فوز حمزة - مواسم العطر.. قصة قصيرة

في هذه اللحظة بالذات .. تمنيت أن يتوقف الزمن دقائق فقط لأستعيد فيها توازني وألتقط فيها أنفاسي فأنا لم أكن مستعدة للمشهد الذي أراه الآن أمامي ..
النهار في هذه اللحظة معبأ بشمس الربيع كما كان النهار الذي غادر فيه ..
سرت خطوتين باتجاهه وأنا أرجو الله أن لا يكون هو ..
يا لي من كاذبة !!
توقفت أتساءل مع نفسي: هل سيتعرف إلي بعد مرور زمن ينسى فيه الإنسان أشياء كثيرة ؟
ثانية واحدة مرتْ بيّ جعلتني سعيدة ثم أخرى أغرت الدمع بالهطول .. ابتسمت .. بعدها تملكني الغضب ثم وجدت نفسي هادئة مستسلمة .. انشطرت إلى عشر نساء يتقافزن من خلفي وفوقي .. يتناسلن من تحت جلدي .. لم يسبق حدوث مثل هذا الشيء لي !!
كان مشغولًا بالتحدث مع فتاة .. رمي عقب السيجارة التي أجهز على بقيتها بحذائه ..
من بين الشقوقِ والجدران القديمة .. تسربت الرائحة .. أغمضت عينيّ .. تركتها تعبثُ بيّ .. تتسلل من ذاكرتي لتملأ الهواء .. إنه عطر زهرة النارنج .
تمكن مني ذلك العبير عابثًا بأسراري وموطن ذكرياتي ..
كلما تقدمت خطوة أصبح العالم أصغر فلا أعود أبصر إلا من ثقب في قلبي ..
أنا التي ظننت أن قلبي مات من ثلاثين عامًا .. وما هذا الذي بين ضلوعي إلا قبر ضم رفات الحب الوحيد الذي عرفته ..
مسحت حبات العرق من على جبيني بيدي المرتجفة .. تقدمت قليلاً باتجاهه و لم يخطر على بالي ما سيقوله الجيران والمارة عني وأنا امرأة لم يمضِ على ترملها سوى شهور قليلة .. لاحقت فكرة سيطرت على كل حواسي .. أخذتني إلى ضفة بعيدة تاركة العالم على الضفة الأخرى .. بستان مليء بالأشجار وثمة فتاة في الثامنة عشر تختبىء خلف شجرة نارنج تختلس النظر الى شاب يتلفت بحذر كبير وخوف أكبر قبل أن يمنحها تلك النظرة التي تشعرها بأنها موجودة .. وبأنها أنثى ..
لم يعد يفصلني عنه سوى لحظات بلون زهرة النارنج ناصعة البياض ..
أيه أيّها القدر .. هل تحاول السخرية مرة أخرى بتدبيرك لهذا اللقاء ؟.. ألم يكفيك ما فعلته في المرة الأولى حينما زرعت الكرهَ بين أبي وأبيه فلم نحصد إلا الفراق والألم وحفنة من ذكريات تربك القلب وتشتت العقل كلما مرت على الخاطر ؟
غادر القرية بعدما تم رفضه ليكمل دراسته تاركا إياي انتظره كل موسم خلف ذات الشجرة .. لكنه لم يعد !!
قبل أيام حينما أخبرني ابني أن أرملاً وأبنته قد سكنوا البيت المقابل لبيتنا .. لم أهتم أو أعلق .. ربما لأشهد ولادة موسم طال انتظاري له .
أصبحت قريبة منه حتى أني سمعت بعضًا من حديثه مع الفتاة .. العطر ملأ كل شيء .. ناديته من خلف شجرة النارنج .. كان صوتي خجولاً خافتًا وخائفًا ..
التفت يبحث عن صوت ظن أنه سمعه من قبل ..
أحسست بارتجاف قلبه .. أطال النظر في عينيّ يبحث في ملامحي عني .. ربما تغيرت كثيراً .. لكن العطر كان أقوى من الزمن وبدهشة لم تستطع عيناه إخفاءها .. خطى نحوي ثلاث خطوات هي كل ما بيني و بينه .. تركت يدي تغفو وتحلم بين يديهِ .. والتقينا لأول مرة .. تحت شجرة النارنج ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى