الشفرة

الشفرة
دائما ضوء النهار يقهر عتمة الظلمة، ودائما تقهر وضمة الطاقة والنشاط ظلمة نفسه الداخلية التي توشك ان تسجنه داخل غرفته التي اختارها مكانا لمحبسه. في أيام النوبة تتلون الدنيا في عينيه، يصبح كل شيء حوله مبهج ومريح. يتحول الى كائن خرافي ممن كان يتابعهم زمان في مسلسلات التليفزيون كالرجل الأخضر. يرى نفسه في منتهى الحيوية، منتهى النشاط، منتهى قدرته على السيطرة والتحكم في الكون والناس ومنتهى الاستمتاع.

يتنقل مثل الفراشة من مكان لآخر، تتقافز الأفكار داخل رأسه من موضوع لآخر من دون ترتيب ولاضابط ولا رقيب. يبتلعه الحماس، تستغرقه الطاقة والحيوية فلا ينغلق جفنيه عدة أيام متتالية. يهيم في الشوارع، يدور فيها عدة أيام بلا هوادة، يتمتع بحرية مطلقة، كما يقول لنفسه دائما. يصبح حينها كائن حر طليق، يتحرر لسانه عن كل المحظورات والمحرمات. تنفلت الفاظه قوية سريعة متعجلة مثل مدفع سريع الطلقات، يواجه الآخرين بشجاعة مبهرة يحسده الجميع عليها أحيانا. تتلاشى كافة الحدود الداخلية والخارجية من وعيه ووجدانه. لم يعد هناك كابح لأفكاره أو لسانه أو تصرفاته. حينما يستيقظ من نومه في مثل هذا اليوم أثناء النوبة يكتشف انه انسان جديد، مولود طازة، متحرر من كافة القيود والرزالات التي اخترعها البشر على مدار العصور. يدور في الشوارع بمنتهى الحرية، يمتلك خفة حركة وطاقة رهيبة، لايشعر بالتعب، أو تظهر عليه علامات الارهاق والانهاك. الشعر أشعث أغبر، الملابس تلونت بقاذورات الشارع وأغبرته، والعقل والفكر صاخبين، لا يمل من تكرار الأفعال أو الأفكار التي يمارسها بصورة طقسية. قطرات العرق تسبق ظله الغامض على الأرض، تنسكب بتقاطر فوق هذا الظل الذي يسبق عدوه في شارع يغص بمارة غابوا تماما عن وعيه في تلك اللحظات والأحوال. يحملق بتحدي في شمس تواجه عيناه الحمراوان، لا يرى شيء، يستمر في العدو طالما ظل هناك طريق، وظلت هناك شمس حارقة ينجذب اليها ويطاردها.

كأنه يقف الآن في اعقاب قطعه مسافة ثمانية أشهر فرت من أوراق نتيجة الحائط، والآف الأميال، في ذلك المساء الذي حطت فيه الطائرة بهدوء في مدرج مطار برلين الدولي الذي اتسم في هذا التوقيت بالانكماش والتوجس ومنتهى الهدوء بسبب الكوفيد19 . الأنوار من بعيد بدت خافتة، الناس يتحركون مثل أشباح باهتة لا صلة لها بالواقع. الرعب الذي اجتاح مدن العالم بسبب تفشي وباء كورونا كاد يلغي رحلته الموعودة والمأمولة لاستكمال اجراءات حصوله على درجة الماجيستير لولا شجاعة آخرون من المسئولين داخل المعهد الدراسي واصرارهم على ضرورة استكمال البرنامج الدراسي لأفراد الدفعة الذين بدوا مكممين، مطموسي الملامح، مبعثرين على مساحة ضيقة من ارضية المطار، يحملون حقائيهم وأشيائهم الصغيرة، يترجلون في وجل نحو مجهول ينتظرهم، ولحظات وأحداث لا يمكن لمخلوق في العالم ان يتنبأ بها خاصة في هذه الأيام الغامضة. قال لنفسه بعد ان تعمد صنع مسافة أوسع مع أقرب زملائه الى جواره " وباء كورونا غبي، سوف انجح في القضاء عليه وهزيمته"، بدأ يستشعر قوة وطاقة تسري في خلاياه، تتواصل أفكاره في التداخل " الأرض اقتربت من نهايتها، وباء كورونا لايمكن ان يمنعني من استكمال تفوقي والسيطرة على الشمس". اقترب أحدهم منه لتنبيهه بضرورة الاقتراب من المجموعة حتى يقف الجميع صفا واحدا أمام بوابة الجوازات لانهاء المهمة والذهاب للسكن والراحة، لم يلتفت، ربما لم يسمعه أصلا، واصل انحرافه عن المجموعة، عيونه زائغة، لاتتصادم مع هدف محدد، كأنما يبحث في عوالم أخرى داخله أو خارجه. اثنان من زملائه توجها نحوه، حاصروه بينهم، اقتادوه نحو الصف الذي صنعوه. قلوب الشباب الذين انشغلوا في اجراءات دخول البلاد كانت وجلة، غشيها اضطراب واضح جلى في حركات الأقدام، والأحاديث الهامسة الجانبية فيما بينهم.

اتسعت الرؤية والحركة داخل المطار بعدما تبددت الرهبة، ظهر أفراد متجهمون من الأمن يراقبون الركاب القادمين، ويتأكدون من مراعاتهم لكافة القيود الاحترازية والأمنية الصارمة. الحركة اتسعت أكثر، بدأ الشبان الذين تقيأتهم الطائرة منذ قليل استعادة ثباتهم وتبديد القلق والاضطراب. تحلقوا فيما بينهم كأنهم يحتمون ببعضهم البعض. نجحوا في تشكيل سياج من الأمان داخل كل منهم للحظات أثناء عبور بوابة الجوازات والتقاط الحقائب من فوق السير والخروج في مجموعة واحدة من البوابة في اتجاه الحافلة التي تقلهم الى سكناهم.

في غرفته الخاصة التي طلبها لنفسه متعذرا للادارة بظروفه الصحية الخاصة وضرورة حصوله على غرفة منفردة في سكن الطلاب، استلقى على سريره، زوغان العينان اصطدم هذه المرة بسقف الغرفة الأبيض الذي نتأ عنه مصباح كهربائي شديد الوهج، كأنه يحملق بغضب في عينيه، كان راقدا على ظهره ببنطاله الجينز الأزرق الباهت المقطع من الركبتين، ومثبتا ساقا فوق الساق. يرى بوضوح والدته المتوحشة التي اعتادت الصراخ وسب أبوه في مصادماتهم العنيفة الدامية أحيانا. انتفض من رقدته، عبثت أصابعه بحقيبة السفر تحاول فتحها، عصلجت السوستة معه، تركها ونزل الى الشارع بسرعة مقوضا قواعد الاجراءات الاحترازية الخاصة بالبلاد والتي ابلغ بها قبل السفر. لايزال الظلام يخيم بقتامة على الشارع الخالي من دبيب كافة أنواع الحياة.

ركض بسرعة تطارده خيالات قديمة ليست فحسب صورة الأم المتوحشة التي قذفت أبوه حالا بفازة خزفية تزين طاولة الصالون، ولا هذا الأب نحيل الجسد الذي يقف مهلوعا قبالتها يمسح دماء وجهه الذي انثال بغزارة بكم البيجامه المقلم، بل كانت هناك صور أخرى لشخوص غائمة تطالبة بسرعة الركض ليحصل على المركز الأول والتفوق، وأفكار انتعشت ودارت ماكينتها انتفخت بها رأسه، تصارعت مع بعضها على احتلال مساحة من الفضاء الذي ضاق بها تماما، لم يعد لها سبيل سوى الخروج الى العالم غير واضحة، غير مترابطة وغير محددة، يكسوها غموض كبير. لايمكن ان يفك شفرتها سوى شيخ شهير اصطحبته أمه اليه ذات يوم في أعقاب غضبة شديدة من دون سابق انذار، طالت الغضبة الجميع وخاصة امه، تسبب في نهياره، وتحطيم كل شيء كان يقابله. الشفرة ظلت عصية على الحل حتى عندما اقتادوة ذات مساء صعب في أعقاب انهيار ثاني وتهيج ضد نفسه هذه المرة، حيث كاد يغرس سكين المطبخ داخل احشائه لولا تدخل قوي من بعض الأقارب تصادف وجودهم آنذاك في المنزل. وجدت الطبيبة الشابه نفسها في مواجهة شاب صغير على مشارف التخرج في جامعته، يهذي بمفردات غريبة لكن يملك من التاريخ الشخصي ما يعكس تكامل شخصيته وتفوقه الدراسي معظم الوقت، قررت بشجاعة الحفاظ على تلك المكتسبات ودعمه بدواء يساعد في ضبط ايقاع وتنظيم افكاره. سرعة الركض في الشوارع التي احتواها الظلام والفضاء المتمدد والوحشة تزامنت في ايقاعها مع سرعة الأفكار المتصارعة داخل رأسة والتي تلهث هي الأخرى ولن تهدأ حتى يحقق هدفه ومبتغاه الذي يركض من أجله. دقات قلبه بدأت في الشكوى، انفاسه لم تعد تقوى على الصمود ومتابعة الركض، سقط على الأرض في أحد الشوارع الجانبية، لم تعد هناك انفاس تخرج، ولا قلب ينبض، ولا أوراق هوية يمكن الاستدلال بها عليه في بلاد الضباب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى