخير وسأرتحل به إلى الدولة الغربية..
المقاول: هل ستسير معه حتى الدولة الغربية؟
الراعي: نعم..تحكمني طبيعة عملي كما تحكمك طبيعة عملك..
المقاول: (باستنكار) ولكنه خروف واحد.
الراعي: ولو...سؤدي عملي حتى لا أندم على ما لم أفعله..
المقاول: حسن..
الراعي: سيبدأ الخريف بعد أسبوعين..هكذا تقول السماء..
المقاول: (يصمت)..
الراعي: (يقرفص)..
(صمت)..
المقاول: من الجيد أنك متحرك هكذا بلا تخطيط..
الراعي: التخطيط تنبؤ بالمستقبل لا قيمة له.. وإذا كان ولا بد عليك أن تخطط فلا تخطط مساء..أترك التخطيط لحضور الشمس إذا هنا يكون التخطيط أقل رومانسية..
المقاول: ها أنت ترى هذا القفر البلقع، بحسب تخطيط الحكومة ستكون عاصمة تجارية، وأنا أعلم أنه لن تكون هناك أي عاصمة تجارية فالمسألة كلها لا تعدو أن تكون فتح باب للفساد.. مع ذلك فقد حاولت انجاز ما هو مطلوب مني باعتباري أكبر مقاول في المدينة.. لا أعرف كيف شكك ذلك الوغد في هذه الحقيقة.. لكن..وبالمناسبة.. نعم.. سأتصل بوالده..
الراعي: إنك لن تفعل ذلك..
المقاول: لماذا؟
الراعي: سيطلبون الجثة..
المقاول: فليستخرجونها..
الراعي: سيتهمونك..
المقاول: هناك مشرحة.. لا أملك الوقت الكافي للتعامل مع الجثث في هذه الصحراء..إن أقرب دورية حكومية تبعد عنا تسعمائة كيلو من وسط المدينة..هذا يعني أنه كان علي أن ابحث عن ثلج لتبقى الجثة نضرة ولا تتعفن..ما كنت لأغامر بتركها في قلب الصحراء لتتعفن.. كما لا أملك وسيلة ترحيلها إلى المدينة.. لذلك فما فعلته كان لصالح العمل..وهذا لا شك فيه..
الراعي: سأغادر ولا أعرف إن كان عليَّ إبلاغ الشرطة بما حدث أم لا..
المقاول: دعك من هذا الأمر.. سأتصل بوالده..
الراعي: لن تفعل...
المقاول: ولم لا؟
الراعي: سأقتلك إن فعلت...
المقاول: وما علاقتك بالموضوع..
الراعي: سأغادر الآن..
(يخرح من يسار المسرح)..
المقاول: (بحنق) راعٍ غريب حقاً.. رعاة الصحراء غريبو الأطوار دائماً..ويحبون المشاجرات لأن حياتهم مثل حياة ذلك الغلام..من السيئ أنني لم أقتله..
(صمت؛ يتأمل أثناءه القفر)
المقاول: هل يمكن إعمار هذا البلقع؟ ؛ هذا الإمتداد الشاسع من القفر اليباب..إنني مقاول لي خبرة طويلة في هذا العمل، ولكن لم توكل لي مهمة بكل هذا الإتساع..والأغرب أن الحكومة لم تجهِّز مهندساً لذلك.. طلبوا مني أن أفعل كل شيء وأودعوا في حسابي ثلث المبلغ بدون طلب أي ضمانات..هل يريدون توريطي في شيء ما، ربماء يكون أعدائي ومعهم من يحسدونني من المقاولين وقد تواطؤوا مع بعض المسؤولين..ولكن لا.. هذا مستبعد جداً.. في هذا القفر مات الشاب ويموت كل شيء دون أن يهتم أحد.. إذ انه يبدو كما لو كان مكاناً خُصص للموت.. كيف سأطعم العمال وأين سيسكنون.. إن الحكومة لم تجهز أي شيء..لقد وضعتُ خطة لذلك ولكن هذا لا يكفي إذ لا بد من مساعدة.. كمقاول كبير بدأت أطرح أسئلة حمقاء كأسئلة ذلك الشاب المدلل.. عندما كنت في مثل عمره لم أكن أطرح أي أسئلة.. كنت أعمل فقط..أعمل كالحمار..أتعلم من أخطائي..أخطائي التي كان بإمكاني عدم الوقوع فيها لو سألت..لكنني كنت مصراً على أن لا أضع ذراعي حول كتفي أحد.. غير أنني وُضعت الآن أمام إختبار صعب..فهذه الأرض أوسع بكثير من قدراتي كلها.. إنها عمل يحتاج لألف شركة مجتمعة وليست عمل شخص واحد.. لذلك لا بد أن أسأل.. ولكن أسأل من؟ لا أعرف شخص يمكنني أن أسأله.. سيضحكون عليَّ إن فعلت.. ولكن.. فلأفعل مثل الشاب..كان الشاب شجاعاً حين كان يسأل..نعم..لقد أخطأتُ في حقه بالفعل.. من الشجاعة أن تسأل وأن تحيط نفسك بالآخرين وتجاربهم..أليس كذلك؟ لا أعرف.. سأتصل بذلك الكلب.. رغم أنه ينافسني بشدة لكنني لا أمانع في أن يشاركني في هذا العمل إن قبل.. سأتصل به...
(يخرج هاتفه)
المقاول: ألو؟
صوت: ألو..
المقاول: آه عزيزي ..ألم تتعرف على صوتي؟
صوت: (ببرود) بل تعرفت..
المقاول: آه حسن..إلى اللقاء..
صوت: (بسرعة) لم أقصد شيئاً..
المقاول: (يغلق الهاتف)
المقاول: سخيف.. وأنا أسخف منه.. منذ أن ولدت وأنا ألتقي بأنماط متعددة من الشخصيات..مثل هذا الأبله.. وآخرين أمثاله من السخفاء..والتقيت بطيبين..(بسرعة) ولكن ليس كثيراً..(بنبرة عادية) إلتقيت بأشخاص باردين..بلصوص..بمن يعتقدون أنفسهم أذكياء.. بمترددين وقلقين ومتوترين..بأصحاب عقول راجحة..بمجانين أيضاً..يمكنني أن أستمر إلى ما لا نهاية لو بدأت في تفصيل كل شخصية.. مع ذلك فهذه الأنماط ليست محتكرة لفرد أو فردين..بل كل نمط ألتقيت بعشرات من أمثاله..وهذا هو المدهش.. من خلال فهمنا للنمط يمكننا أن نتوقع سلوكه التالي.. فمثلاً هذا السخيف مجرد رأسمالي قذر.. لقد سفهته كما حاول سفهي.. لذلك أتوقع أن وسواس عقله سيدفعه إلى إعادة الإتصال بي.. سيريد أن يعرف لماذا اتصلت به.. يريد أن يروي ظمأ فضوله ويعرف إن كنت واقعاً في مشكلة فيتندر بها أمام كل من يعرفهم.. أم اتصلت به لأن هناك فرصة ربح لي قد يسرقه مني.. وهذا الإحتمال الثاني سينغص عليه يومه ولن يرتاح حتى يتصل..
(يرن جرس الهاتف فيبتسم المقاول وهو ينظر إلى شاشته)
المقاول: (ببرود) نعم..
صوت: أعتذر لك..لم أكن أقصد شيئاً..فقط كنتُ في اجتماع مع الوزير..
المقاول: (يبعد الهاتف عن أذنه وفمه ويهمس مبتسماً بجزل) كذااااب..(يعود ويرفع الهاتف إلى أذنه ويتحدث بجدية) تعرف أنني كسبت عطاء تشييد العاصمة التجارية.. أليس كذلك..
صوت: لا لم أعرف..
المقاول: (يبعد الهاتف عن أذنه وفمه ويهمس مبتسماً بجزل) كذااااب أيضاً..(يعود ويقرب الهاتف إلى إذنه وفمه) المهم..هذا مشروع ضخم وفيه أرباح بالمليارات.. ولكنني أصدقك القول أن حجمه هذا يحتاج لألف شركة.. تعرف أنني أستطيع أن أسخر كل إمكانيات شركتي لإنجاز العمل لكنني لا أريد الإنكفاء على عمل واحد.. لذلك فكرت في أن تشاركني إن أحببت..
صوت: (صمت)
المقاول: لا بأس..سأبحث عن شريك آخر إن لم تقبل..فالمشروع ضخم ويتحمل كل شراكة راغبة..
صوت: ليس مسألة عدم رغبتي..ولكنك تعلم أن هذا المشروع فوق أرض بلقع.. حتى أن مياهها الجوفية بعيدة جداً عن سطح الأرض.. كما لا يوجد عمران..ولا أعرف كيف اتصلت بي من هناك..
المقاول: هاتفي فضائي..
صوت: حسنٌ.. سأفكر في الأمر .. إلى اللقاء..
المقاول: (يغلق الهاتف)..لقد درسه دراسة جيدة.. في الواقع لقد استخدم عدداً من الشباب الذين تعلموا العلوم الحديثة وخاصة التكنولوجيا.. لقد رفضتُ فعل ذلك..يبدو أنني منذ أن حصلت على هذا المشروع بدأت استرجع كل أخطاء الماضي لأعذب نفسي..
(صمت)
المقاول: لا زال السؤال مطروحاً..كيف سأبني هذه الأرض الجرداء القاحلة.. لقد هرب منها جميع المقاولين..عليَّ أن أعيد قراءة العقد بيني وبين النظام.. نعم..سأسميه نظاماً لأن من الواضح أنه عمد إلى توريط مواطن بريئ صالح مثلي..وهذا ليس من شيم الحكومات..بل من شيم الأنظمة..الأنظمة التي تدير كل الأرض والشعب والسلطة ذات السيادة لمصلحة منظومتها هي وحدها.. سأعتبر نفسي ثورياً مناهضاً للنظام منذ اليوم..
(يتلفت حوله بذعر) من الجيد أنها أرض قاحلة بلا بشر.. وبدون أجهزة تنصت.. سأغفو قليلاً..
(ظلام)
(يُضيئ المسرح عن رجلين يقفان عند رأس المقاول، أحدهما يرتدي عصابة على الرأس هو زعيم قطاع الطرق، وأما الثاني فمساعده، ويحمل كل منهما بندقية آلية)
الزعيم: انهض.. (يركل المقاول ركلة خفيفة على كراسه) قم أيها الصعلوك..
المقاول: (ينكفئ على جنبه ويتحدث وهو يحلم) لماذا لن تقبلي الزواج بي.. أنا... مقاول.. مقاول كبير..
المساعد: (يركل المقاول ركلة أقوى) انهض..ألم تسمع القائد..
المقاول: (يفتح عيناً واحدة ويتثاءب) كم الساعة الآن..(يمدد جسده وذراعيه مرة أخرى) آه.. يبدو أنني غفوت..ورأيتهم كالعادة.. الماضي كله يعود..الأموات والأحياء..
الزعيم: هل أنت أصم؟
المقاول: (يقلب رأسه إلى الخلف) من أنت؟..
الزعيم: أنا القائد..
المقاول: (ينهض بتثاقل ثم يحملق في الرجلين)..قائد ماذا؟
الزعيم: (بتردد) قائد أنا القائد.. ألا تفهم أيها الصعلوك..
المساعد: إصدع لأوامر القائد بلا أسئلة..
المقاول: ولكن أي قائد..ويقود ماذا؟
المساعد: (يشهر السلاح في وجه المقاول) هل تريدني أن أقتله ايها القائد؟
الزعيم: لا.. فلنرَ اولاً ما الذي أتى به إلى مناطقنا..
المقاول: هذه مناطق الحكومة وليست مناطقكم.. ثم من أنتم ولماذا تحملون أسلحة؟
الزعيم: نحن..نحن قطاع طرق..أيجب علينا أن نشرح لك كل شيء لتفهم..هل أنت غبي؟
المساعد: إنه يكثر الأسئلة كالأغبياء أيها القائد..
المقاول: حسنٌ.. والآن ماذا تريد مني؟ ها أنت ترى أنني وسط أرض جرداء ليس فيها حتى ماء ومطلوب مني أن أبنيها كمقاول متعاقد مع الحكومة.. فماذا تريد مني.. إنني لا أملك سوى هاتفي الخلوي هذا وسيارة جيب بها ماء.. هل تريد أخذها لأموت هنا أو تفترسني الحيوانات المتوحشة؟
الزعيم: المطلوب منك أن تغادر منطقتي هذه فوراً..
المقاول: حسنٌ.. في كل الأحوال سيكون ذلك مبرراً كافيا لفسخ العقد..
الزعيم ماذا تقصد؟
المقاول: وجود عصابات قطاع الطرق تعرض حياتي وحيات عُمالي للخطر وهذا الخطر لم يتم كشفه وإدراجه في العقد..مما سيمنحني فرصة طلب فسخ العقد..
الزعيم: ولماذا تريد فسخ العقد؟
المقاول: من المفترض أنك تعلم جيداً بأن هذه الأرض الجرداء يستحيل بناؤها..بل إنني أشك في أنك تجد ضحايا لتقطع طريقهم..
الزعيم: هناك البدو الرحل الذين يعبرون بأبقارهم.. بقرة أو بقرتين تكفياننا لمدة أسبوع..
المقاول: يا إلهي.. كنت أعتقد أنك قاطع طريق محترم..
المساعد: أتشتم القائد أيها الصعلوك؟ سأقتلك..
الزعيم: لا.. أتركه... ماذا تقصد بأنني غير محترم؟
المقاول: كنت أعتقد أنك تنهب أموالاً كثيرة.. أموال تليق بقائد عصابة لقطع الطرق..
الزعيم: (بحزن) ومن الذي سيعبر هذه الارض الجرداء وهو يحمل ذهباً.. إن البقر نفسه نحيل ومريض..إن قرونه أثقل وزناً من باقي جسده السقيم..
المقاول: هذا مؤسف..
الزعيم: ولكنك لو استطعت بناء هذه الارض الجرداء فقد يعبرها الأغنياء..
المقاول: الحكومة غير مهتمة بذلك..لو كانت مهتمة لكلفت شركات عالمية بذلك أو على الأقل قدمت لي معونة كافية لأبدأ..
الزعيم: ولماذاً إذاً تعاقدوا معك منذ البداية؟..
المقاول: وهذا هو السؤال الذي حيرني ولم أجد له إجابة حتى الآن..
الزعيم: يبدو أن لديك أعداء..
المقاول: (تتسع عيناه فجأة) اللعنة.. اللعنة.. اللعنة..
الزعيم: ماذا هناك؟
المقاول: (ينهض وهو يطرقع بأصابع كفه الأيمن) عرفت الآن.. إنه الكلب..الكلب..
الزعيم: أي كلب؟..
المقاول: (يخبط جبهته براحة يده) الكلب المقاول الآخر.. مقاول آخر وهو أحد أقارب وزير الدفاع.. (ينظر إلى الأرض وسبابته على فمه) الآن تذكرت..(يرفع راسه ويدخل يديه في جيبي بنطاله) إنه مشروع ضخم لوزارة الدفاع ويبدو أن المقاول دبر الأمر مع قريبه الوزير لإبعادي من المناقصة عبر مشروع زائف مستحيل التنفيذ.. وبالتالي يضرب عصفورين بحجر واحد.. أولاً يبعدني عن تقديم عطائي وبالتالي تنعدم المنافسة وثانيا يدمر سمعتي بعد فشلي في تنفيذ بناء هذه الأرض الجرداء..
الزعيم: يا إلهي.. إن تفكيركم معقد جداً أنتم أبناء المدن..
المقاول: أكثر مما تتخيل.. إننا في قلب الصراع الإنساني حيث لا رحمة.. والصراع يجبرنا على التفكير العميق والسريع والمعقد.. لا نملك براح هذه الأرض الجرداء.. لا نملك القناعة بنهب بقرتين وذبحهما وأكلهما لننتظر أسابيع أخرى لننهب.. أنتم تشبهون وحوش الغابة التي تكتفي بالصيد الذي يقيم أودها.. أما نحن في المدن فلا.. نحن لا نريد أن نشبع..نحن نريد أن نضمن بأننا لن نجوع أبداً..
الزعيم: يا إلهي.. كم هي قاسية حياتكم..
المقاول: لقد اعتدنا عليها..
(صمت يبدو فيه المقاول وقائد قاطعي الطرق متأثرين بحزن)
المقاول: (يضع كفه على كتف القائد) ولكن لا.. لم تنتهِ الحرب بعد..
الزعيم: ماذا ستفعل؟
المقاول: سأفعل شيئاً مجنوناً.. مجنوناً جداً..
الزعيم: ما هو؟
المقاول: (يحدق في قائد العصابة) إنك تصلح بالفعل لهذه المهمة..
الزعيم: أي مهمة؟
المقاول: انت طويل القامة.. وممشوق القوام.. تبدو زعيم قبيلة محترم.. فقط تحتاج لارتداء بعض الملابس المتميزة..
الزعيم: لم أفهم شيئاً..
المقاول: سأشرح لك..
(ظلام)
(يُضيء المسرح كاشفاً عن خمسة رجال ومعهم المقاول، يرتدي الرجال زياً رسمياً، بدلات سوداء وربطات عنق)
المقاول: هنا.. إنهم يقطنون هنا..
الرجل الحكومي١: أين؟
المقاول: لا أعرف تحديداً يبدو أنهم يعيشون في منازل منحوتة تحت الأرض..
الرجل الحكومي٢: هل أنت متأكد؟
المقاول: كل التأكد..إنها القبيلة التي أسميها بالقبيلة الماسية.. إنهم أصحاب هذه الأرض التي كنت أظنها جرداء.. لكنها في الواقع تخفي تحت تربتها القاسية جبالاً من الماس.. هة!! إنني أرى رجلين من بعيد..
رجل الحكومة٣: أين..إنني لا أرى شيئاً..
المقاول: دقق النظر داخل ذلك السراب المائي..
رجل الحكومة٤: آه نعم.. إنهما رجلان على ما يبدو..
المقاول: إنهم يظهرون فجأة..كنتم محظوظين لأنهم ظهروا في لحظة حضوركم..
رجل الحكومة٥: هذا جيد..فأنا لا أطيق هذه الأرض الجرداء الكئيبة..
المقاول: عليكم أن تكونوا لبقين ولطيفين.لا تحاولوا إثارة خوفهم فهم مستعدون لقتل من يهددهم على الفور.. كونوا مهذبين أرجوكم..
رجل الحكومة١: أنا من سأتحدث إليهم أما أنتم فالتزموا الصمت رجاءً..لا أريد المجازفة بحياتي ولا حياتكم..
المقاول: لم ألتقِ بهذين الرجلين من قبل..
رجل الحكومة٢: أرجو أن يكون زعيم القبيلة قد أخبرهم بشخصيتك..
المقاول: لا أعرف ولكنني أرجو ذلك أيضاً..
(يظهر زعيم قاطعي الطرق ومساعده ولكن بملابس مختلفة، إذ يرتدي كلاهما جلابيب حريرية مزركشة وتتدلى من أعناقهما سلاسل الماس ومن آذانهم أقراط ماسية ضخمة وكذلك يرتدون على سواعدهم أساور مطعمة بالماس)
المقاول: مرحباً..
(يقف الرجلان بعيداً بشك وريبة، فيتقدم المقاول نحوهما وعندما يواجههما يعطيهما ظهره وينحني ماداً مؤخرته إلى الخلف، فيقوم زعيم قاطعي الطرق بفعل نفس الشيء ويلامس بمؤخرته مؤخرة المقاول)
رجل الحكومة٣: (يهمس) يبدو أن هذه طريقة تحيتهم لبعضهم البعض.
رجل الحكومة١: (يهمس بحنق) افعلوا كما فعل المقاول وكما أخبرتكم.. لا تتحدثوا معهم..أنا فقط من سيتكلم..
(يقترب زعيم قاطعي الطرق ومساعده والمقاول من رجال الحكومة؛ فينحني رجال الحكومة ويلامسون مؤخراتهم بمؤخرات الزعيم ومساعده واحداً بعد الآخر).
المقاول: إنه ليس زعيم القبيلة بل أحد أفرادها.
رجل الحكومة٥: (يهمس بدهشة) أحد أفرادها ويرتدي كل هذا الماس؟!!!
رجل الحكومة١: (يهمس بحنق) أصمت..
رجل الحكومة١: مرحباً.. هل يمكننا أن نلتقي بزعيم القبيلة؟
الزعيم: للأسف لقد سافر إلى الدولة المجاورة لحدودنا.. سيعقد صفقة مع شركة من شركات رجال الدماء؟
رجل الحكومة١: رجال الدماء؟!!!
المقاول: (يشرح) يقصد الأوروبيين لأن وجوههم محمرة..لذلك يسمونهم برجال الدماء..
رجل الحكومة١: ما هي هذه الصفقة؟
المقاول: (يوكزه بكتفه ويهمس) لا تسأله هكذا مباشرة ستخيفه؟
رجل الحكومة١: (يهمس) ولكن هذا خطير.. خطير جداً..
المقاول: ( يتنحنح كمن يتدارك الامر) إحم إحم.. أشكركم يا أصدقائي.. ولكن أريد أن أعرف إذا كنتم تثقون في رجال الدم هؤلاء؟
الزعيم: نعم.. فزعيمنا يثق فيهم.. لقد أعطونا قبل اربع سنوات عشرين بقرة..
المقاول: مقابل ماذا؟
مساعد الزعيم: مقابل منحهم بعض صخور الشمس..
رجل الحكومة١: صخور الشمس؟!!
المقاول: (يشرح) يقصد الصخور التي بها الماس.. إنهم يسمونها كذلك..
رجل الحكومة١: (بدهشة وذعر) ماذا؟!! منحتموهم صخور الم..أقصد الشمس مقابل عشرين بقرة فقط؟
الزعيم: (يبدو مندهشاً) ماذا تقصد؟..
مساعد الزعيم: إحذر من هؤلاء الرجال الخمسة يا سيدي..أنا لا أشعر بارتياح معهم..
الزعيم: (بغضب) ولا أنا.. ارحلوا عن أرضنا فوراً.. وإلا قتلناكم.. هيا هيا..
المقاول: نحن آسفون جداً سنرحل فوراً..ولن نعود لإزعاجكم..
(يغادر الزعيم ومساعده المسرح..أما رجل الحكومة الأول فيتسمر في دهشة عارمة)
رجل الحكومة٣: عشرون بقرة فقط مقابل صخور الماس؟ لقد نهب الأوربيون خيرات هذه الأرض..
المقاول: لا.. ليس هذا فحسب بل يعقدون صفقة الآن مع الزعيم.. أن الأوربيين لصوص حقاً..
رجل الحكومة٢: صدقت.. ولن نسمح لهم بذلك..إنها عودة للإمبريالية..
المقاول: لن تستطيع الحكومة فعل شيء...فهذه أرض قبيلة الماس هذه..
رجل الحكومة٢: سنبيدهم لو أضطررنا..
المقاول: منظمات حقوق الإنسان الأوروبية ستجد فرصة لاحتلال هذه المنطقة لو فعلتم ذلك..
رجل الحكومة٥: سنجد حلاً.. المهم أننا عرفنا قيمة هذه الأرض...
المقاول: لدي فكرة جيدة.. أولاً يجب أن تساعدونني في إنجاز العاصمة التجارية بأسرع ما يكون.. سنختارها قريبة من هنا وهكذا ستجد الحكومة فرصة للتمدد داخل هذه الأرض الجرداء.. ولكن من المهم في المرة القادمة أن تجلبوا معكم عشرين ألف رأس من البقر..
(رجل الحكومة١ لا يزال متسمراً من الدهشة)
رجل الحكومة٤: ماذا سنفعل بكل هذا البقر..
المقاول: سنمنحه لزعيم القبيلة بشرط أن يغادر الأرض الجرداء هذه..
رجل الحكومة٥: فكرة ممتازة رغم أن هذه كمية ضخمة من البقر.. سيكفيهم خمسة إلاف رأس..
المقاول: لا بأس.. سأحاول إقناعهم بذلك..
رجل الحكومة: إذاً فلنسرع بالعودة لمناقشة هذه الترتيبات على أعجل ما يكون..
رجل الحكومة٣: هيا..
المقاول: انتظروا دقيقة..
رجل الحكومة: ماذا هناك..
المقاول: هل ترون هذه السحابة في السماء؟
رجل الحكومة٥: أي واحدة تقصد؟
المقاول: أي واحدة..المهم السحابة التي تراها..
رجل الحكومة ٢: حسنٌ.. ماذا بها؟
المقاول: لقد أصيب مساعدي بأزمة قلبية ومات فدفنته في هذه الأرض الجرداء وعلَّمت القبر بهذه السحابة..
رجل الحكومة٣: حسنٌ.. وما المهم في ذلك؟
المقاول: أريدكم أن تخبروا والده بموته وأن تمنح الحكومة روح الفقيد نوط النضال من الطبقة الأولى..
رجل الحكومة٣: حسنٌ.. والآن هيا بنا..
المقاول: يبدو أن رجل الحكومة الأول مصاب بدوره بصدمة عصبية.. ادفعوه ليتحرك..
رجل الحكومة٤: بل سنحمله..
(يرفع رجال الحكومة الأربعة رجل الحكومة١ ويغادرون المسرح يتبعهم المقاول).
(سكون)
(يدخل زعيم قاطعي الطرق ومساعده)
الزعيم: يا إلهي.. لقد منحونا سبعة آلاف بقرة..لقد أصبحنا أغنياء بفضل ذلك المقاول العبقري..
المساعد: حقاً.. والآن سيتعين علينا أن نتحول إلى رعاة رحل..
الزعيم: سنربي الأبقار في أرض خصبة ..
المساعد: الغريب أن الحكومة لم تنشئ العاصمة التجارية بعد كل ما دفعوه لنا..
الزعيم: لقد اكتفوا ببناء نصب تذكاري لشاب مات هنا..
(يدخل الراعي بدون خروفه)
الراعي: مرحباً..
الزعيم: أهلاً..
الراعي: أرى قطيع أبقار ضخم قادم من الأفق..
الزعيم: (يبتسم بفخر وعيناه نصف مغمضتين) إنه ملكنا..
الراعي: هذا جيد..وليس جيداً في نفس الوقت..
الزعيم: هيه أيها الرجل.. لا نريد حديثاً متشائماً..
الراعي: ليس متشائماً.. لكن التراب الذي تثيره أبقاركم يحجب عني رؤية السماء..
المساعد: وماذا تريد في السماء؟
الراعي: هذا موضوع شائك.. ولكنني أبحث عن سحابة..
الزعيم: ماذا؟
الراعي: قلت لكم بأنه موضوع شائك ولن تفهماه..
المساعد: ولا نريد أن نفهمه (يهمس للزعيم) يبدو أنه مجنون..
الزعيم: (يهمس) إذاً فلنغادر بصمت..
(يخرجان من المسرح)
الراعي: (ينظر إلى السماء).. ها هي السحابة.. لكن النصب التذكاري ليس تحتها..يبدو أنهم أخطأوا المكان..
(يجثوا على الأرض)
الراعي: سأحفر هنا.. هنا بالتحديد..
(يبدأ الحفر)..
(يظلم المسرح)
(يضيئ المسرح بعد فترة قصيرة، ليكشف عن النصف العلوي لجسد الراعي وهو يبرز من الحفرة)
الراعي: ليست هنا... لقد ضاعت جثة الفتى.. ضاعت إلى الأبد..( ينظر أسفله) ولكن.. ما هذه؟ (ينحني فيختفي جسده ثم يعود حاملاً ماسة).. لقد أصبت..فهذا هو المكان بالفعل.. وهذا هو قلب الفتى.. القلب الذي تحول إلى ماسة نابضة بالحب وبالحيرة..
(ينحني مرة أخرى) سأعود وأدفنها في مكانها، سأسكب عليها بعض الماء.. وبعد سنوات قليلة.. ستمتد جذور الماسة تحت هذه الأرض الجرداء.. سترق الارض وتصبح خصبة.. ستنموا بعض الحشائش الخضراء، ثم تهطل الأمطار.. ستتحول هذه الأرض الجرداء إلى وادٍ شاسع من الخضرة..وسيؤمه العديد من البشر.. الذين سيتصارعون بعدها على ثروات هذه الأرض.. سيتقاتلون لمئات السنين.. وستغوص الدماء في الأرض.. وتشرب جذور الماسة من تلك الدماء.. فتصاب بالوهن، وحينها ستموت الأرض من جديد وتعود قاحلة جرداء كما كانت.. وسأعود أنا لأبحث عن مختار جديد ليحييها بقلبه المحب الحائر.. إن مهمتي لن تنتهي أبداً.. مهمتي شاقة ومتعبة ومؤلمة.. لكنها قدري في نهاية الأمر..
(ظلام، وستار)
(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى