محمد السلاموني - المسرح، وبقايا الليل على جسدى:

الآن أعُدُّ كتابا عن المسرح، هو مجموعة دراسات نقدية، كُتِبَت ما بين عامى 2007 و 2020، فى متابعة للعروض المسرحية التجريبية وقضايا التجريب والمنهج...
مشكلتى أننى لا أكتب عن المسرح كثيرا، نظرا لتفاقم قضاياه الملوثة بالأيديولوجيا... ولتراجع البحث الجمالى لدينا، إذ عادة ما يلجأ النقاد المصريون "كسلا وجهلا وافتقارا للموهبة" إلى تصنيف الكُتَّاب والمخرجين والممثلين... إلخ، تبعا للمذاهب المسرحية العالمية، فيقولون "فلان البرختى، وعلان الواقعى، وترتان الشعبى..." هكذا، دونما محاولة للتساؤل عما إذا كان هذا التصنيف دقيقا أم لا...
وهو ما يعنى أنهم فى منحاهم هذا، يبحثون عما "تتشابه" فيه العروض والنصوص المسرحية مع "المسكوكات النظرية الغربية الشائعة"...
وفى الحقيقة، ممارساتنا النقدية المسرحية تفتقر إلى التنظير العلمى، ولا تتجاوز حدود الأيديولوجيا والقولبة الجمالية... هكذا، دون أن يدرى أحد من النقاد أنه بهذا يتعامى عن الجهد الإبداعى الحقيقى "المختلف" الذى تجود به موهبة فردية هنا وأخرى هناك. وما يستتبعه هذا من شَرعَنة "التنميط الجمالى"، وترسيخ "التبعية الإبداعية"...
عندما قررت ممارسة النقد المسرحى، كنت أعى تلك الإشكالية جيدا، لذا حاولت البحث عن "المختلف" فقط ... لدرجة أن كتابة المقال الواحد كانت تستغرق عدة أشهر فى البحث والتنقيب والتحليل، سعيا وراء "التأصيل" الفلسفى والجمالى...
وما أذهلنى، هو أن النتائج التى انتهيت إليها- وكنت أحسبها مجرد آراء أو ملاحظات عابرة- اكتشفت أن المنظرين الغربيين انتهوا هم أيضا إلى بعضها، أى أنها "نظريات" وليس مجرد آراء...
أيامها، أول دراسة كتبتها ونُشٍرَت فى جريدة مسرحنا، كانت بعنوان "مسرح الميتاذات"، أذكر أننى التقيت بأحد أساتذة الدراما بمعهد المسرح، مصادفة فى أحدى محطات المترو، وقال لى
[حديثك عن التمثيل، حديث جديد، يرقى لمستوى النظرية ...]. وبعدها بعدة أيام، كنت جالسا مع بعض الأصدقاء، ثم سمعت شابا لا أعرفه، كان جالسا معنا، يضحك مع صديق آخر، وإذا به يقول: [دى حاجه شبه الميتاذات كده!!.]، وانفجر ضاحكا، بسخرية... فسألته: [أيه الميتاذات دى؟]، فأجاب: [لا دا مقال تافه كده كان منشور فى جريدة مسرحنا...]، فسألته مرة أخرى: [هل قرأت هذا المقال؟]... فأجاب: [لأ طبعا...].
صمتُ قليلا، ثم سألته من جديد: [ما علاقتك بالمسرح؟]، فأجاب بافتخار: [أنا معيد فى معهد المسرح...]...
فأدركت أننى أمام جيل جديد من حشرات البالوعات...
ومرت سنوات امتنعت خلالها عن الكتابة.
لكننى اكتشفت بعد ذلك أن "مقاربة الذات كآخر"، وبالأحرى "عرض الذات فى صورة آخر"، هو مقلوب فن التمثيل الذى يتأسس على "تقديم الآخر- أى الشخصية- من خلال ذات الممثل"
، وأن هذا التحول الجديد هو السمة الجديدة التى تتسم بها الفنون والآداب المعاصرة- بما فى ذلك مسرح التعبير الجسدى... "وهو ما أدركه أستاذ الدراما الذى التقيت به فى المترو"، ولم أكن أدركه فى حينه...
ثم حدث نفس الشئ مع النظرية الكبرى المعتمدة فى الدراما، فقبل ثورة يناير 2011، بأيام، نُشِرَت لى دراسة فى جريدة مسرحنا، ذهبت فيها إلى أن اندماج المتفرجين فى البطل، مشروط بتطابق "العلامة اللغوية، أى النص، مع الشئ الذى تسَمِّيه، أى العرض"، وهو ما يستحيل حدوثه، وبالتالى لن تتحول الذات الفردية للمتفرج إلى ذات جماعية مندمجة بالبطل، فلأن العلامة اللغوية لا تتطابق مع الشئ الذى تسَمِّيه، فكل متفرج سيصنع من النص الذى يتدفق من أفواه الممثلين عرضا خياليا خاصا به - وهو ما يجعلنا نحكم بتوفيق أو عدم توفيق المخرج فى اختيار هذا الممثل أو ذاك للعب هذا الدور أو ذاك... إلخ.
وهو ما يعنى أن الفُرجَة على العرض المسرحى تفعل العكس مما ذهبت إليه نظرية الإندماج، أعنى أنها تضع المتفرج أمام اللغة فى علاقتها بالوجود- فى علاقتها بوجوده هو تحديدا، إذ يدرك أن وعيه بالعالم يتأسس على "الإختلاف" وليس على "التطابق"... وحاولت استثمار تلك الفكرة فى إعادة تنظير المسرح، لكن أحدا لم يفهم...
فامتنعت عن الكتابة، وبعد سنوات بينما أقرأ كتاب "سيمياء براغ" فوجئت بأن "يندريك هونزل" انتهى فى ثلاثينيات القرن الماضى إلى نفس النظرية تقريبا...
بعدها عرفت، أدركت، فهمت... أن مصر لا علاقة لها بالمسرح "ولا بغيره فى الحقيقة"، نعم، مصر "لا شئ"...
من هنا كان قرارى بألاَّ أمنح مصر شيئا- وأنا أملك الكثير... وليس لى أن أعبأ بحشرات البالوعات.
"إستدراك":
عندما حملت على عاتقى مسئولية البحث عن "خصوصية المسرح المصرى المعاصر"، فى مكان آخر مختلف تماما عن "الشعبيات" التى افترض الستينيون أنها مكمن خصوصيتنا المسرحية، لم أكن أعرف أن "العقل المصرى- الإبداعى والثقافى عامة" مجرد "عقل نمطى" مُشَبَّع بالثقافة الشفاهية المتحجِّرة، المتخلفة، التى فات أوانها، أى التى غادرناها منذ زمن بعيد "كالأراجوز والحكاواتى وخيال الظل... إلخ".
وهو ما يعنى أن تلك الثقافة العتيقة، لم تعد جزءا من الواقع، لكنها ظلت هى كل العقل.
هكذا، فالمسرح المصرى- كما يرى المسرحيون المصريون- يتأرجح ما بين "الجماليات المسرحية الغربية" و"الجماليات الشعبية المصرية"، دونما وجود لطريق ثالث ورابع وخامس...
مرة أخرى أقول- "ما العائد؟"، ما الذى سيعود علىَّ من محاولة إيقاظ مومياء متحجِّرة، سوى أننى ألهو بممارسة فعل جنونى ؟.
///// الآن يدخلنى الليل وينام...
فى الصباح، سأحصى بقاياه على جسدى
كعادتى
سأحصى الموتى.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى