أمل الكردفاني- دجاجة واحدة لا تكفي- قصة قصيرة

اليوم حلقت لحيتي، وكذلك شاربي، صنفرت جلد الوجه، ارتديت قميصاً قصير الأكمام أصفراً مزركشاً بالورود الحمراء، وشورتاً قصيراً، حذاء اسبورت ملونا بالبرتقالي والأسود، اشتريته خصيصاً لهذا اليوم، طبعاً تسألني كيف صنفرت وجهي، حسنٌ.. ببساطة وضعت حلة بها ماء على النار ثم عندما غلى الماء قربت وجهي من البخار..وبقطعة مبللة بالماء المثلج وضعتها فوق وجهي بسرعة، إحمر قليلاً حين أحس الجلد بالصدمة.. وهكذا أحسست بأنه اصبح مشدوداً وتراجع عمره لعشرين سنة.
بعدها قدت السيارة ببطء وصوت أغنية صاخبة تكتمها النوافذ المغلقة يصقع أذني، كان من المفترض أن أرتدي نظارة شمسية ولكن هذا محال في الليل..توجهت إلى النايت كلَب.
قال الرجل الذي يبدو قوادا: كابلز يا سيدي؟
سألته: ماذا تعني؟ رد بصبر: لا بد أن يكون معك أنثى؟ قلت: ولكنني هنا خصيصا لأجذب الأنثيات. لم يضحك بل إزداد سخافة: ولهذا يجب أن يكون معك انثى. قلت بإصرار: من قال ذلك؟ قال: قوانين النايت كلَب. وأمام جموده، كان عليَّ أن أبحث عن أنثى. لقد أصابني ذلك بالضيق، وضاعت صنفرة الجلد تماماً وعادت التجاعيد لتُظهر عمري الحقيقي. اكتآب منتصف العمر سيستمر إن لم أجد أنثى.
- يا فتيات.. هل ترغبن في الدخول؟
وغمزت لشابتين رشيقتين.
قالت أقلهن جمالاً: ستدفع؟
- بالتاكيد..
قالت: وفي الداخل لن تعرفنا ولن نعرفك؟..
قلت: اتفقنا..
عدت ومعي الشابتين؛ وكرجل آلي منحني الرجل القواد التذاكر الثلاث، واختفت الفتاتان في الزحام.
- ها.. ها أنا شاب من جديد.. يا مرحى..
فتيات لم يتجاوزن العشرين، يرتدين ملابس تكشف الكثير من الكنوز.
غمزت لإحداهن، وأنا اخشى أن تناديني ب(ياعمو). إفعليها يا بنت الكلب وسأريك من عمو هذا.
غير أن الفتاة كانت حصيفة، لقد جلست قربي، ليس قربي، بل التصقت بي، وألصقت ثديها الأيمن على كرشي، فكرشي يبدأ من حلقي.
- تشرب؟
همَسَت ورائحة فانيلا تفوح من جسدها، تشبه غلاماً أمرداً جميلاً بشعرها القصير وبشرتها الخلاسية كعسل الأسد الإنجليزي.
- شربنا زجاجتي بيرا، وذهبنا للرقص، أحاطت رقبتي بذراعيها البضتين، ولففت خصرها بذراعيٍَ المكرمشين كالشيبسي. وفاحت الفانيلا مع سخونة خفيفة.
- الأشياء الجيدة تحدث يا ولد..
قلت لنفسي..
وبعد وصلة رقص رومانسي، تحولت الموسيقى إلى إيقاع سريع، ولو كابرت على الحقيقة وحاولت الرقص فسأعاني لأشهر من ورم المفاصل. لذلك دعوتها مرة اخرى للشراب.
يبدو أن هناك قانون بين الفتيات، وهي أن ترضي الزبون من ناحية وأن لا تتدخل في زبائن الأخريات. إنها تحتكرك كزوجتك، وهذا سيئ فالنايت كلَب به فتيات متنوعات. لكن لا بأس فهذه أول مرة أجرب فيها، ولا بد من خسائر المبتدئين.
اعتصرني البول، فتركتها وذهبت للحمام مفرغاً مثانة تغطي باقي المشهد. "آه.." اللعنة من هذه المشروبات التي تزيد حاجتك للتبول كل عشرين دقيقة.
عدت وكانت لا تزال في انتظاري، تنتظرني بابتسامة تبدو صادقة. من الجيد أن هناك من يشعر بأنك صيده الثمين. تحسست جيبي خوفاً من أن تنشلني.. "أيها الأبله..عليك أن تتوقف عن التفكير بطريقة العجائز هذه وأطلق العنان للطيش كالشباب". ماذا لو نشلتني..وأنا أتلقى كل هذا الحنان والدفء. لقد قضيت دهراً وأنا أقاتل بشراسة من أجل المال. ويكاد العمر يفنى قبل أن أتمتع بما ضاع من أجله.
تشكلت دائرة وسط حلبة الرقص، وبدأت الفتيات يرقصن الريكي بهز مؤخراتهن متتبعات الإيقاع. "متى تعملت الفتيات كل هذا العهر وهن بهذا السن؟". تسحب الفتاة مؤخرتها من الأرضا وتمسحها في جسد الشاب الواقف خلفها. "اللعنة يا قوم.. هذا جنس صريح". لم نكن في شبابنا نرى مثل هذه الأشياء، كان مجرد الحديث مع فتاة يمثل معجزة. كنا نرى هذه الأشياء في الأفلام الأمريكية. ومع ذلك كانت نادرة حتى في السينما الأمريكية".
- في ماذا تفكر؟..
أحسست براحتها تمسح خدي وأنفاس شفتيها تعبث بأنفي. نظرت إليها وتأملتها.
- كم عمرك؟..
ضحكَت، وفردت أصابع يديها.
- ثمانية عشر؟
هزت رأسها دون أن تفارقها الابتسامة التي تكشف عن صف أسنان بيضاء وعليها خرزة ماسية لامعة.
ضممتها إلى صدري وأنا أضحك..في ماذا أفكر؟ في هذا العالم طبعاً. في فتاة مثلك بلا أسرة بلا مستقبل إلا كعاهرة. قلت لنفسي.
كنت أضحك وأنا اقود السيارة. فالجعة تجعلني اشعر بالنشوة. والليل يتغذى ببرودة خفيفة، الشوارع مسفلتة بعناية والمصابيح مشعة. لقد منحتها كل محفظتي. لم أسحب منها سوى بطاقتي ورخصة القيادة وكرت أحد رجال الأعمال من موردي الحديد الخردة لمصانع السلاح الحكومية.
عندما يمضي الزمن فإنه لا يعود أبداً..يبدو كل تشبث بالماضي مثل لعبة الكلمة الشاذة بين الكلمات المتقاربة.
كانت رائحة الفانيلا في كل جسدي. سأشتريها بلا شك.
قالت سكرتيرتي: إنها عطر أنثوي.
نظرت إليها، تاملتها لأول مرة. كانت تشبه جندي في فيلق منهزم. جافة الروح كنكتة سمجة.
- هل أعطوكِ ميراثك؟
- لا زالوا يماطلون لأنهم الأوصياء على الأولاد..
- لا بأس.. كل شيء سيكون على ما يرام..
اكتفت بهز حاجبيها وكتفيها.
كان الأيقاع يصدح في رأسي. مؤخرات الفتيات الراقصة تظهر لي بين الفينة والأخرى.. عليَّ أن أغير نمط حياتي كلها.. أن أصبح مسؤولاً عن شيء ما.. سأشتري قطة سيامية..أو كلباً.. لا ليس قطة.. ولا كلب.. بل شيئاً يحتاج إلى عناية مستمرة.. سأشتري دجاجة.. نعم دجاجة.. دجاجة واحدة..
كانت الدجاجة بيضاء، ذات عينين مستديرتين لا تفقدان جزعهما أبداً، وضعتها في قفصها، وبدأت في إطعامها.. أنظف القفص كل ثلاثة أيام، وأضع الفيتامينات على الماء والعلف، وكانت تبيض ست بيضات في اليوم. أسميتها الملكة. دجاجة واحدة لا تكفي، يجب أن أزيد العدد.
في الصباح تلقيت نبأ انقلاب عسكري، وقال لي تاجر الخردة بصوت راسخ: " لا شيء سيتغير..لا تخشَ شيئاً".
هؤلاء لا يقولون ما لا يفعلون، كنت أعلم بصراعاتهم الخفية، ويبدو أن طرفاً ما يحاول التغدي بالآخر قبل أن يتعشى الآخر به.
لم أحصل على نمرة الفتاة، قلت وأنا أتأمل القفص: "دجاجة واحدة لا تكفي". فبقبقت الدجاجة وهي تحدق فيَّ بحذر.
- يجب أن تحذر من عاطفة الكِبَر.. عاطفة غالباً ما تكون أشد بربرية من عاطفة الصبيان..أشد عمى من عاطفة المراهقين..وأنت رجل تملك المال.. الكثير من المال.. والكثير من المال مع الكثير من التأجج العاطفي تعني اقتراف الجريمة.. القتل.. وهذا ما لا توده..
قال ظلي ذلك وهو ينعكس على الأرض أمام حوض السباحة، كانت الدجاجة نائمة في حجري. وأنا أملس ريشها بأصابعي المكتنزة، والمحاطة بخواتم الذهب.
- هيا لتنامي أيتها الشقية..
...

- أنظر..
وأزاحت النظارة عن وجهها فرأيت عينها اليسرى متورمة.
- ضربوك؟
- وأخذوا العيال..
- هل قدمتِ بلاغاً للشرطة..
هزت رأسها..
كنت أعرف أن الضعفاء غالباً ما لا يثقون في القانون..ولهم الحق في ذلك.. كل شيء يأتِ من التجربة الإنسانية وليس من فراغ..
قال تاجر الخردة في الهاتف:
- ستتم تسوية سياسية خلال أيام..وسنواصل العمل..
- جيد..
ثم أضاف ساخراً:
- نربيهم كما نربي الدجاج..
وشعرت بارتباك.. هل علم بتربيتي للدجاجة.. أم أن كلامه تصادف فقط مع واقعة تربيتي للدجاجة..؟ هؤلاء لا يقولون شيئاً على سبيل المزاح.. إنهم يحسبون كل كلمة تخرج من أفواههم. لكن..من يمكن أن ينقل لهم أخباري..الخادمة؟ لا.. لا أعتقد. السائق؟.. لقد تخلصت من السائق منذ أكثر من سنة..
...
لم تختلف فتاة اليوم عن سابقتها. أدمنتُ ذلك، غير أنني بت أضع مبلغاً معقولاً في محفظتي. ثم أسحب بطاقتي ورخصة القيادة منها في نهاية السهرة.
كل مرة فتاة برائحة عطر جديد، رائحة الفانيلا، رائحة الشيكولاتة، عطورهن دائماً تميل إلى الإلتصاق بالطبيعة المعروفة، لم يملن أبداً للعطور المركبة. عطر واحد وكأنه يرمز للفتاة. فتاة الفانيلا، فتاة التفاح، فتاة الشيكولاتة، فتاة الكراميل،..الخ. يمكنك أن تطلبها من القواد برائحة عطرها.
-أين فتاة الياسمين؟
فيستدعيها إن لم تكن بأحضان رجل آخر.
إلا تلك الفتاة الجديدة، كانت صبية تقتحم عامها التاسع عشر بصعوبة، قصيرة نحيلة، شقراء، مع شحوب في البشرة وعينين زرقاوين ناعستين. كان من الواضح أنها جديدة في هذا العمل. لم أرها تبتسم، بل لم تك تبدِ أي رد فعل شعوري، تجلس فوق فخذي الأيسر، وتلصق ثديها بكرشي كما تفعل الأخريات، أنفاسها باردة كالثلج. شعرها الأصفر ذو السبيبة السميكة يتموج في بعضه وينسدل ملامساً أذنين محمرتين. ثدياها بحجم اليوسفي، وملابسها رثة. ولما لم تكن ذات رائحة معينة سألتها عن اسمها، فغمغمت بكلمة لم أفهمها. فأطلقت عليها إسم هسيس.
...
يقولون لي بأنني صرت جذاباً، في شركتي تغير كل شيء، ولا أعرف السبب، إن الموظفين أصبحوا أكثر نشاطاً، ويبتسمون باستمرار، ربما لانني تخلصت من ارتداء البدلة وربطة العنق، فتأثروا بحيوية رب العمل.
كان علي أن أجري معاينات لتعيين سكرتيرة جديدة، بعد أن تخلت القديمة عن العمل. اقترح مدير الموارد البشرية أن نعلن عن الوظيفة في الصحف لكنني قررت التمهل. قلت له:
- لدي عدة أشياء مهمة، والسكرتيرة لا يمكنها أن تقوم بكل شيء وحدها..سأعين أكثر من سكرتيرة.. جهز لي أربعة مكاتب صغيرة متباعدة.
غمز باسماً:
- حسب الشرع.
اكتفيت بالابتسام.
...
سأعين ثلاث فتيات، الفتاة بعطر الفانيلا والفتاة بعطر الشيكولاتة وفتاة بعطر البرتقال، أما الرابعة فتلك الفتاة التي بلا عطر. ولأفعل ذلك عليَّ أن أسرقهن من صاحب النايت كلَب.
ولكن الفتاة التي بلا عطر باردة جداً، فماذا ستفعل كسكرتيرة رابعة؟ إنها لا تصلح لاي عمل. ربما سيكون عملها هو أن تهمس بكلماتها غير المفهومة تلك كما لو كانت تتكلم أثناء نومها. وهكذا مضيت إلى النايت كلَب كرب عمل لا كزبون. إلتقيت بالفتيات، لكنهن رفضن العمل، أما هسيس فلم تكن موجودة ذلك اليوم.
سألت عنها القواد:
- أين هسيس؟
تحرك بؤبؤ عينيه للأعلى وتقطب جبينه:
- من؟
تذكرت أنني أنا من أطلق هذا الإسم عليها فأضفت:
- الفتاة التي بلا عطر؟
ولما استمرت الحيرة على وجهه قلت:
- الفتاة الشقراء القصيرة..
رفع ذقنه لأعلى وأنكب على كتابة كلمات ما على ورقة بغير اكتراث:
- لم تحضر بعد.
- متى ستحضر؟
رفع راسه وقال:
- لا أعرف..
وكان عليَّ العودة في اليوم التالي..ثم في اليوم الثالث والرابع والخامس، أصبت بهوس البحث عن هسيس.. وفي اليوم السادس مددت ورقة نقدية للقواد:
- هسيس؟
سحب الورقة بسرعة وقال:
- رقم هاتفك؟
أمليت عليه رقم هاتفي. وتوقفت عن الذهاب بعدها إلى النايت كلَب، منتظراً فقط إتصال القواد.
....
جمًَدت الحكومة الجديدة كل حساباتي في البنوك، فاتصلت ببائع الخردة، لكن هاتفه ظل مغلقاً. ونمى إلى علمي حظري من السفر. فأجريت اتصالاً ببائع الخردة، لكن هاتفه كان كما كان.
(كان كما كان)، ها أنا أدون لغة شكسبيرية في مذكرتي، وأنا أقبع في الزنزانة رقم ١٠٦، وهي تقبع في زنزانة أخرى بسجن النساء بعد أن قتلت شاباً طري العود.
هكذا أخبرني القواد، وقد حاولتُ تقصي الحكاية، فلم أعلم الكثير، لقد أخذها الشاب إلى شقته، وأغراها بمال والده، بعد أن أوهمها أنه رجل أعمال، وجدوه في الصباح مذبوحاً من الوريد إلى الوريد، وقد هربت بما خف حمله وغلا ثمنه من أمواله، ولو أنها اكتفت بالنقود لما قبضوا عليها لكنها سرقت هواتف الشاب وسيارته، فأصبح تعقب تلك الأشياء سهلاً.
باعت كل شيء لتفتدي به حبيبها المسجون بسبب ديونه المالية، حبيبها كان شخصية تافهة من فِريشة الشارع نهاراً ومحتالاً بالليل، فسدد ديونه وخرج وتنتظر هي تنفيذ حكم الإعدام.
ولم يكن اسمها هسيس بطبيعة الحال.
....
بعد إطلاق سراحي عدت إلى الفيلا، ووجدت دجاجتي قد نفقت من الجوع والعطش، وزكمت رائحة جثتها أنفي. كما وجدت الحذاء الأسبورت والقبعة والشورت القصير بالإضافة إلى باقي ملابسي كلها على الأرض. لقد فتشو الفيلا تفتيشاً همجياً.
الطعام في المطبخ والثلاجة والديبفريزر كله تعفن.
مضت أكثر من سنتين وثمانية أشهر منذ دخولي السجن، سجنوني بلا مبرر واضح سوى أن الحكومة الجديدة تريد إثبات هيمنتها على كل شيء. أما بائع الخردة فقد حُكم عليه بالسجن لعشر سنوات لارتباطه بالنظام السابق مع مصادرة كل ممتلكاته الثابتة والمنقولة.
تغير كل شيء في البلد، حتى القواد اختفى وجاء قواد جديد يستقبل الزبائن في النايت كلَب. الفتيات اختلفن أيضاً، أصبحت عطورهن مركبة، وأصبحت مباشرات بشكل وقِح.
تقدمت إحداهن مني وأزاحت زجاجة الجعة من طاولتي، ثم فردت مؤخرتها على الطاولة وحدقت في عينيَّ بعمق.
نظرت إلى عينيها. لم تكن صغيرة السن رغم أنها حاولت إخفاء ذلك بالمساحيق.
قالت بنبرة باردة وهي تلعق شفتيها:
- ألا تقضي وقتاً ممتعاً هنا يا عمو؟
قلت:
- هذا ما قررتِ أن تفعلينه؟
قالت بذات البرود:
- لم يتركوا لي شيئاً..
لمعت عيناها وهي تضيف:
- كفرت بكل شيء..
قلت:
- والأولاد؟
هزت رأسها وكتفيها كالعادة بلا اكتراث..
قلت:
- تتزوجينني؟
اجترت نفساً طويلاً وزفرته من صدرها..
- أكسب هنا أكثر مما كنت اكسب من العمل معك كسكرتيرة..
ثم خلعت قبعتي وارتدتها:
- لكنني سأقبل بك على اي حال..
نهضَت من الطاولة فتبعتها إلى خارج النايت كلَب، وسرنا في الشوارع الأسفلتية المضيئة بكل هدوء.

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى