مصطفى نصر - الشاب الغريب

قال له عمه يوماً: إن العريس في شهر العسل يحس أنه أسعد مخلوق في الدنيا, وأنه أمير يمتلك الدنيا وما فيها.
وعمه هذا خبير في أمور النساء. فهو فوق زواجه المتكرر؛ معروف بعلاقاته النسائية المتعددة.
تذكر رشوان هذا في أيامه الأولى للزواج. فزوجته لواحظ جميلة. الكل يحسده عليها.
يوم الزفاف جمع مبلغًا من المال لا بأس به، (نقّط به أقاربه ومعارفه) لكن المال يتناقص بمرور الأيام وهو لا عمل له. إحساسه بالتميز بعد الزواج من لواحظ، جعله يرفض الانحناء تحت عصا ملاحظ الأنفار وهو يعمل في أرض لا يمتلكها منتظرًا العصا في أي وقت، وفي أي مكان من جسده.
سألته زوجته: ماذا ستفعل، والنقود تتناقص؟
قال في أسى: لست أدري!
كانت القرية تعاني الفقر. الأرض كما هي والناس في ازدياد. سافر بعض الشباب إلى القاهرة والإسكندرية بحثًا عن الرزق. قال لزوجته:
- سأسافر إلى القاهرة للبحث عن عمل.
- تتركني، ولم يمر على زواجنا أكثر من أسبوع؟!
- خير من أن أتركك بلا نقود.
حاولت أن تثنيه عن سفره لكنه أصر. لقد فضلته على العديد من رجال القرية الذين تمنوا الزواج منها, رغم أنه أقل مالاً. فلابد أن يثبت لها أنه أفضل من الآخرين. اتفق مع عطوة (زميله) على السفر. ودعه رجال البلدة ونساؤها, حتى الأطفال ودعوه! كان حديث الناس هناك عن العريس الذي ترك زوجته بعد أسبوع واحد من زواجهما للبحث عن عمل. أوصى أهله قبل سفره بالاهتمام بها. وأوصته بأن يشتري لها من حي الحسين (إيشارب) ملونا من الحرير, وزجاجة عطر وبخورا, فهي لجمالها الفتان تحسدها النساء.
ركب مع زميله عطوة عربات كثيرة في طريقهما إلى القاهرة. عربة كارو تحمل أعراش اللفت, وعربة نقل موتى, ثم عربة نقل كبيرة محملة بالدقيق, لم يجدا مكانًا لدى السائق فصعدا فوق الأجولة. كان رشوان يرتدي قفطانه الصوفي الذي حضر به حفل الزفاف, فلواحظ أصرت على أن يرتديه وهو مسافر ليبدو في كامل هيئته أمام سكان القاهرة، ليدفعوا له أجرة أكبر، ويتعاملوا معه باحترام، فالناس مناظر. وقد يعلمون أنه متزوج حديثًا فيلومون عليه إهماله في ملابسه. لكن القفطان الصوفي الجيد علق به التراب، ثم تحول التراب إلى طين بعد أن التصق بعرقه!فكر فيما سيحدث له في القاهرة. كل من سافر من بلدياته وجد عملاً, وعاد محملاً بالهدايا لأهله؛ وسار في شوارع وحواري البلدة بملابس أفضل ألف مرة من قفطانه الصوفي هذا, الذي تزهو به لواحظ. يقولون إن المال في القاهرة ملقى في الطرق، وليس عليك إلا أن تنحني وتحمله. أوصته لوا حظ بأن يبدأ رحلته بزيارة الحسين وأخته الطاهرة. فذلك سيسهل له الأمور ويهونها, فعمل ما أشارت به زوجته وأصرت عليه, رغم معارضة عطوة زميله, لأن ذلك سيعطلهما؛ وهما في أشد الحاجة إلى الوقت للبحث عن عمل.
اشترى من هناك الإيشارب الملون وزجاجة العطر والبخور وأخفاها في ملابسه وسار مع زميله باحثًا عن عمل. كان رشوان نحيفًا ذا وجه شاحب, لذا وجد صعوبة أول الأمر في عمله مع عطوة الذي كان أكثر منه طولاً وعرضًا, يحمل الأشياء الثقيلة في خفة ويسر. بينما رشوان يتعثر وتتصبب جبهته عرقًا ويكاد يكبو على وجهه من ثقل الأحمال فوق كتفيه.لاحظ صاحب العمل هذا فلم يعلق. لكن آخر النهار. قال وهو يدفع الأجرة له:
- أنت لا تصلح لمثل هذه الأعمال. اختر عملاً يناسبك.
كاد يبكي, فهو في حاجة لمرافقة عطوة، سيتعب بدونه. لكنه لا يستطيع البقاء يومًا آخر في ذلك العمل الشاق. سار مع زميله في الطريق صامتًا. سأله عطوة:
- ماذا ستفعل؟
- سأبحث عن عمل آخر.
كان من الممكن أن يجد العمل المناسب لقدراته, فليست كل الأعمال في القاهرة تعتمد على قوة الجسد وحدها. لكن لحظه العاثر لم يلق إلا هذه الأعمال.عمل في آخر يوم له في القاهرة لدى صاحب مصنع نسيج صغير. كان عليه أن يحمل بالات الغزل من السيارات إلى داخل المصنع, وأن يحمل أثواب الأقمشة من الداخل إلى السيارات التي تقف خارج المصنع. كاد ظهره ينقصم وهو يسير مثقلاً ببالات النسيج، فشده صاحب المصنع في عنف:
- ابعد عنا. فقد يحدث لك مكروه, فتسبب لنا مشكلات نحن في غنى عنها.
وأمر كاتبه بأن يعطيه باقي حسابه.أحس وقتها بأن ليس له في القاهرة عيش. وأنه لابد أن يعود إلى زوجته لواحظ، وإلى عصا ملاحظ الأنفار في بلده، وعليه أن ينسى تميزه لتفضيل لواحظ له من دون من كانوا يريدون زواجها.حمل متاعه: الإيشارب الملون وزجاجة العطر والبخور. النقود قليلة معه. ولن تكفي طعامه ليوم أو اثنين. لذا, فسوف يعود إلى بلدته سيرًا على القدمين، ويعمل في أي بلد تقابله. الطريق طويلة والبلدة بعيدة (لم يكن يظنها بعيدة هكذا عندما جاء إليها مع زميله عطوة).ليس لقفطانه لون واضح الآن. هذا غير التمزق الذي حاق به من كل جانب. اختارته لواحظ دون كل شباب البلدة. نعم, فهو لا يصلح إلا للعشق: وجهه وسيم وكلماته هادئة, عذبة ودافئة وفي عينيه سحر حدثته لواحظ عنه كثيرًا. حتى قبل أن يتزوجها. لكن العشق وحده لا يشبع ولا يكسي الجسد. آه، لقد أحس بالتعب الشديد فنام بجوار محطة القطار، فربما يجيء القطار الذاهب إلى بلدته فيركبه. ليس معه نقود, وقد يقبضون عليه. حينذاك ستدفع لواحظ له الأجرة, فمازال لديها بعض المال, أو يقترض ثمن الأجرة من أحد أقاربه أو معارفه. لكن الفضيحة ستكون ثقيلة عليه هناك, فالحكومة ستكبله بالحديد, لكي تضمن أجرتها, ولن تخلعه عنه إلا بعد الدفع. حينذاك سيقولون إنه فشل, وإن ذلك الذي فضلته لواحظ على شباب البلدة عاد دون شيء, وإنه لا يستحقها.
عمل لدى صانع طعمية قريب جدا من محطة القطار, طحن له الفول نظير طعامه ثم واصل سيره. عمل في بلدان وقرى عديدة أعمالاً مختلفة: حامل أمتعة في محطة القطار, ماسحا لعربات الحنطور. ومنظفا للمتاجر والمقاهي.
وصل لقرية قريبة من بلدته. كان سعيدا وهو يدخلها, فبعد ساعات قليلة سيرى بيوت بلدته وناسها, سيجري إلى لواحظ، يرمي ذلك الثوب المتسخ المهترئ, ويبل جسده بالماء الساخن حتى ينام داخل الطشت.. آه.. متى سيحدث هذا, لقد تعب. طال سيره ونومه في كل بلدة تقابله. لن يترك بلدته ثانية, كانت لواحظ محقة حينما حاولت منعه من السفر.
البلدة التي وصل إليها فقيرة. يعرفها رشوان جيدًا من قبل. فقد سافر إليها كثيرًا لشراء البلح الذي يكثر فيها, وقتها كان ينام في صحن دار شيخ البلد مع بلدياته إلى أن يجمعوا البلح الذي سيشترونه.
قال لنفسه: سأستريح الليلة, وأبدأ السير غدًا. سأبدأ عند الفجر, قبل أن تشتد حرارة الشمس وتلسعني بنارها الحارقة.
رحبوا به في البلدة. وقدموا إليه البلح. أكل كثيرًا، أكثر من طاقته. فقد كان جائعًا ولن يجد ما يأكله إلى أن يعود إلى بلده.
تحدث مع رجال دعوه إلى بيوتهم وألحوا عليه في تقديم الطعام. لكنه أصر على الاكتفاء بالبلح.
أخرج اللفافة, فضها. لمس الإيشارب الناعم فتذكر وجه لواحظ وزجاجة العطر والبخور, فاحت الروائح داخل جسده. الأشياء كما هي كأنه لم يشترها سوى اليوم. لمس الرجال الإيشارب وأثنوا على خامته الأصيلة. وحكى عن زوجته الجميلة التي زاحمه الكثير فيها؛ لكنه فاز عليهم جميعا. قال أحدهم:
- سندعك تنام, فأنت متعب.
تناقش رجال البلدة بينهم وهم عائدون إلى بيوتهم. قرروا أن يجمعوا له ثمن تذكرة ركوب السيارة أو القطار. أو أن يهمسوا في أذن شيخ البلد ليتبرع له بأجرة السفر.
قبل الفجر بقليل أحس رشوان بآلام شديدة في البطن ورغبة شديدة في التقيؤ. صرخ من شدة الألم لدرجة أن السكان القريبين من مكانه استيقظوا على صوته. أخذ يجري وسط النخل من شدة الألم. وتكرر هذا بطريقة غير عادية.
الذين عاصروا الكوليرا من قبل, عرفوا أنها هي. فأبلغوا العمدة الذي قام باللازم. حملوا رشوان على سرير جريدي بدون فرش. وغسلوا جسده كله وهو نائم كأنه ميت يغسلونه!
صاحب هذا بعض الشدة في التعامل مع أهالي البلدة. فقد فتشت الصحة بيوتهم, وأصرت على أن تحلق رؤوسهم وأن يستحموا أمام الأطباء وفي أرض النخل وهم عرايا كما ولدتهم أمهاتهم.
**
مات رشوان بعد ثلاثة أيام. هو الوحيد في البلدة الذي مات بهذا المرض. اشترك في جنازته كل البلدة تقريبًا. وأقاموا له قبرًا في مدخل مدافنهم، فكان قريبا من الطريق العمومي...وحمل شيخ البلد لفافته: الإيشارب الملون وزجاجة العطر والبخور, وضعها في دولاب ملابس زوجته.
بعد شهور قليلة شاع الخبر حتى وصل إلى بلدة رشوان. حكوا عن لفافته وعما حكاه عن زوجته التي مات وهو يتحدث عنها وعن مدى حبه لها. صرخت لواحظ، فهو رشوان لاشك. كل الصفات التي ذكروها صفاته. فسافرت مع بعض أقارب زوجها وبعض رجال البلدة, قابلوا شيخ البلد الذي أحسن استضافتهم وأعطاهم اللفافة.
امتلأ دار شيخ البلد بالرجال والنساء والأطفال. جاءوا لمشاهدة زوجة الشاب الغريب الذي مات في بلدتهم. جاءوا ليتأكدوا إن كانت جميلة كما وصفها أم لا.
وخرج الرجال من الدار وهم يعلنون أنها أكثر جمالاً مما كانوا يعتقدون, ولم تعلق النسوة بشيء. المرأة جميلة حقًا, فماذا سيقلن؟‍
حاول أكثر من رجل (من البلدة التي مات رشوان فيها) أن يتزوج لواحظ. منهم الغني المقتدر لكن لواحظ عارضت بشدة. وحاولت نساء البلدة تقليدها في رسم عينيها بالكحل. وبطريقتها في ربط الإيشارب فوق رأسها. وظل قبر ذلك الغريب في مكانه, يذكره الناس جميعًا. حتى الذين ولدوا بعد موته وكبروا الآن يعرفون حكايته. وإذا عاد الذين تركوا البلدة للعمل في القاهرة أو الإسكندرية يزورون القبر ويترحمون على صاحبه. كما أن حالات زواج كثيرة تمت بين أهل البلدين بعد موته. ولولاه ما كانت تمت هذه الزيجات!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى