د. سيد شعبان - غريب يا أم هاشم

أعلم أن هذه مدينة بلا قلب يرحم الأيتام؛ فالجميع هنا مصاب بالفقد، به وحشة لا تملؤها أندية المدينة الصاخبة؛ رغم هذا حوائطها ومبانيها صماء معجونة بالغلظة، تبدو مثل زوجة أب ألقت بصغاره في العراء وجلست تمشط شعرها وتضع عطرها الشهي، ترتدي له قميصا أرجوانيا؛ يتناسى صغاره، تمزق أمعاءهم الكلاب، ثوبي بقيت منه خرقة تكاد تستر عورتي، قدماي أشبه بعود الذرة وها أنا هش تطوحني عوادم السيارات، تركت أرصفة الشوارع بصمتها على جسدي، تصدر بيانات رسمية من إذاعات لا أعلم بأي لغة تنطق: هارب من محبسه،مجنون يدعي أنه من السادة الأشراف، لا تسمعوا له، صورتي معلقة على الحوائط، عند باب الحديد لجان تفتيش، كلاب مدربة؛ تتشمم من يقترب منها، لي أوراد ودعوة مستجابة؛ علمني شيخي أن ألوذ بها؛ ساعتها كل المخاوف أمان.
أجري؛ لا أحد يشفق على خائف؛ تترصدني عيون الشرطة المندسة في كل زاوية، أعمدة الإنارة تراقب الغرباء.
نزلت من قطار المنافي؛ كل القرى والنجوع تلقى بأهلها إليك؛ ولم لا؟
نبحث عن قلب يحتوي الوطن، وهل بعد أم هاشم من يحنو؟
الممرات والطرق إليك دونها ألف حارس؛ شيخ يحرم الزيارة، شرطي يمسك بعصاه يمنع العابرين، قلوب غليظة لا ترى بعين الحب.
دراويش وعجزة ومساكين، أبناء السبيل يقفون بالباب، أرغفة خبز وفول نابت، لحم خراف ضالة تمزقها ثعالب الليل، دنيا وكل واحد له صيد.
وحدي أبحث عن وثيقة، قالت لي أمي: نسبك هناك، البردة مسطور به اسمك، اذهب إليها، ستجد ورقة جوار المقام، افتحها، اقرأ بقلبك؛ لا تركن إلى عينيك؛ دعها تخبرك من تكون.
تسللت من جانب السيل الواقف، بدلت لساني بآخر يعرف الهوى، وللمحبين وسائل وغايات.
معجون بآل بيت النبي، تطوحني الذكرى وتجذبني الحضرة العليا والقبة الخضراء، يذوب فؤادي.
عبرت الميدان إليك، أطير بأجنحة الشوق، يسبقني دمعي، يرتجف جسدي، خلعت همي عند المقام، يربض شيطان يترصد الزائرين، تشاغلت عنه.
الأمطار تغرق المدينة، تتجمع في فم الخليج سيول، النهر جاف هل يسقى أهل المحروسة بعدما قنطوا؟
أخذتني سنة من النوم، رأيت الحسين يشملني بعباءته، يبتسم لي وقد سبح في دمه، جئت بالماء فأطاحوا به بعيدا، أحقا يا سيدتي ما انتهت كربلاء؟
أهي اللعنة أصابت بني أمية؟
وما أنا والحسين غير رجل مسكين لا بيت له، ترميه الغربة بألف حجر.
صوت قادم من بعيد: أدركوا الحسين فقد أحاط به جيش يزيد!
كلمات قرأتها في كتاب شيخ العمود حين كنت مجاورا في الأزهر أسكن درب الجماميز، مررت بمصر عتيقة، زرت ابن طولون، حاذيت مجرى العيون لكن الطريق إلى قلعة الجبل عليه حرس شديد؛ كلاليب تتخطف السابلة، أصوات تستغيث، سياط تدوي فتحدث فزعا، تجمع المساكين في باب الخلق، لم يعد لديهم ما يبكون عليه، الحاكم بأمره يكاد يخفي الشمس، انساب السيل جهة الميدان؛ هتاف جديد: مصر يا سفينة!
غنيت معهم، تبعتهم، الجمع يزداد، نلقى بالحجر على جيش يزيد، يستعيد الحسين عافيته، يركب جواده؛ يسبقنا، يتبختر في مقدمة الذاهبين، تأتين حاملة الماء، يطير الحسين على أجنحة طير خضر ترفعه الملائكة!
ترى من يكون خليفة الحسين؟
يمسكون بي، يرونني وقد أبانت البردة الخضراء عن نسبي، من آل البيت!
أهتف فيهم لكل زمن أولياؤه الصالحون؛ أنتم من تفتحون السرداب، ادخلوا عليهم الباب؛ أنتم الغالبون.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى