جميلة شحادة - هدية ليست بالبريد المستعجل

أذكر ذلك اليوم جيدًا، كان يوم أربعاء من أيام أيار الحارة، وكانت الساعة قد تجاوزت الخامسة مساءً بعشر دقائق. كنت أجلس وراء طاولة مكتبي في غرفتي، أصارع حلّ المعادلات الرياضية استعدادًا للامتحان في اليوم التالي، وكنت حينها في الصف الثامن. وكأن قلقي من امتحان الرياضيات لم يكن كافيًا، ليدخل والدي عليّ بهيبته ووقاره، حاملًا بيده مظروفًا بلون ورديّ. رفعتُ بصري عن الدفتر الذي أمامي، نظرتُ إليه، رأيت المظروف الوردي بيده، ولمحتُ ابتسامة مرتسمة على شفتيْه. أيقنتُ أن المظروف لي، لكنّي أجهل مرسلُه. ربما مرّت بضع ثوانٍ، وربما دقيقة، لا أعرف كم من الوقت مرَّ قبل أن أتنبّه لحديث والدي إليّ. لقد تزاحمتِ الأسئلة في رأسي عمّن يكون مُرسل الرسالة التي حملها إليَّ والدي العزيز بنفسه هذه المرة، هل هو ابن الجيران؟ لا! هذا مستحيل؛ فالحي الذي أسكنه لا يعرف فيه الجار جاره. هو حي بَعُدَت فيه البيوت عن بعضها في آواخر سنوات السبعين وحتى أواخر سنوات الثمانين من القرن العشرين، لقد بعدت حتى وصلت المسافة بين البيت والآخر نصف كيلومتر مربع، وربما أكثر، وربمّا أقل. على أي حال، ليس هذا هو السبب، أو على الأقل ليس السبب الوحيد؛ فكم من مرة سمعت أمي تقول: "مصر على المشتاق ليست بعيدة "، ردًا على قريبات أبي عندما كنَّ يتحججن لها ببعد حيّنا عن حيِّهن الذي يسكنونه في الناصرة، وأن هذا البعد هو سبب قلة زيارتهن لها. وعدت بتفكيري أخمَّن مَن هو مرسل الرسالة؟ هل هو أحد أبناء صفي؟ لا أظن. هل هو إحدى صديقاتي في النادي؟ لا أظن، فلو كان كذلك لأخبرتني الصديقة المرسِلة بنيتها الإرسال قبل أن تصلني الرسالة، وقد كان هذا الأمر متبعًا بيننا. قطع والدي عليّ ظنوني وتخميناتي وتفكيري، عندما سمعته يسألني وابتسامته الجميلة ما زالت تعلو شفتيه، ويمد لي بذات الوقت، يده اليمنى لأتسلم المظروف:
"مِنْ وين بتعرفيها؟ هاي من هيليسنكي يابا.
تفاجأتُ بما سمعت. تناولت المظروف، فتحته، أخرجت الرسالة منه وقرأتها. كانت رسالة قصيرة جدًا، وقد كُتبت باللغة الإنجليزية:
- مرحبًا جميلة! أنا ريكي، ويسرّني مراسلتكِ.
تذكّرتُ حينها، أن معلمة اللغة الإنجليزية قد أحضرت لنا مجلة قبل شهرٍ تقريبًا، فيها إعلان لطلب مراسلات أفراد من جيلنا من خارج البلاد باللغة الإنجليزية، شرط أن تكون لنا ذات الهوايات. وكان هدف المعلمة، كما أخبرتنا، هو تقوية ملَكة اللغة الإنجليزية عندنا.
بالأمس، فتحتُ صندوق بريدي بعد غياب شهرٍ عنه، فلا حاجة لي بفتحه في يومنا هذا وفي ظل توفّر وسائل التواصل الكثيرة والمختلفة، على الرغم من أنني ما زلت محتفظة به، وأدفع رسومه سنويًا، وأرفض أن أستغني عنه. تمامًا، كرفضي الاستغناء عن الهاتف الأرضي، رغم عدم استعماله.
"عصفورٌ من الشمس" كان ينتظرني في صندوق بريدي عندما فتحته بالأمس.
وعصفورٌ من الشمس، هو إصدار للأستاذ محمد بدارنة يحوي بين طياته مختارات إبداعية، قيّمة لعددٍ من المبدعين. فرحتُ بهذه الهدية المميزة، وفرحت بإعادتها لي الى زمنٍ جميل، زمن المراسلات والرسائل، زمن الأغلفة الملونة، وزمن هواية جمع الطوابع، وزمن تكبّد عناء الوصول الى مكتب البريد في ساحة عين العذراء في الناصرة لإرسال الرسائل. لقد أعادتني الى الحدث الذي ذكرته في البداية وهو غيض من فيض. لقد أعادتني الى زمن الشوق وانتظار وصول الرسائل، والى شوق أمي "الغريبة" الى وصول رسائل من أفراد عائلتها، التي كانت تتسلمها عادة بيدها، بعد أن تكون قد ملّت هذه الرسائل من كثرة التجوال بين الأيادي وتنقّلها من يدٍ الى يدٍ الى يدٍ حتى تصل الى يدها المحطة الأخيرة. كانت هذه الرسائل عبارة عن بطاقة تتسلمها أمي بكثير من اللهفة، وقد ظهر فيها رسم أحد إخوتها مع أبنائه أو بناته أو زوجته؛ رسم تظهر الشخوص فيه جميعها باسمة، غير أن عِبارات الشوق واللهفة، وحُرقة البُعد ولوعة الاغتراب المرفَقة للرسم، سرعان ما تذيب الابتسام، وتشعل اللوعة في القلب والوجدان.
كان الفرد منّا آنذاك يتأنى وهو يكتب الرسالة، ويبذل جهدًا حتى يظهر الخطُّ جميلًا. وها أنا في هذه اللحظةِ، أستذكر صديقتي سميحة عندما طلبتْ مني ذات مرة ونحن في الصف التاسع، نسْخ رسالتها التي سترسلها الى عمتها والتي تقطن الريفَ في الدنمارك بخطي. سميحة التي عرفناها متفوقة بصياغة العبارات الجميلة، والتي أشاد المعلمون بإبداعها في كتابة القصة والمقالة والمسرحية، كان خطها كقوْل معلم اللغة العربية لها: خطكِ يا سميحة كما "خرابيش الجَّاج"، وعِباراتكِ كعبارات الحجَّاج.
كان الفرد منّا آنذاك يذهب الى المكتبة ليبحث في بطون الكتب عن أبيات شعرية قد نظمها شاعر لحبيبته، أو عن عبارات منمقّة تفيض منها المشاعر قد كتبها أديب لأمه، أو عاشق لأرضه ووطنه، لكي يأخذ منها ما يلائم رسالته، ظنًا منه أنه بذلك يزيدها جمالا، وربمّا قيمة، دون مراعاة ذِكر مصدر النقل أو ذِكر اسم القائل.
جميلة هي تلك الرسائل المكتوبة على مهل، المفعمة بالأشواق، المليئة بالحنين الى مرسليها. تلك التي كانت تحمل لهم شذى ورود المكان، وعبق الزمان، وترسم لهم لون البحر، وتبعث لهم بعبير الليمون والبرتقال. تلك التي كانت بحروفها تجعلهم يحلقون فوق المكان، ويعبرون المسافات، ويسافرون عبر السهول والجبال والبحار، ويستكشفون دفء القلوب وجمال المكان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى