جعفر الديري - تفّاحة من الجنة

هذه السيدة الفاتنة أعرفها، إنها تبرق في ذهني كما يبرق مصباح في بيت عتيق. ومنذ أن فتحت باب السيارة وولجت داخلها، وما ترسّب من ذكريات يحاول أن يطفو على السطح. غير أنّ للأحزان سطوتها، وللأوجاع مكانها المتقدّم، فلا تقبل بآخر يزاحمها.

إلتقت عيناي بعينيها. إبتسمت.. كانت أسنانها بيضا...

- كيف حالك عيسى؟

رفعت حاجبي...

- تعرفيني؟!

قالت وابتسامتها تضيء ليلا حالكا في سواد أيامي...

- لم تتعرف علي إذن؟

- سامحيني.. العتب على السنين؟

- لا تزال فتيا كما رأيتك قبل عشرين عاما

عشرون عاما، ما أبعد صورة الحياة بالأمس، عن شكلها اليوم. كنت في بحبوبة من العيش، وجميع بنات الحي يتمنين أن أكون زوجا لهن...

- ألا تذكر رباب زوجة الحاج يعقوب، جارتك القديمة في البيت الكبير القريب من المقبرة؟...

اعتصمت بالصمت، وبعد قليل ابتسمت. لقد طفت تلك الذكرت جملة واحدة. كانت أجمل امرأة في الحي باعتراف الجميع. كانت زوجة للحاج يعقوب، التاجر الثري، الذي شغف بها حبا، فأغرقها بالمال والحليّ وبكلّ ما ترغب به امرأة...

- ما شاء الله.. مضى وقت طويل؟

- لكنك نسيتنا!

- اعذري رجلا ابتلى بزوجة واثنتي عشرة نفسا

- تزوّجت إذن؟

- تزوجت ولله الحمد وأنجبت من البنين والبنات ما يملأ سلّة خضار.

ضحكت، ما أجمل هذه الملامح، وهذا القوام، رغم مرور السنين لاتزال امرأة مكتملة الأنوثة.

- أودّ أن أسالك

جاءني صوتها مختلفا...

- سلي ما شئت؟

- ما أخبار الحاج يعقوب؟

ما هذا السؤال الغريب؟!. ألا تعلم ما حلّ بزوجها الثري، صاحب العقارات ومحالّ الأثاث؟ من كان الجميع لا يعصي له أمرا، إلاّ هي؛ هذه المرأة الجالسة في السيارة، تأمره فيطيع. تعلّق بها منذ أن وقعت عيناه عليها، وأطارت الريح حجابها. طلب يدها بالشروط التي تضعها، وبالمهر الذي يليق بتفاحة من الجنة!...

- كيف لا تعلمين بحال الحاج يعقوب؟!

- أنا لم أرجع إلى البحرين إلا منذ ستة أشهر فقط

- أتعنين أنك لم تشاهدي البحرين طوال عشرين عاما كاملة؟!

- بلى...

- وأين كنت طوال هذه المدة؟

- عند أهلي في العراق

- ما أعرفه أن الحاج مات في البحرين!

قالت بصوت أشبه بتنفّس المصدور:

- أمات الحاج يعقوب؟!

- ألا تعلمين إن كان زوجك قد مات أم لا؟!

- لكنني انفصلت عنه!

- منذ متى؟!

- منذ الرحلة الأخيرة التي جمعتنا وإياك

هكذا إذن؛ لقد حزمت أمرها منذ تلك الرحلة؛ وعاد المسكين لوحده دون زوجته. كنت أتساءل عن التغير العجيب الذي طرأ على مسلكه، وسبب غيابها عن جنازته، وها هي الاجابة تشخص أمام عيني...

- هل لي أن أسأل عن السبب؟

- كان عاجزا عن الانجاب

إنتابني غضب شديد، ورثاء عظيم للحاج يعقوب...

- أكان قرارك صائبا؟

- أكنت تودّ مني العيش دون أبناء طوال حياتي؟!

- كاد الرجل أن يعبدك؟!

- كنت أودّه أيضا؟

- لقد منحك كل شيء!

- إلا الولد!.

- لم يكن ذنبه أنه لا ينجب!

لم تجبني.. كانت عيناها قد امتلأتا دموعا، فبدأت البكاء. لقد استغلت طيبته المسكين، فرجعت إلى أهلها محمّلة بالمال والحليّ الثمينة والملابس الفاخرة، وعاد هو بالمرض والكآبة...

قلت إمعانا في تعذيبها...

- أتعلمين ماذا حلّ بالحاج يعقوب بعد تلك السفرة؟!

- ماذا حلّ به؟!

- أصبح يهيم على وجهه في الطرقات!

إهتز جسمها لهول الصدمة...

- نعم. أمّا آخر كلمة نطق بها فهي رباب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى