طه حسين - النص الكامل لكتاب في الشعر الجاهلي.. الكتاب الثالث

الكتاب الثالث

الشعر والشعراء

1- قصص وتاريخ
نظن ان أنصار القديم لا يطمعون مثلنا فى أن نغير لهم حقائق الأشياء أو أن نسمى هذه الحقائق بغير أسمائها، لنبلغ رضاهم ونتجنب سخطهم .
ومهما نكن حراصا على أن يرضوا ومهما نكن شديدى الكره لسخطهم فنحن على رضا الحق أحرص ، وللعبث بالحق والعلم أشد كرها.
ولن نستطيع أن نسمى حقا ما ليس بالحق ، وتاريخا ما ليس بالتاريخ .
ولن نستطيع أن نعترف بأن ما يروى من سيرة هؤلاء الشعراء الجاهليين وما يضاف إليهم من الشعر تاريخ يمكن الاطمئنان إليه أو الثقة به ؟
وانما كثرة هذا كله قصص وأساطير لا تفيد يقينا ولا ترجيحا، وانما تبعث فى النفوس ظنونا وأوهاما .
وسبيل الباحث المحقق أن يستعرضها فى عناية وأناة وبراءة من الأهواء والأغراض ، فيدرسها محللا ناقدا مستقصيا في النقد والتحليل .
فإن انتهى من درسه هذا إلى حق أو شئ أو شئ يشبه الحق أثبته محتفظا بكل ما ينبغى أن يحتفظ به من الشك الذى قد يحمله على ان يغير رأيه ويستأنف بحثه ونظره من جديد .
ذلك أن أخبار الجاهليين واشعارهم لم تصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة ، وانما وصلت إلينا من هذه الطريق التى تصل منها القصص والأساطير: طريق الرواية والأحاديث ، طريق الفكاهة واللعب ، طريق التكلف والانتحال .
فنحن مضطرون أمام هذا كله إلى أن نحتفظ بحريتنا كاملة، والى ان نقاوم ميولنا وأهواءنا وفطرتنا التى هى مستعدة للتصديق والاطمئنان فى سهولة ويسر.
ونحن لا نعرف نصا عربيا وصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة يمكن ان نطمئن إليها قبل القرآن إلا طائفة من النقوش لا تثبت فى الأدب حقا ولا تنفى منه باطلا .
وهى إن أفادت فى تاريخ الرسم فذلك كل ما يمكن أن يؤخذ منها إلى الآن .
القرآن وحده هو النص العربي القديم الذي يستطيع المؤرخ أن يطمئن إلى صحته ويعتبره مشخصا للعصر الذي تلي فيه .
فأما شعر هؤلاء الشعراء وخطب هؤلاء الخطباء وسجع هؤلاء الساجعين فلا سبيل إلى الثقة بها ولا إلى الاطمئنان إليها، ولاسيما بعد ما بسطنا لك فى الكتاب الأول من الأسباب التى تدعو إلى الشك فى صحتها ، وبعد ما بسطنا لك فى الكتاب الثاني من الأسباب التى كانت تحمل الناس على التكلف والانتحال .
إذا فيجب أن يكون لمؤرخ الآداب العربية موقفان مختلفان : أحدهما أمام الأساطير والأقاصيص والأسمار التى تروى سكن العصر الجاهلى .
والثاني أمام النصوص التاريخية الصحيحة التى تبتدئ بالقرآن .
وقد بينا لك فى الكتاب الماضي أن هذا ليس شأن الآداب العربية وحدها، وانما هو شأن الآداب القديمة كلها ، وضربنا لك الأمثال بالأدب اليونانى والأدب اللاتيني .
ولولا أنا نحرص على الإيجاز لضربنا لك أمثالا أخرى لطائفه من الآداب الحية الحديثة ؟ فلكل أدب قسمه الصحيح وقسمه المتكلف ، ولكل أمة تاريخها الصحيح وتاريخها المنتحل .
ولسنا ندرى لم يريد أنصار القديم أن يميزوا الأمة العربية والأدب العريى من سائر الأمم والآداب ؟
ومن الذى يستطيع أن يزعم أن الله قد وضع القوانين العامة لتخضع لها الإنسانية كلها إلا هذا الجيل الذى كان ينتسب إلى عدنان وقحطان ؟ كلا !
الجيل العربي كغيره من الأجيال خاضع لهذه القوانين العامة التى تسيطر على حياة الأفراد والجماعات .
للعرب خيالهم الشعبي .
وهذا الخيال قد جد وعمل وأثمر، وكانت نتيجة جده وعمله وأثماره هذه الأقاصيص والأساطير التى تروى لا عن العصر الجاهلى وحده بل عن العصور الإسلامية التاريخية أيضا .
وقد رأيت فى فصولنا التى سميناها " حديث الأربعاء " أنا نشك فى طائفة من هذه القصص الغرامية التى تروى عن العذريين وغيرهم من العشاق فى العصر الأموي . ويجب حقا أن نلغى عقولنا- كما يقول بعض الزعماء السياسيين - لنؤمن بأن كل ما يروى لنا عن الشعراء والكتاب والخلفاء والقواد والوزراء صحيح ، لأنه ورد فى كتاب الأغانى أو فى كتاب الطبري أو في كتاب المبرد أو في سفر من أسفار الجاحظ .
نعم يجب أن نلغى عقولنا وأن نلغى وجودنا الشخصي وأن نستحيل إلى كتب متحركة: هذا يحفظ الكامل لا يعدوه فيصبح نسخه من كتاب الكامل تمشى على رجلين وتنطق بلسان ؟ وهذا يحفظ كتاب البيان والتبيين فيصبح نسخة منه ؟
وهذا يحفظ أخلاطا من هذه الكتب فيصبح مزاجا غريبا يتكلم مرة بلسان الجاحظ وأخرى بلسان المبرد وثالثة بلسان ثعلب ورابعة بلسان ابن سلام .
لأنصار القديم أن يرضوا لأنفسهم بهذا النحو من أنحاء الحياة العلمية .
أما نحن فنأبى كل الإباء أن نكون أدوات حاكية أو كتبا متحركة، ولا نرضى إلا أن تكون لنا عقول نفهم بها ونستعين بها على النقد والتمحيص فى غير تحكم ولا طغيان . وهذه العقول تضطرنا، كما اضطرت غيرنا من قبل ، إلى أن ننظر إلى القدماء كما ننظر إلى المحدثين دون أن ننسى الظروف التى تحيط بأولئك وهؤلاء .
فأنا لا أقدس أحدا من الذين يعاصرونني ولا أبرئه من الكذب والانتحال ولا أعصمه من الخطأ والاضطراب .
فإذا تحدث إلى بشيء أو نقل لي عنه شئ، فأنا لا أقبل حتى أنقد وأتحرى، وأحلل وأدقق فى التحليل .
وما أعرف أن أحدا من أنصار القديم أنفسهم يقدس المعاصرين ويطمئن إليهم من غير نقد ولا تبصر. وآية ذلك أنهم يحيون حياتهم اليومية كما يحياها أنصار الجديد، فهم يبيعون ويشترون ويدخرون كما يبيع غيرهم وكما يشترى وكما يذخر، وهم يدبرون أمورهم الخاصة كما يدبرها سائر الناس فى مقدار من الذكاء والفطنة والحذر.
فما بالهم يصطنعون مماتهم الناقدة بالقياس إلى المعاصرين ولا يصطنعونها بالقياس الى القدماء؟ وما بالهم إذا كانوا يحبون التصديق والاطمئنان إلى هذا الحد لا يصدقون البائع حين يزعم لهم أن سلعته تساوى عشرين ، بل يعرضون عليه عشرة وألقل من عشره ويساومون حتى ينتهوا إلى ما يريدون ؟ ولو أنهم صدقوا المحدثين واطمأنوا إليهم كما يصدقون القدماء . ويطمئنون إليهم لكانوا مضرب الأمثال فى الغفلة والبله والحمق ، ولكانت حياتهم كدا وضنكا وعناء .
ولكنا نحمد لهم الله ، فهم بالقياس إلى معاصريهم أصحاب بصر بالأمور وفطنة بدقائقها وحيلة واسعة للتخلص من المآزق ، وهم يشترون اللحم كما نشتريه ويبذلون فى الخبز والسمن مثل ما نبذل .
وإذا فما مصدر هذه التفرقة التى يصطنعونها بين القدماء والمحدثين ؟
ما لهم يؤمنون لأولئك ويشكون فى هؤلاء ؟ ليلى لهذه التفرقة مصدر إلا هذه الفكرة التى تسيطر على نفوس العامة فى جميع الأمم وفى جميع العصور، وهى أن القديم خير من الجديد ، وان الزمان صائر إلى الشر لا إلى الخير، وأن الدهر يسير بالناس القهقرى : يرجع بهم إلى وراء ولا يمضى بهم إلى أمام . . .
زعموا أن القمحة كانت فى العصور الذهبية تعدل التفاحة العظيمة حجما، ثم غضب الله على الناس فأخذت القمحة تتضاءل حتى وصلت إلى حيث هى الآن .
وزعموا أن الرجل من الأجيال القديمة كان من الطول والضخامة والقوة بحيث كان يغمس يده فى البحر فيأخذ منه السمك ثم يرفع يده فى الجو فيشويه فى جذوة الشمس ثم يهبط بيده إلى فمه فيزدرد شواءه ازدرادا .
وزعموا أن أهل الأجيال القديمة كانوا من الضخامة والجسامة بحيث استطاع بعض الملوك ، أو بعض الأنبياء ، أن يتخذ فخذ أحدهم جسرا يعبر عليه الفرات . فالقديم خير من الجديد ، والقدماء خير من المحدثين .
يؤمن العامة بهذا إيمانا لا سبيل إلى زعزعته .
وهذا الإيمان يتطور ويتغير ؛ ولكن أصله ثابت .
فأصحاب الحضارة والمدنية الذين أخذوا من العلم بحظ لا يؤمنون بمثل هذه الأحاديث التى قدمتها لك ؛ ولكنهم يرون أن الأخلاق مثلا كانت أشد استيقاظا فى العصور الأولى، وأن الأفئدة كانت أشد ذكاء ، وأن الأبدان كانت أعظم حظا من الصحة
.
وعلى هذا النحو يكون تفضيل القديم ، لأنه قديم لا نراه من جهة، ولأننا ساخطون بطبعنا على الحاضر من جهة أخرى .
فهل تظن أن الذين يثقون بخلف وحماد والأصمعي وأبى عمرو بن العلاء يثقون بهم لشيء غير ما قدمت لك ؟ كلا !
كان هؤلاء الناس أحسن من المعاصرين أخلاقا وأقل منهم ميلا إلى الكذب ، كانوا أذكى منهم أفئدة، كانوا أقوى منهم حافظه ، كانوا أثقب منهم بصائر.
لماذا ؟ لأنهم قدماء ! لأنهم كانوا يعيشون فى هذا العصر الذهبي ! أليس العصر العباسي عصرا ذهبيا بالقياس إلى هذا العصر الذى نعيش فيه ؟
أما نحن فلا نزعم أن القدماء كانوا شرا من المحدثين ، ولكنا لا نزعم أيضا أنهم كانوا خيرا منهم. وانما أولئك وهؤلاء سواء ، لا تفرق بينهم إلا ظروف الحياة التى تصور طبائعهم صورا ملائمة لها دون أن تغير هذه الطبائع .
كان القدماء يكذبون كما يكذب المحدثون ، وكان القدماء، يخطئون كما يخطئ المحدثون ، وكان حظ القدماء من الخطأ أعظم من حظ المحدثين ، لأن العقل لم يبلغ من الرقى فى تلك العصور ما بلغ فى هذا العصر ولم يستكشف من مناهج البحث والنقد ما استكشف فى هذا العصر.
فإذا أخذنا أنفسنا بأن نقف أمام القدماء موقف الشك والاحتياط فلسنا غلاة ولا مسرفين ، وانما نحن نؤدي لعقولنا حقها ونؤدي للعلم ماله علينا من دين .
وإذا كنا نطلب إلى أنصار القديم شيئا فهو أن يكونوا منطقيين ، وأن يلائموا بين حياتهم حين يقرءون ويكتبون وحياتهم حين يبيعون ويشترون .
وإذا فلنتناول مع الإيجاز الشديد شيئا من البحث عن الشعر والشعراء فى العصر الجاهلى لنرى إلى أي شيء نستطيع أن نطمئن من هذه الأشعار والأخبار التى امتلأا بها الكتب والأسفار.



2- امرؤ القيس - عبيد - علقمة

لعل أقدم الشعراء الذين يروى لهم شعر كثير ويتحدث الرواة عنهم بأخبار كثيرة فيها تطويل وتفصيل هو امرؤ القيس .
ونحن نعلم أن الرواة يتحدثون بأسماء طائفة من الشعراء زعموا أنهم عاشوا قبل امرئ القيس وقالوا شعرا ، ولكنهم لا يروون لهؤلاء الشعراء إلا البيت أو البيتين أو الأبيات .
وهم لا يذكرون من أخبار هؤلاء الشعراء إلا الشىء القليل الذى لا يغنى .
وهم يعللون قلة الأخبار والأشعار التى يمكن أن تضاف إلى هؤلاء الشعراء ببعد العهد وتقادم الزمن وقلة الحفاظ .
وقد رأيت فى الكتاب الماضي أن لمكيلا من النقد لما يضاف إلى هؤلاء الشعراء ينتهى بك إلى جحود ما يضاف إليهم من خبر أو شعر.
فلندع هؤلاء الشعراء ولنقف عند امرئ القيس وأصحابه الذين يظهر أن الرواة عرفوا عنهم ورووا لهم الشىء الكثير .
من امرؤ القيس ؟
أما الرواة فلا يختلفون فى أنه رجل من كنده .
ولكن ، من كنده ؟
لا يختلف الرواة فى أنها قبيلة من قحطان ؛ وهم يختلفون بعض الاختلاف فى نسبها وفى تفسير اسمها وفى أخبار سادتها .
ولكنهم على كل حال يتفقون على أنها قبيلة يمانية، وعلى أن امرأ القيس منها .
فأما اسم امرئ القيس واسم أبيه واسم أمه فأشياء ليس من اليسير الاتفاق عليها بين الرواة ؟
فقد كان اسمه امرأ القيس ، وقد كان اسمه حندجا، وقد كأن اسمه قيسا.
وقد كان اسم أبيه عمرا ، وقد كان اسم أبيه حجرا أيضا .
وكان اسم أمه فاطمة بنت ربيعة أخت مهلهل وكليب ، وكأن اسم أمه تملك .
وكان امرؤ القيس يعرف بأبى وهب ، وكان يعرف بأبى الحارث .
ولم يكن له ولد ذكر.
وكان يئد بناته جميعا. وكانت له ابنه يقال لها هند ؟
ولم تكن هند هذه ابنته وانما كانت بنت أبيه .
وكان يعرف بالملك الضليل ، وكان يعرف بذي القروح .
وعليك أنت ان تستخلص من هذا الخليط المضطرب ما تستطيع ان تسميه حقا أو شيئا يشبه الحق .
وأي شيء أيسر من أن تأخذ ما اتفقت عليه كثرة الرواة على أنه حق لاشك فيه ؟
وكثرة الرواة قد اتفف على أن اسمه حندج بن حجر، ولقبه امرؤ القيس ، وكنيته أبو وهب ؟
وأمه فاطمة بنت ربيعه .
على هذا اتفقت كثرة الرواة .
وإذا اتفقت الكثرة على شيء فيجب أن يكون صحيحا أو على اقل تقدير يجب أن يكون راجحا .
أما أنا فقد أطمئن إلى آراء الكثرة، أو قد أرانى مكرها على الاطمئنان لأراء الكثرة، فى المجالس النيابية وما يشبهها .
ولكن الكثرة فى العلم لا تغنى شيئا ؟
فقد كانت كثرة العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها ، وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة .
وكانت كثرة العلماء ترى كل ما أثبت العلم الحديث أنه غير صحيح . فالكثرة فى العلم لا تغنى شيئا .
وإذا فليس من سبيل الى أن نقبل قول الكثرة في امرئ القيس ؟ وانما السبيل أن نوازن بينه وبين ما تزعم القلة .
وليس إلى هذه الموازنة المنتجة من سبيل إذا لاحظت ما قدمناه فى الكتاب الماضي من هذه الأسباب التى كانت تحمل على الانتحال وتكلف القصص .
وإذا فلسنا نستطيع أن نفصل بين الفريقين المختلفين ، وانما نحن مضطرون إلى أن نقبل ما يقول أولئك وهؤلاء على أن الناس كانوا يتحدثون به دون أن نرف وجه الحق فيه .
ولعل ، هذا وأشباهه من الخلط فى حياة امرئ القيس أوضح دليل على ما نذهب إليه من أن امرأ القيس إن يكن كد وجد حقا- ونحن نرجح ذلك ونكاد نوقن به - فإن الناس لم يعرفوا عنه شيئا إلا اسمه هذا ، وإلا طائفة من الأساطير والأحاديث تتصل بهذا الاسم .
وهنا يحسن أن نلاحظ أن الكثرة من هذه الأساطير والأحاديث لم تشع بين الناس إلا فى عصر متأخر: وفى عصر الرواة المدونين والقصاصين .
فأكبر الظن إذا أنها نشأت فى هذا العصر ولم تورث عن العصر الجاهلى حقا .
وأكبر الظن أن الذى أنشأ هذه القصة ونماها إنما هو هذا المكان الذى احتلته قبيلة كندة فى الحياة الإسلامية منذ تمت للنبي السيطرة على البلاد العربية إلى القرن الأول للهجرة .
فنحن نعلم أن وفدا من كندة وفد على النبى وعلى رأسه الأشعث بن قيس .
ونحن نعلم أن هذا الوفد طلب - فيما تقول السيرة - إلى النبى أن يرسل معهم مفقها يعلمهم الدين .
نحن نعلم أن كندة ارتدت بعد موت النبى ، وأن عامل ابى بكر حاصرها فى النُجير وأنزلها على حكمه وقتل منها خلقا كثيرا وأوفد ملها طائفة إلى أبى بكر فيها الأشعث بن قيس الذى تاب وأناب وأصهر إلى أبى بكر فتروج أخته أم فروة ؟
وخرج - فيما يزعم الرواة - إلى سوق الإبل فى المدينة فاستل سيفه ومضى فى إبل السوق عقرا ونحرا حتى ظن الناس به الجنون ، ولكنه دعا أهل المدينة إلى الطعام وأدى إلى أصحاب الإبل أموالهم ؟
وكانت هذه المجزرة الفاحشة وليمة عرسه .
ونحن نعلم أن الرجل قد اشترك فى فتح الشام وشهد مواقع المسلمين فى حرب الفرس ، وحسن بلاؤه فى هذا كله ، وتولى عملا لعثمان ، وظاهر عليا على معاوية ، وأكره عليا على قبول التحكيم في صفين .
ونحن نعلم أن ابنه محمد بن الأشعث كان سيدا من سادات الكوفة ، عليه وحده اعتمد زياد حين أعياه أخذ حجر بن عدى الكندي .
ونحن نعلم أن قصة حجر بن عدى هذا وقتل معاوية إياه فى نفر من أصحابه قد تركت فى نفوس المسلمين عامة واليمنيين خاصة أثرا قويا عميقا مثل هذا الرجل فى صوره الشهيد.
ثم نحن نعلم أن حفيد الأشعث بن قيس وهو عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث قد ثار بالحجاج ، وخلع عبد الملك ، وعرض دولة آل مروان للزوال ، وكان سببا فى إراقة دماء المسلمين من أهل العراق والشام ، وكان اللذين قتلوا فى حروبه يحصون فيبلغون عشرات الآلاف ، ثم انهزم فلجأ إلى ملك الترك ، ثم أعاد الكرة فتنقل فى مدن فارس ، ثم استيأس فعاد إلى ملك الترك ، ثم غدر به هذا الملك فأسلمه إلى عامل الحجاج ، ثم قتل نفسه فى طريقه إلى العراق ، ثم احتلت رأسه وطوف به فى العراق والشام ومصر.
أفتظن أن أسرة كهذه الأسرة الكندية تنزل هذه المنزلة فى الحياة الإسلامية وتؤثر هذه الآثار فى تاريخ المسلمين لا تصطنع القصص ولا تأجر القصاص لينشروا لها الدعوة ويذيعوا عنها كل ما من شأنه أن يرفع ذكرها ويبعد صوتها ؟
بلى! ويحدثنا الرواة أنفسهم أن عبدالرحمن بن الأشعث اتخذ القصاص وأجرهم كما اتخذ الشعراء وأجزل صلتهم : كان له قاص يقال له عمرو بن ذر ؟
وكان شاعره أعشى همذان .
فما يروى من أخبار كندة فى الجاهلية متأثر من غير شك بعمل هؤلاء القصاص الذين كانوا يعملون لآل الأشعث .
وقصه امرئ القيس بنوع خاص تشبه من وجوه كثيرة حياة عبدالرحمن ابن الأشعث .
فهي مثل لنا امرأ القيس مطالبا بثأر أبيه .
وهل ثار عبد الرحمن عند الذين يفقهون التاريخ إلا منتقما لحجر بن عدى ؟
وهى تمثل لنا امرأ القيس طامعا فى الملك .
وقد كان عبدالرحمن بن الأشعث يرى أنه ليس أقل من بنى أميه استئهالا للملك ؛ وكان يطالب به .
وهى تمثل لنا أمرا القيس متنقلا فى قبائل العرب .
وقد كان عبد الرحمن بن الأشعث متنقلا فى مدن فارس والعراق .
وهى تمثل امرأ القيس لاجئا إلى قيصر مستعينا به .
وقد كان عبد الرحمن بن الأشعث لاجئا إلى ملك الترك مستعينا به .
وهى تمثل لنا أخيرا امرأ القيس وقد غدر به قيصر بعد أن كاد له أسدى فى القصر.
وقد غدر ملك الترك بعبد الرحمن بعد أن كاد له رسل الحجاج .
وهى تمثل لنا بعد هذا وذاك امرأ القيس وقد مات فى طريقه عائدا من بلاد الروم .
وقد مات عبد الرحمن فى طريقه عائدا من بلاد الترك .
أليس من اليسير أن نفترض بل إن نرجح أن حياة امرئ القيس كما يتحدث بها الرواة ليست إلا لونا من التمثيل لحياه عبدالرحمن استحدثه القصاص إرضاء لهوى الشعوب اليمنية فى العراق واستعاروا له اسم الملك الضليل اتقاء لعمال بنى أمية من ناحية ، واستغلالا لطائفة يسيرة من الأخبار كانت تعرف عن هذا الملك الضليل من ناحية أخرى؟ ستقول : وشعر امرئ القيس ما شأنه ؟
وما تأويله ؟
شأنه يسير، وتأويله أيسر.
فأقل نظر فى هذا الشعر يلزمك أن تقسمه إلى قسمين : أحدهما يتصل بهذه القصة التى قدمنا الإشارة إليها .
وإذا فشأنه شأن هذه القصة انتحل لتفسيرها أو تسجيلها، وانتحل لتمثيل هذا التنافس القوى الذى كان قائما بين قبائل العرب وأحيائهم فى الكوفة والبصرة .
واقل درس لهذا الشعر يقنعك ، إن كنت من الذين يألفون البحث الحديث ، بأن هذا الشعر الذى يضاف إلى امرئ القيس ويتصل بقصته إنما هو شعر إسلامي لا جاهلي، قيل وانتحل لهذه الأسباب التى أشرنا إليها ولأسباب أخرى فصلناها فى القسم الثاني من هذا الكتاب .
فهذا أحد القسمين .
وأما القسم الثاني فشعر لا يتصل بهذه القصة، وانما يتناول فنونا من القول مستقلة من الأهواء السياسية والحزبية .
ولنا فى هذا القسم رأى نسطره بعد حين .
وخلاصة هذا البحث القصير أن شخصية امرئ القيس - إذا فكرت - أشبه شئ بشخصية الشاعر اليوناني هوميروس .
لا يشك مؤرخو الآداب اليونانية الآن فى أنها قد وجدت حقا، وأثرت فى الشعر القصصي حقا، وكان تأثيرها قويا باقيا ؟ ولكنهم لا يعرفون من أمرها شيئا يمكن الاطمئنان إليه ، وانما ينظرون إلى هذه الأحاديث التى تروى عنه كما ينظرون إلى القصص والأساطير لا أكثر ولا أقل .
فامرؤ القيس هو الملك الضليل حقا : نريد أنه الملك الذى لا يعرف عنه شيء يمكن الاطمئنان إليه .
هو ضل بن قل كما يقول أصحاب المعاجم اللغوية .
ومن غريب الأمر أن طائفة من الشعر تنسب إلى امرئ القيس على انه قالها حينما كان متنقلا فى القبائل العربية يمدح بها هذه ويهجو تلك ، وتتصل بهذه الأشعار طائفة من الأخبار تبين نزول امرئ القيس فى هذه القبيلة، والتجاءه إلى تلك القبيلة، وجواره عند فلان ، واستعانته بفلان ، وأن شيئا مكل هذا يلاحظ فى حياة هوميروس ؟
فهو- فيما يزعم رواة اليونان - قد تنقل فى المدن اليونانية فلقي من بعضها الكرامة والتجلة، رمن بعضها الإعراض والانصراف .
ومؤرخو ا لآداب اليونانية يفسرون هذه الأحاديث على أنها مظهر من مظاهر التنافس بين المدن اليونانية : كلها يزعم لنفسه أنه ضيف هوميروس أو نشأه أو أجاره أو عطف عليه .
ونحن نذهب هذا المذهب نفسه فى تفسير هذه الأخبار والأشعار التى تمس تنفل امرئ القيس فى قبائل العرب .
فهي محدثه انتحلت حين تنافست القبائل العربية فى الإسلام وحين أرادت كل قبيلة وكل حي أن تزعم لنفسها من الشرف والفضل أعظم حظ ممكن . وقد أحس القدماء بعض هذا ؟
فصاحب الأغانى يحدثنا أن القصيدة القافية التى تضاف إلى امرئ القيس على أنه قالها يمدح بها السموءل حين لجأ إليه منحولة نحلها دارم بن عقال وهو من ولد السموءل .
واكبر ظننا أن دارم بن عقال لم ينحل القصيدة وحدها وانما نحل القصة كلها وانتحل ما يتصل بها أيضا ؛ نحل قصة ابن السموءل الذى قتل بمنظر من أبيه حين أبى تسليم أسلحه امرئ القيس ، نحل قصة الأعشى الذي استجار بشريح بن السموءل وقال فيه هذا الشعر المشهور :
شريح لا تتركنى بعد ما علقت = حبالك اليوم بعد القد أظفاري
قد حلت ما بين بانقيا إلى عدن = وطال فى العجم تردادي وتسيارى
فكان أكرمهم عهدا وأوثقهم = مجدا أبوك بعرف غير إنكار
كالغيث ما استمطروه جاد وابله = وفى الشدائد كالسمتأسد الضاري
كن كالسموءل إذ طاف الهمام به = فى جحفل كهزيع الليل جزار
إذ سامه خطتي خسف فكال له = قل ما تشاء فإني سامع حار
فقال غدر وثكل أنت بسنهما = فاختر وما فلهما حظ لمختار
فشط غير طويل ثم قال له = أقتل أسيرك إني مانع جارى
أنا له خلف إن كنت قاتله = وإن قتلت كريما غير غوار
وسوف يعقبنيه إن ظفرت به = رب كريم وبيض ذات أطهار
لاسرهن لدينا ذاهب هدرا = وحافظات إذا استودعن اسرارى
فأختار أد راعه كي لا يسب بها = ولم يكن وعده فيها بختار

ثم كانت هذه القصة المنتحلة سببا فى انتحال قصة أخوى هى قصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية وما يتصل بها من الأشعار. منتحلة هذه القصيدة الرائية الطويلة التى مطلعها .
سما لك شوق بعد ما كان أقصرا = وحلت سليمي بطن ظبي فعرعرا

منتحل هذا الشعر الذى قاله امرؤ القيس حين دخل الحمام مع قيصر والذي تنزه هذا الكتاب عن روايته .
منتحل هذا الحب الذى يقال إن امرؤ القيس أضمره لابنة قيصر.
منتحلة هذه الأشعار التى تضاف إلى امرئ القيس حين أحس السم وهو قافل من بلاد الروم .
كل هذا منتحل لأنه يفسر هذه الأحاديث التى شاعت ، لتلك الأسباب التى قدمناها .
وإذا لم يكن بدا من التماس الأدلة الفنية على انتحال هدا الشعر، فقد نحب أن نعرف كيف زار امرؤ القيس بلاد الروم وخالط قيصر حتى دخل معه الحمام وفتن ابنته ورأى مظاهر الحضارة اليونانية فى قسطنطينية ولم يظهر لذلك أثر ما فى شعره : لم يصف القصر ولم يذكره ، لم يصف كنيسة من كنائس قسطنطينية ، لم يصف هذه الفتاه الإمبراطورية التى فتنها، لم يصف الروميات ، لم يصف شيئا ما يمكن أن يكون روميا حقا .
ثم يكفى أن تقرأ هذا الشعر لتحس فيه الضعف والاضطراب والجهل بالطريق إلى قسطنطينية .
ومهما يكن من شيء فإن السذاجة وحدها هى التى تعيننا على أن نتصور أن شاعرا عربيا قديما قال هذا الشعر الذى يضاف إلى امرئ القيس فى رحلته إلى بلاد الروم وقفوله منها.
وإذا رأيت معنا أن كل هذا الشعر الذى يتصل ! بسيرة امرئ القيس إنما هو من عمل القصاص فقد يصح أن نقف معك وقفة قصيرة عند هذا القسم الثاني من شعر امرئ القيس وهو الذى لا يفسر سيرته ولا يتصل بها .
ولعل أحق هذا الشعر بالعناية قصيدتان اثنتان : الأولى : " قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل " والثانية " ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي " فأما ما عدا هاتين القصيدتين فالضعف فيه ظاهر والاضطراب فيه بين والتكلف والإسفاف فيه يكادان يلمسان باليد .
وقد يكون لنا أن نلاحظ قبل كل شيء ملاحظة لا أدرى كيف تتخلص منها أنصار القديم ، وهى أن امرأ القيس - إن، صحت أحاديث الرواة - يمنى، وشعره قرشي اللغة ، لا فرق بينه وبين القرآن فى لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد الكلام .
ونحن نعلم - كما قدمنا - أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز فكيف نظم الشاعر اليمنى شعره فى لغة أهل الحجاز ؟
بل فى لغة قريش خاصة ؟
سيقولون : نشأ امرؤ القيس فى قبائل عدنان وكان ، أبوه ملكا على بنى أسد وكانت أمة من بنى تغلب وكان مهلهل خاله ، فليس غريبا ان يصطنع لغة عدنان ويعدل عن لغة اليمن .
ولكننا نجهل هذا كله ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذى ينسب إلى امرئ القيس .
ونحن بشك فى هذا الشعر ونصفه بأنه منتحل .
وإذا فنحن ندور: نثبت لغة امرئ القيس الذى نشك فيه .
على أننا أمام مسألة أخرى ليست أقل من هذه المسألة تعقيدا فنحن لا نعلم ولا نستطيع أن نعلم الآن أكانت لغة قريش هى، اللغة السائدة فى البلاد العربية أيام امرئ القيس ؟
وأكبر الظن أنها لم تكن لغة العرب فى ذلك الوقت ، وأنها إنما أخذت تسود فى أواسط القرن السادس للمسيح وتمت لها السيادة بظهور الإسلام كما قدمنا .
وإذا فكيف نظم امرئ القيس اليمنى شعره فى لغة القرآن مع أن هذه اللغة لم تكن سائدة فى العصر الذى عاش فيه امرؤ القيس ؟ وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقا فى شعر أمرؤ القيس لفظا أو أسلوبا أو نحوا من أنحاء القول يدل على أنه يمنى .
فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغه عدنان فكيف نستطيع أن نتصور أن لغته الأولى قد محيت من نفسه محوا تاما ولم يظهر لها أثر ما فى شعره ؟ نظن أن أنصار القديم سيجدون كثيرا من المشقة والعناء ليحلوا هذه المشكلة ونظن أن إضافة هذا الشعر إلى امرئ القيس مستحيلة فبل أن تحل هذه المشكلة .
على أننا نحب أن نسأل عن شئ أخر ؛ فامرؤ القيس ابن أخت مهلهل وكليب ابنى ربيعه - فيما يقولون - ، وأنت تعلم أن قصة طويلة عريضة قد نسجت حول مهلهل وكليب هذين ، هى قصة البسوس وهذه الحرب التى اتصلت أربعين سنة - فيما يقولون القصاص - وأفسدت ما بين القبيلتين الأختين بكر وتغلب .
فمن العجيب ألا يشير امرؤ القيس بحرف واحد إلى مقتل خاله كليب ، ولا إلا بلاء خاله مهلهل ، ولا إلى هذه المحن التى أصابت أخواله من بنى تغلب ، ولا إلى هذه المآثر التى كانت لأخواله على بنى بكر.
وإذا فأينما وجت فلن تجد إلا شكا : شكا فى القصة، شكا فى اللغة، شكا فى النسب ، شكا فى الرحلة ، شكأ فى الشعر .
وهم يريدون بعد هذا أن نؤمن ونطمئن إلى كل ما يتحدث به القدماء عن امرئ القيس ! نعم نستطيع أن نؤمن وأن نطمئن لو أن الله قد رزقنا هذا الكسل العقلى الذى يحبب إلى الناس أن يأخذوا بالقديم تجنبا للبحث عن الجديد .
ولكن الله لم لرزقنا هذا النوع من الكسل ، فنحن نؤثر عليه تعب الشك ومشقة البحث .
وهذا البحث ينتهى بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذى يضاف لامرئ القيس ليس من امرئ القيس فى شئ وانما هر محمول عليه حملا ومختلق عليه اختلاقا ، حمل بعضه العرب نفسهم ، وحمل بعضه الآخر الرواة الذين دونوا الشعر فى القرن الثاني للهجرة .
ولننظر فى المعلقة نفسها ، فلسنا نعرف قصيدة يظهر فيها التكلف والتعمل أكثر مما يظهران فى هذه القصيدة .
لا نحفل بقصة تعليق هذه القصائد السبع أو العشر على الكعبة أو فى الدفاتر .
فما نظن أن أنصار القديم يحفلون بهذه القصة التى نشأت فى عصر متأخر جدا والتي لا يثبتها شئ فى حياة العرب وعنايتهم بالآداب .
ولكننا نلاحظ أن القدماء أنفسهم يشكون فى بعض هـذه القصيدة فهم يشكون فى صحة هذين البيتين :
ترى بعر الآرام في عرصاتها = وقيعانها كأنه حب فلفل
كأني غداة البين يوم تحملوا = لدى سمرات الحي ناقف حنطل

وهم يشكون فى هذه الأبيات :
وقرية أقوام جعلت عصامها = على كاهل منى ذلول ، مرحل
رواد كجوف العير قفر قطعته = به الذئب يعوى كالخليع المعيل
فقلت له لما عوى إن شأننا = قليل الغنى إن كنف لما تمول
كلانا إذا ما نال شيئا أفاته = ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل

وهم بعد هذا يختلفون اختلافا كثيرا فى رواية القصيدة : فى ألفاظها وفى ترتيبها ، ويضعون لفظا مكان لفظ وبيتا مكان بيت .
وليس هذا الاختلاف مقصورا على هذه القصيدة، وانما يتناول الشعر الجاهلى كله .
وهو اختلاف قد أعطى المستشرقين صورة سيئة كاذبة من الشعر العربي، فخيل إليهم أنه غير منسق ولا مؤلف ، وأن الوحدة لا وجود لها فى القصيدة وان الشخصية الشعرية لا وجود لها فى القصيدة أيضا ، وأنك تستطيع أن تقدم وتؤخر وان تضيف الى الشاعر شعر غيره دون أن تجد فى ذلك حرجا أو جناحا مادمت لم تخل بالوزن ولا بالقافية .
وقد يكون هذا صحيحا فى الشعر الجاهلى ، لأن كثرة هذا الشعر منتحلة مصطنعة .
فأما الشعر الاسلامى الذى صحت نسبته لقائليه فأنا أتحدى أي ناقد أن يعبث به أقل عبث دون أن يفسده .
وأنا أزعم أن وحدة القصيدة فيه بيئة، وان شخصية الشاعر فيه ليست اقل ظهورا منها فى أي شعر أجنبي.
إنما جاء هذا الخطأ من اتخاذ هذا الشعر الجاهلى نموذجا للشعر العريى؟ مع أن هذا الشعر الجاهلى - كما قدمنا- لا يمثل شيئا ولا يصلح إلا نموذجا لعبث القصاص وتكلف الرواة .
ونظن أن أنصار القديم لا يخالفون فى أن هذين البيتين قلقان فى القصيدة وهما :
وليل كموج البحر أرخى سدوله = على بأنواع الهموم ليبتلى
فقلت له لما تمطى بصلبه = وأردف أعجازا وناء بكلكل

فقد وضع هذان البيتان للدخول على البيت الذى يليهما وهو :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى = بصبح وما الإصباح منك بأمثل

وهذان البيتان أشبه بتكلف المشطر والمخمس منهما بأي شئ آخر.
فإذا فرغنا من هذا الشعـر الذى لا نكاد نختلف فى أنه دخيل فى القصيدة ، فقد نستيطع أن نرد القصيدة إلى أجزائها الأولى .
وهذه الأجزاء هى : أولا وقوف الشاعر على الدار وما يتصل بذلك من بكاء وإعوال ، ثم ذكره أيام لهوه مع العذارى ، ثم عتابه لصاحبته وما يتصل بذلك من وصف خليلته ، ثم ذكر- الليل والاستطراد منه إلى الصيد وما يتوسل به إلى الصيد من وصف الفرس ، ثم ذكر البرق وما يتبعه من السيل .
ولنسرع إلى القول بأن وصف اللهو مع العذارى وما فيه من فحش أشبه بأن يكون من انتحال الفرذدق منه بأن يكون جاهليا .
فالرواة يحدثوننا أن الفرزدق خرج فى يوم مطير إلى ضاحية البصرة فاتبع آثارا حتى انتهى إلى غدير وإذا فيه نساء يستحممن ، فمال : ما أشبه هذا اليوم بيوم دارة جلجل ، وولى منصرفا ؛ فصاح النساء به : يا صاحب البغلة ؛ فعاد إليهن فسألنه وعزمن عليه ليحدثهن بحديث دارة جلجل ؛ فقص عليهن قصة امرئ القيس وأنشدهن قوله :
إلا رب يوم لك منهن صالح = ولا سيما يوم بدارة جلجل

والذين يقرءون شعر الفرذدق ويلاحظون فحشه وغلظته وأنه قد ليم على هذا الفحش وعلى هذه الغلظة لا يجدون مشقة فى أن يضيفوا إليه هذه الأبيات ، فهي بشعره أشبه .
وكثيرا ما كأن القدماء يتحدثون بمثل هذه الأحاديث يضيفونها الى القدماء وهم ينتحلونها من عند أنفسهم .
ومهما يكن من شئ، فلغة هذه الأبيات كلغة القصيدة كلها عدنانية قرشية يمكن أن تصدر عن شاعر إسلامي اتخذ لغة القرآن لغة أدبية .
أما وصف امرئ القيس لخليلته " وزيارته إياها، وتجشمه ما تجشم للوصول إليها، وتخوفها الفضيحة حين رأته ، وخروجها معه وتعفيتها آثارهما بذيل مرطها، وما كان بسنهما من لهو ، فهو أشبه بشعر عمر بن أبى ربيعة منه بأى شئ آخر.
فهذا النحو من القصص الغرامى فى الشعر، فن عمر بن أبى ربيعة قد احتكره احتكارا ولم ينازعه فيه أحد.
ولقد يكون غريبا حقا أن يسبق امرؤ القيس الى هذا الفن ويتخذ فيه هذا الأسلوب ويعرف عنه هذا النحو، ثم يأتى ابن أبى ربيعة فيقلده فيه ولا يشير أحد من النقاد الى أن ابن ابى ربيعة قد تأثر بامرئ القيس مع أنهم قد أشاروا الى تأثير امرئ القيس فى طائفة من الشعراء فى أنحاء من الوصف .
فكيف يمكن أن يكون امرؤ القيس هو منشئ هذا الفن من الغزل الذى عاش عليه ابن أبى ربيعة والذي كون شخصية ابن أبى ربيعة الشعرية ولا يعرف له ذلك ؟
وأنت إذا قرأت قصيدة أو قصيدتين من شعر ابن أبى رييعة لم تكد نشك فى أن هذا الفن فنه ابتكره ابتكارا واستغله استغلالا قويا، وعرفت العرب له هذا .
وقل مثل هذا فى هذا القصص الغرامى الذى تجده فى قصيدة امرئ القيس الأخرى : " ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي " . ففي هذا القصص الفاحش فن ابن أبى رييعة وروح الفرزدق .
ونحن نرجح إذا أن هذا النوع من الغزل إنما أضيف الى امرئ القيس ، أضافه رواة متأثرون بهذين الشاعرين الإسلاميين .
بقى الوصف ، ولاسيما وصف الفرس والصيد.
ولكننا نقف فيه موقف التردد أيضا .
واللغة هى التى تضطرنا الى هذا الموقف .
فالظاهر أن امرأ القيس كان قد نبغ فى وصف الخيل والصيد والسيل والمطر.
والظاهر أنه قد استحدث فى ذلك أشياء كثيرة لم تكن مألوفة من قبل .
ولكن أقال هذه الأشياء فى هذا الشعر الذى بين أيدينا أم قالها فى شعر آخر ضاع وذهب به الزمان ولم يبق منه إلا الذكرى وإلا جمل مقتضبة أخذها الرواة فنظموها فى شعر محدث نسقوه ولفقوه وأضافوه إلى شاعرنا القديم ؟
هذا مذهبنا الذى نرجحه .
فنحن نقبل أن امرأ القيس وهو أول من قيد الأوابد ، وشبه الخيل بالعصى والعقبان وما إلى ذلك ، ولكننا نشك أعظم الشك فى أن يكون قد قال هذه الأبيات التى يرويها الرواة .
وأكبر الظن أن هذا الوصف الذى تجده فى المعلقة وفى اللامية الأخرى فيه شئ من ريح امرئ القيس ، ولكن من ريحه ليس غير.
هناك قصيدة ثالثة نجزم نحن بأنها منتحلة انتحالا .
وهى القصيدة البائية التى يقال إن امرأ القيس أنشأها يخاصم بها علقمة بن عبدة الفحل ، وأن أم جندب زوج امرئ القيس قد غلبت علقمة على زوجها. وأنت تجد القصيدتين فى ديوان امرئ القيس وديوان علقمة . فأما قصيدة امرئ القيس فمطلعها :
خليلي مرا بي على أم جندب = نقض لبانات الفؤاد المعذب

وأما قصيدة علقمة فمطلعها :
ذهبت من الهجران لي في كل مذهب = ولم يك حقا كل هذا التجنب

ويكفى أن نقرأ هذان البيتين لنحس فيهما رقة إسلامية ظاهرة .
على أن النظر فى هاتين القصيدتين سيقفك على أن هذين الشاعرين قد تواردا على معان كثيرة بل على ألفاظ كثيرة بل على أبيات كثيرة تجدها بنصها فى القصيدتين معا ، وعلى أن البيت الذى يضاف إلى علقمة وبه ربح القضية يروى لامرئ ا لقيس، وهو:
فأدركهن ثانيا من عنانه = يمر كمر الرائح المتحلب

والبيت الذى خسر به امرؤ القيس القضية يروى لعلقمة وهو :
فللسوط ألهوب وللساق درة = وللزجر منه وقع أهوج منعب

وأنت تستطيع أن تقرأ القصيدتين دون أن تجد فيهما فرقا بين شخصية الشاعرين ، بل أنت لا تجد فيهما شخصية ما ، وانما تحس أنك تقرأ كلاما غريبا منظوما فى جمع ما يمكن جمعه من وصف الفرس جملة وتفصيلا.
وأكثر الظن أن علقمة لم يفاخر امرأ القيس ، وأن أم جندب لم تحكم بسنهما ، وأن القصيدتين ليستا من الجاهلية فى شئ ، وانما هما صنع عالم من علماء اللغة لسبب من تلك الأسباب التى أشرنا فى الكتاب الماضي إلى أنها كانت تحمل علماء اللغة على الانتحال .
وكان أبو عبيدة والأصمعي يتنافسان في العلم بالخيل ووصف العرب إياها: أيهما اقدر عليه وأحذق به .
وما نظن إلا أن هاتين القصيدتين وأمثالهما آثر من آثار هذا النحو من التنافس بين العلماء من أهل الأمصار الإسلامية المختلفة .
وهنا وقفة أخرى لابد منها. ذلك أن امرأ القيس لا يذكر وحده وانما يذكر معه من الشعراء علقمة-كما رأيت - وعبيد ابن الأبرص .
فأما علقمة فلا يكاد الرواة يذكرون عنه شيئا إلا مفاخرته لامرئ القيس ومدحه ملكم من ملوك غسان ببائيته التى مطلعها :
طحا بك قلب لحسان طروب = بعيد الشباب عصر حان مشيب

وإلا أنه كان يتردد على قريش ويناشدها شعره ، وإلا انه مات بعد ظهور الإسلام اى فى عصر متأخر جدا بالقياس إلى امرئ القيس الذى مهما يتأخر فقد مات قبل مولد النبى . والذي نرى نحن أنه عاش قبل القرن السادس وربما عاش قبل القرن الخامس أيضا .
وأما عبيد فقد التمسنا فى سيرته وما يضاف إليه من الشعر ما يعيننا على إثبات شخصية امرئ القيس وشعره فكانت النتيجة محزنة جدا .
ذلك أنها انتهت بنا إلى أن نقف من عبيد وشعره نفس الموقف الذى وقفناه من امرئ القيس وشعره وليس علينا فى ذلك ذنب ، فالرواة لا يحدثوننا عن عبيد بشيء يقبل التصديق .
إنما عبيد عند الرواة والقصاص شخص من أصحاب الخوارق والكرامات ، كان صديقا للجن والسماء معا ، عمر عمرا طويلا يصلون به إلى ثلاثة قرون ومات ميتة منكرة : قتله النعمان بن المنذر أو المنذر بن ماء السماء فى لوم بؤسه .
والرواة يعرفون شيطان عبيد .
واسم هذا الشيطان هبيد، وقد حاول بعضهم أن يرسل هذا المثل : " لولا هبيد ما كان عبيد " .
وقد رووا لهبيد هذا شعرا وزعموا أنه أراد أن يلهم الشعر ناسا غير عبيد فلم يوفق.
ولعبيد مع الجن أحاديث لا تخلو من لذة وعجب .
ولكن كل ما نقرأ من أخبار عبيد لا يعطينا من شخصيته شيئا ولا يبعث الاطمئنان إلا فى انفس العامة أو أشباه العامة .
فأما شعر عبيد فليس أشد من شخصيته وضوحا .
فالرواة يحدثوننا بأنه مضطرب ضائع .
وابن سلام يحدثنا فى موضع من كتابه " طبقـات الشعراء " ، أنه لم يبق من شعر عبيد وطرفه إلا قصائد بقدر عشر ، ولكنه يحدثنا فى موضع آخر أنه لا يعرف له إلا قوله :
أقفر من أهله ملحوب = فالقطبيات فالذنوب

ثم يقول ابن سلام : ولا أدرى ما بعد ذلك . ولكن رواة آخرين يروون هذه القصيدة كاملة ويروون له شعرا آخر فى هجاء امرئ القيس ومعارضته ، وفى استعطافه حجر على بنى أسد .
ويكفى أن تقرأ هذه القصيدة التى قدمنا طلعها لتجزم بأنها منتحلة لا أصل لها .
وحسبك أته يثبت فيها وحدانية الله وعلمه على نحو ما يثبتها القرآن فيقول :
والله ليس له شريك = علام ما أخفت القلوب

فأما شعره الآخر الذى عارض فيه امرأ القيس وهجا فيه كندة فلا حظ له من صحة فيما نعتقد .
وذلك أن فيه إسفافا وضعفا وسهولة فى اللفظ والأسلوب لا يمكن أن تضاف إلى شاعر قديم . ويكفى أن تقرأ هذه القصيدة النى أولها :
يا ذا المخوفنا بقت = ل أبيه إذلالا وحينا
أزعمت انك قد قتلتت = ت ستراتنا كذبا ومينا

لتعرف أنها من عمل القصاص ، وأن هذا الشعر وأشباهه إنما هو من أثر التنافس بين العصبية اليمنية والمضرية .
ولولا أننا نؤثر الإيجاز ونحرص عليه لروينا لك هذا الشر ووضعنا يدك على مواضع التوليد فيه ؟
ولكن الرجوع إلى هذا الشعر يسير والحكم عليه أيسر.
وإذن فكل شعر امرئ القيس الذى يتصل بشعر عبيد هذا منحول أيضا كشعر عبيد.
وقد رأيت من هذه الالمامة القصيرة بهؤلاء الشراء الثلاثة : (امرئ القيس وعبيد وعلقمة) أن الصحيح من شعرهم لا يكاد يذكر وأن الكثرة المطلقة من هذا الشعر مصنوعة لا تثبت شيئا ولا تنفى شيئا بالقياس إلى العصر الجاهلى ، لا نستثنى من ذلك إلا قصيدتين اثنتين لعلقمة : الأولى : " طحا بك قلب للحسان طروب " والثانية : " هل ما علمت وما استودعت مكتوم " فقد يمكن أن يكون لهاتين القصيدتين نصيب من الصحة مع شئ من التحفظ فى بعض أبيات القصيدة الثانية .
ولكن صحة هاتين القصيدتين لا تمس رأينا فى الشعر الجاهلى فقد رأيت أن علقمة متأخر العصر جدا، وأنه مات بعد ظهور الإسلام ، ورأيت أيضا أنه كان يأتى قريشا ويعرض عليها شعره.
على أننا احتفظنا لأنفسنا بالشك فى بعض أبيات القصيدة الثانية يظهر فيها التوليد، وهى هذه الأبيات التى يذهب فيها الشاعر مذهب ؟ الحكمة وضرب المثل ؟


3- عمرو بوقميئة- مهلهل - جليلة

وشاعران آخران يتصل ذكرهما بذكر امرئ القيس .
كان أحدهما - فيما يقول الرواة صديقا له ، صحبه فى رحلته فى قسطنطينية، ولم لعد من هذه الرحلة كما لم يعد امرئ القيس ، وهو عمرو اثن قميئة .
وكان الآخر خال امرئ القيس - فيما يقول الرواة - وهو مهلهل بن ربيعة .
ولابد من وقفة قصيرة عند هذين الشاعرين فسترى بعد قليل من التفكير أن حياتهما ليست أوضح ولا أثبت من حياة امرئ القيس وعبيد ، وأن شعرهما ليس أصح ولا أصدق من شعر امرئ القيس وعبيد .
ولنلاحظ قبل كل شئ أن بين امرئ القيس وعمرو بن قميئة شبها غريبا ، فقد كان امرؤ القيس يسمى الملك الضليل.
وفسرنا نحن هذا الاسم تفسيرا غير الذى اتفق عليه الرواة وأصحاب اللغة .
فقلنا إنه الملك المجهول الذي لا يعرف عنه شئ، قلنا إنه ضل بن قل .
وكانت العرب تسمى عمرو بن قميئة عمرا الضائع.
فأما المتأخرون من الرواة بعد الإسلام فقد التمسوا لهذه التسمية تفسيرا فوجدوه فى سهولة ويسر، أليس قد رحل مع امرئ القيس فى القسطنطينية ؟
أليس قد مات فى هذه الرحلة ؟ فهو إذن عمرو الضائع لأنه ضاع فى غير قصد ولا وجه .
أما نحن فنفسر هذا الاسم كما فسرنا اسم امرئ القيس ، ونرى أن عمرو بن قميئة ضاع كما ضاع امرؤ القيس من الذاكرة، ولم يعرف من أمره شئ إلا اسمه هذا كما لم يعرف أمر امرئ القيس ولا من أمر عبيد إلا اسمهما ، ووضعت له قصة كما وضعت لكل من صاحبيه قصة، وحمل عليه شعر كما حمل علي صاحبيه الشعر أيضا .
قال الرواة : إن ابن قميئة عمر طويلا وعرف امرأ القيس وقد انتهت به السن إلى الهرم ، ولكن امرأ القيس أحبه واستصحبه فى رحلته رغم سنه .
قال ابن سلام : إن بنى اقيش كانوا يدعون بعض شعر امرئ القيس لعمرو بن قميئة، وليس هذا بشيء . وفى الحق إن هذا ليس بشيء ؟
فإن هذا الشعر لا يمكن أن يكون لعمرو ابن قميئة كما لا يمكن أن يكون لامرئ القيس فهو شعر محدث محمول .
وإذا كأن عمرو بن قميئة لم يعرف امرأ القيس ، إلا بعد أن تقدمت به السن وأدركه الهرم فيجب أن يكون قد قال الشعر قبل امرئ القيس الذى لم تتقدم به السن .
والرواة يزعمون أن ابن قميئة قال الشعر فى شبابه الأول .
وإذن فليس امرؤ القيس هو أول من فتع للناس باب الشعر، ولكن ما لنا نقف عند شيء كهذا والرواة يضطربون فيه اضطرابا شديدا ؟ فهم يزعمون أن أول من قصد القصائد مهلهل ابن ربيعة خال امرئ القيس .
وكان امرأ القيس إنما جاءه الشعر من قبل أمه ومعنى ذلك أن الشعر عدنانى لا قحطانى .
ومن هنا نشأت نظرية أخرى تزعم أن الشعر يمانى كله ، بدئ بامرئ القيس فى الجاهلية وختم بأبى نواس فى الإسلام .
فأنت ترى أنا حين نقف عند مسألة كهذه لا تتجاوز العصبية بين عدنان وقحطان ولكن سترى أكثر من هذا بعد قليل .
قصة عمرو بن قميئة التى يرويها الرواة ليست شيئا قيما، وانما هى حديث كغيره من الأحاديث ؟
فهم يزعمون أن أباه توفى عنه طفلا فكفله عمه ؟ونشأ
عمرو جميلا وضئ الطلعة فكلفت به امرأة عمه وتكلمت ذلك حتى إذا غاب زوجها لأمر من أموره أرسلت إلى الفتى، فلما جاء دعته إلى نفسها فامتنع وفاء لعمه وامتناعا عن منكر الأمر، وانصرف .
ولكنها حنقت عليه وألقت على أثره جفنه ، حتى إذا عاد زوجها أظهرت الغضب والغيظ وقصت على زوجها الأمر وكشفت عن الأثر، فغضب الرجل على ابن أخيه .
هنا يختلف الرواة، فمنهم من يزعم أنه هم بقتله " فهرب الى الحيرة، ومنهم من يزعم أنه أعرض عنه .
ومهما يكن من شئ فقد اعتذر الشاب إلى عمه في شعر نروى لك منه طرفا لتلمس بيدك ما فيه من سهولة ولين وتوليد :
خليلي لا تستعجلا أن تزودا = وأن تجمعا شملي وتنتظرا غدا
فما لبثي يوما بسائق مغنم = ولا سرعتي يوما بسائقة الردى
ون تنظرا فى اليوم أقض لبانه = وتستوجبا منا على وتحمدا
لعمرك ما نفس بجد رشيدة = تؤامرنى سوءا لأصوم مرثدا
وإن ظهرت منى قوارص جمة = وأفرغ من لؤمي مرارا واصعدا
على غير جرم أن أكون جنيته = سوى قول باغ كادني فتجهدا
لعمري لنعم المرء تدعو بخلة = إذا المنادى فى المقامة نددا
عظيم رماد القدر لا متعبس = ولا مؤيس منها إذا هو أوقدا
وإن صرحت كحل وهبت عرية = من الريح لم تترك من المال مرقدا
صبرت على وطء الموالى وخطبهم = إذا ضن ذو القربى عليهم واخمدا
ولم يحم حرم الحي إلا محافظ = كريم المحيا ماجد غير أجردا

ونظن أن النظر فى هده القصيدة يكفى ليقنع القارئ بأننا أمام شئ منتحل متكلف لا حظ له من صدق .
وليس خيرا من هذه القصيدة هذا الشعر الذى يقال إن عمرو ابن قميئة أنشأه لما لقدمت به السن يصف به هرمه ضعفه .
ولعله قاله قبل أن ، يرتحل مع امرئ القيس إلى بلاد الروم .
ويزعم الشعبي، أو من روى عن الشعبي أن عبد الملك ين مروان تمثل به فى علته التى مات فيها. وهو:
كأني وقد جاوزت تسعين حجه = خلعت بها عنى عنان لحامى
على الراحتين مرة وعلى العصا = أنوء ثلاثا بعدهن قيامي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى = فما بال من يرمى وليس برام
فلو أن ما أرمى بنبل رميتها = ولكنما أرمى بغير سهام
إذا ما رآنى الناس قالوا ألم يكن = حديثا جديد البرى غير كهام
وأفنى وما أفنى من الدهر ليلة = وما يفنى ما أفنيت سلك نظامي
وأهلكني تأميل يوم وليلة = وتأميل عام بعد ذاك وعام

فنحن نستطيع بعد هذا أن نضيف عمرو بن قميئة إلى صاحبيه الضائعين : (عبيد وامرئ القيس ) ، وأن ننتقل الى مهلهل ، لنرى ماذا يمكن أن يثبت لنا من أمره وشعره .
فأما أمره فنظن أنه يسير لا سبيل إلى الاختلاف فيه . فيجب أن نبلغ من السذاجة حظا غير قليل لنسلم بما كان يتحدث به الرواة من أمر هذه القصة الطويلة العريضة : قصة اليسوس .
ونظن ان الاتفاق يسير على أن هذه القصة كد طولت ونمت وعظم أمرها فى الإسلام حين اشتد التنافس بين ربيعة ومضر من ناحية ، وبين بكر وتغلب من ناحية أخرى ؟ وليس مهلهل فى حقيقة الأمر إلا بطل هذه القصة ؟
فقد عظم أمره وارتفع شأنه بمقدار ما نميت هذه القصة وطول فلها . ولسنا نذكر أن خصومة عنيفة كانت بين القبيلتين الشقيقتين بكر وتغلب فى العصور الجاهلية القديمة ، وأن هذه الخصومة كد انتهت إلى حروب سفكت فيها الدماء وكثرت فيها القتلى ؟
ولكن أسباب هذه الخصومة ومظاهرها وأعراضها وآثارها الأدبية قد ذهبت كلها ولم يبق منها إلا ذكرى ضئيلة تناولها القصاص فاستغلوها قويا ، ووجدت بكر، تغلب وبيعة كلها حاجتها فى هذا الاستغلال .
ولم لا ؟
ألم تكن النبوة والخلافة ومظاهر الشرف كلها لمضر فى الإسلام ؟
وكيف يستطيع العرب من رييعة أن يؤمنوا لمضر بهذه السيادة وهذا المجد دون أن يثبتوا لأنفسهم فى قديم العهد على أقل تقدير مجدا وشرفا وسيادة ؟ وقد فعلوا : فزعموا أنهم كانوا سادة العرب من عدنان فى الجاهلية : كان منهم الملوك والسادة ، وكان منهم الذين ذادوا القحطانية عن ولد عدنان ، وكان منهم الذين قاوموا طغيان اللخميين فى العراق الغسانيين فى الشام ، وكان منهم الذين هزموا جيوش كسرى فى يوم ذى قار.
لمضر إذن حديث العرب بعد الإسلام ، ولربيعة قديم العرب قبل الإسلام .
فإذا لاحظت إلى هذا ما كان من الخصومة الفعلية بين ربيعة ومضمر أيام بنى أمية وما كان من الخصومة الأدبية بين جرير شاعر مضر الذى يقول :
ان الذى حرم المكارم تغلبا = جعل النبوة والخلافة فينا
هذا ابن عمى فى دمشق خليفة = لو شئت ساقكم الى قطينا

وبين الأخطل الذى يقول :
أبنى كليب ان عمى اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا نقول إذا لاحظت كل هذه الخصومات لم يصعب عليك أن تتصور كثرة الانتحال فى القصص والشعر.
حول رييعة عامة وحول هاتين القبيلتين من ربيعة خاصة ، وهما بكر وتغلب .
على أن بعض الرواة كانوا يظهرون كثيرا من الشك فيما كانت تتحدث به بكر وتغلب من أمر هذه الحروب - ومهما يكن من شئ فليست شخصية مهلهل بأوضح من شخصية امرئ القيس أو عبيد أو عمرو بن قميئة ؟
وانما تركت لنا قصه البسوس منه صورة هى إلى الأساطير أقرب منها إلى اى شئ آخر ، ومن هنا قال ابن سلام إن العرب كانت ترى أن مهلهلا كان يتكثر ويدعى فى شعره أكثر مها يعمل ، والحق إن مهلهلا لم يتكثر ولم يدع شيئا، وانما تكثرت تغلب فى الإسلام ونحلته ما لم يقل .
ولم تكتف بهذا الانتحال بل زعمت أن أول من قصد القصيد وأطال الشعر، ثم أحست ما نحس الآن أو أحسه الرواة أنفسهم وهو أن فى هذا الشعر اضطرابا واختلاطا فزعمت ، أو زعم الرواة ، أنه لهذا الاضطراب والاختلاط سمى مهلهل ، لأنه هلهل الشعر. والهلهلة الاضطراب .
يستشهد ابن سلام على هذا بقول النابغة : " أتاك بقول هلهل النسج كاذب " وليس من شك فى أن شعر مهلهل مضطرب ، فيه هلهلة واختلاط .
ولكننا نستطيع أن نجد هذه الهلهلة نفسها فى شعر امرئ القيس وعبيد وابن قميئة وكثير غيرهم من شعراء العصر الجاهلى، فقد كانوا جميعا مهلهلا أذن .
غير أننا لا نستطيع أن نطمئن إلى أن يهلهل شعراء الجاهلية جميعا الشعر بحيث يصبح لكل واحد منهم شخصيات شعرية مختلفة تتفاوت فى القوة والضعف وفى الشدة واللين وفى الأغراب والسهولة .
وإذن فمن الذي هلهل الشعر؟ هلهله الذين وضعوه من القصاص والمنتحلين وأصحاب التنافس والخصومة بعد الإسلام .
ويحسن أن نظهرك على شئ من شعر مهلهل لترى كما نرى أنه لا يمكن أن يكون أقدم شعر قالته العرب :
أل يلتنا بذي حسم أنيري = إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فإن يك بالذنائب طال ليلى ف = قد أبكى من الليل القصير
فلو نبش المقابر عن كليب = لأخبر بالذنائب اى زير
ويوم الشعشمين لقرعينا = وكيف لقاء من تحت القبور
على أنى تركت بواردات = بجيرا فى دم مثل العبير
هتكت به بيوت بنى عباد = وبعض الغشم أشفى للصدور
على أن ليس يوفى فى كليب = إذا برزت مخبأة الخدود
وهمام بن مرة قد تركنا = عليه القشعمان من النسور
ينوء بصدره والرمح فيه = ويخلجه خدب كالبعير
فلولا الريح أسمع من بحجر = صليل البيض تقرع بالذكور
فدى لبنى شقيقة يوم جاءوا = كأسد الغالط لجت فى الزئير
كأن رماحهم أشطان بئر = بعيد بين جاليها جرور
غداة كأننا وبنى أبينا = بجنب عنيزة رحيا مدير
تظل الخيل عاكفة عليهم = كأن الخيل ترحض فى غدير

أليس يقع من نفسك موقع الدهش أن يستقيم وزن هذا الشعر وتطرد قافيته وان يلائم قواعد النحو وأساليب النظم لا يشذ فى شئ ولا يظهر عليه شئ من أعراض الندم أو مما يدل على أن صاحبه هو أول من قصد القصيد وطول
الشعر؟ أليس يقع فى نفسك هذا كله موقع الدهش حين تلاحظ معه سهولة اللفظ ولينه وإسفاف الشاعر فيه إلى حيث لا تشك أنه رجل من الذين لا يقدرون إلا على مبتذل اللفظ وسوقيه
؟ ولكننا لا نريد أن نترك مهلهلا هذا دون ان نضيف إليه امرأة أخيه جليلة التى رثت كليبا- فيما يقول الرواة - بشعر لا ندرى أيستطيع شاعر أو شاعرة فى هذا العصر الحديث أن يأتى بأشد منه سهولة ولينا وابتذالا مع أننا نقرأ للخنساء وليلى الأخيلية شعرا فيه من قوة المتن وشدة الأسر ما يعطينا صورة صادقة للمرأة العربية البدوية .
قالت جليلة :
يا ابنة الأقوام ان شئت فلا = تعجلي باللوم حتى تسألى
فإذا أنت تبينت الذى = يوجب اللوم فلومي واعذلي
إن تكن أخت امرئ ليمت على = شفق منها عليه فافعلي
جل عندي فعل جساس فيا = حسرتى عما انجلى أو ينجلي
فعل جساس على وجدى به = قاصم ظهري ومدن أجلى
يا قتيلا قوض الدهر به = سقف بيتي جميعا من عل
هدم البيت الذى استحدثته = وانثنى فى هدم بيتي الأول
ورمانى قتله من كثب = رمية المصمى به المستأصل
يا نسائي دونكن اليوم قد = خصنى الدهر برزء معضل
خصنى قتل كليب بلظى = من ورائي ولظى مستقبلي
ليس من يبكى ليوميه كمن = إنما يبكى ليوم ينجلي

وقد أعرضنا فى كل هذه الأحاديث عن أسجاع ما نظن أن أحدا يرتاب فى أنها مصنوعة متكلفة .
ونعتقد أن قراءة هذا الشعر الذى رويناه تكفى لنضيف فى غير مشقة مهلهلا وامرأة أخيه إلى ابن أخته امرئ القيس.
وقد فرغنا من امرئ القيس ومن يتصل به من الشعراء ولكننا لم نفرغ من الشعراء أنفسهم ؛ فلابد من وقفات أخرى قصيرة عند طائفة منهم .
وستثبت لك هذه الوقفاف أننا لسنا غلاة ولا مسرفين إن خشينا ألا يقتصر الشك على امرئ القيس وشعره .


4- عمرو بن كلثوم - الحارث بن حلزة

ونحن حين ندع مهلهلا وامرأة أخيه إلى هذين الشاعرين من أصحاب المعلقات لا نتجاوز ربيعة بل لا نتجاوز هذين الحيين من ربيعة وهما حيا بكر وتغلب .
فعمرو بن كلثوم تغلبى ، وهو فى عرف الرواة لسان تغلب الناطق ، هو الذى سجل مفاخرها وأشاد بذكرها فى شعره ، أو بعبارة أدق : فى قصيدته التى تروى بين المعلقات .
وقد كان - فيما يقول الرواة- بطلا من أبطال تغلب ورث القوة والأيد وشده البأس واباء الضيم عن جده مهلهل ؟
فقد كانت أمه ليلى بنت مهلهل .
وقد أحيط عمرو بن كلثوم فى مولده ونشأته بل فى مولد أمه بطائفة من الأساطير لا يشك أشد الناس سذاجة فى أنها لون من ألوان العبث والانتحال : زعموا أن مهلهلا لما ولدت له ليلى أمر بوأدها فأخفتها أمها، ثم نام فأتاه آت وتنبأ له بأن ابنته هذه ستلد ابنا يكون له شأن ، فلما اصبح سأل عن ابنته فقيل وئدت فكذب وألح فأظهرت له فأمر بإحسان غذائها.
ثم تزوجت كلئوما فما زالت ترى فيما يرى النائم من يأتيها فيخبرها عن ابنها بالأعاجيب حتى ولدته ونشأته .
قالوا وقد ساد عمرو ابن كلثوم قومه ولما يتجاوز الخامسة عشرة .
فكل هذه الأحاديث التى نشير إليها إشارة ، تدل على أن عمرو بن كلثوم قد أحيط بطائفة من الأساطير جعلته إلى أبطال القصص أقرب منه إلى أشخاص التاريخ .
ومع ذلك فقد يظهر انه وجد حقا، وقد يظهر أنه على خلاف من قدمنا ذكرهم من الشعراء.
وقد أعقب ؟ فصاحب الأغانى يحدثنا بأن له عقبا كان باقيا إلى أيامه .
وسواء أكان عمرو بن كلثوم شخصا من أشخاص التاريخ أم بطلا من إبطال القصص، فإن القصيدة التى تنسب إليه لا يمكن أن تكون جاهلية أو لا يمكن أن تكون كثرتها جاهلية .
وهل نستطيع قبل كل شئ أن نطمئن إلى ما يتحدث به الرواة من أن عمرو بن كلثوم قتل ملكا من ملوك الحيرة هو عمرو بن هند المشهور، وذلك حين بغى عمرو بن هند هذا وانتهى به الطغيان الى أن طمع فى أن تستخدم أمه ليلى بنت مهلهل أم عمرو هذا ؟ قال الرواة : فطلبت هند أم الملك إلى ليلى بنت مهلهل أن تناولها طبقا ؟
فأجابتها ليلى : لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها ، فألحت هند فصاحت ليلى : وأذلاه يا لتغلب !
وكان ابنها عمرو فى قبة الملك فسمع دعاءها فوثب إلى سيف معلق فضرب به الملك ، ونهضت بنو تغلب فنهبوا قبة الملك وعادوا إلى باديتهم .
غير أن النص التاريخى الذى يثبت هذه القصة لم يصل إلينا بعد.
وهل من المعقول أن يقتل ملك الحيرة هذه القتله ويقف الأمر عند هذا الحد بين آل المنذر وبنى تغلب من ناحية وبين ملوك الفرس وأهل البادية من ناحية
أخرى؟ أليس هذا لونا من الأحاديث التى كان يتحدث بها القصاص يستمدونها من حاجة العرب إلى المفاخرة والتنافس ؟ بلى!
وقصيدة عمرو بن كلثوم نفسها نوع من هذا الشعر الذى كان ينتحل مع هذه الأحاديث .
وأنت إذا قرأت هذه القصيدة رأيت أن مهلهلا لم يكن يتكثر وحده وانما أورث التكثر والكذب سبطه عمرو بن كلثوم فلسنا نعرف كلمة تضاف إلى الجاهليين وفيها من الإسراف والغلو ما فى كلمة عمرو بن كلثوم هذه .
على أن رأى الرواة فيها يشبه رأيهم فى معلقة امرئ القيس ، فهم يشكون فى بعضها وهم يختلفون فى الأبيات الأولى منها : أقالها عمرو بن كلثوم أم قالها عمرو ابن عدى ابن أخت جذيمة الأبرش
؟ فأما الذين يضيفون هذه الأبيات لعمرو بن كلثوم فيرون أن مطلع القصيد ة : " ألا هبى لصحنك فاصبحينا " وأما الآخرون فيرون أن مطلعها : " قفي كبل التفرق يا ظعينا " وأولئك وهؤلاء لا يختلفون فى إنطاق عمرو بن عدى بالبيتين :
صدت الكأس أم عمرو = وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو = بصحبك الذى لا تصبحينا

وأنت حين تمضى فى القصيدة ترى فيها أبياتا مكررة تقع فى وسط القصيدة وفى آخرها .
ولكن هذا النحو من الاضطراب مشترك فى أكثر الشعر الجاهلى ، مصدره اختلاف الروايات .
فإذا قرأت القصيدة نفسها فستجد فيها لفظا سهلا لا يخلو من جزالة ، وستجد فيها معاني حسانا وفخرا لا بأس به لولا أن الشاعر يسرف فيه من حين إلى حين إسرافا ينتهى به إلى السخف كقوله :
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما = تخر له الجبابر ساجدينا

وستجد فيها أبياتا تمثل إباء البدوي للضيم واعتزازه بقوته وبأسه كقوله :
ألا لا يجهلن احد علينا = فنجهل فوق جهل الجاهلينا

قلت إن هذأ البيت يمثل إباء البدوي للضيم . ولكنى أسرع فأفول إنه لا يمثل سلامة الطبع البدوي وإعراضه عن تكرار الحروف إلى هذا الحد الممل :
ألا لا يجهلن احد علينا = فنجهل فوق جهل الجاهلينا

فقد كثرت هذه الجيمات والهاءات واللامات واشتد هذا الجهل حتى مل .
وهم يحملون على الأعشى بيتا فيه مثل هذا النوع من التعسف .
ولكنا نشك فى صحة هذا البيت الذى يضاف إلى الأعشى .
ومهما يكن من شئ ، فإن فى قصيدة ابن كلثوم هذه من رقة اللفظ وسهولته ما يجعل فهمها يسيرا على أفل الناس حظا من العلم باللغة العربية فى هذا ا العصر الذى نحن فيه .
وما هكذا كانت تتحدث العرب فى منتصف القرن السادس للمسيح وقبل ظهور الإسلام بما يقرب من نصف قرن.
وما هكذا كانت تتحدث ربيعة خاصة فى هذا العصر الذى لم تسد فيه لغة مضر ولم تصبح فيه لغة الشعر.
بل ما هكذا كان يتحدث الأخطل التغلبى الذى عاش فى العصر الأموي اى بعد ابن كلثوم بنحو قرن .
واقرأ هذه الأبيات وحدثني أطمئن إلى جاهليتها :
قفي قبل التفرق يا ظعينا = نخبرك اليقين وتخبرينا
قفي نسألك هل أحدثت صرما = لو شك البين أم خنت الأمينا
بيوم كريهة ضربا وطعنا = أقر به مواليك العيونا
وإن غدا وإن اليوم رهن = وبعد غد بما لا تعلمينا
تريك إذا دخلت على خلاء = وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعى عيطل أدماء بكر = هجان اللون لم تقرأ جنينا
وثديا مثل حق العاج رخصا = حصانا من أكف اللامسينا
ومتنى لدني سمقت وطالت = روادفها تنوء بما ولينا
ومأكمة يضيق الباب عنها = وكشحا قد جننت به جنونا
وساريتي بلنط أو رخام = يرنن خشاش حليهما رنينا
واقرأ هذه الأبيات أيضا :
ألا لا يعلم الأقوام أئا تضعضعنا وأنا قد ونينا
ألا لا يجهلن احد علينا = فنجهل فوق جهل الجاهلينا
بأى مشيئة ب هند = نكون لقيلكم فيها قطينا
بأى مشبئة عمرو بن هند = تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وأوعدنا رويدا = متى كنا لأمك مقتوينا
فإن قناتنا يا عمرو أعيت = على الأعداء قبلك أن تلينا

وهذه الأبيات :
ونحن التاركون لما سخطنا = ونحن الآخذون لما رضينا
وكنا الأيمنين إذا التقينا = وكان الأيسرين بنو أبينا
فصالوا صولة فيمن يليهم = وصلنا صولة فيمن يلينا
فآبوا بالنهاب وبالسبايا = وأبنا بالملوك مصفدينا
إليكم يا بنى بكر إليكم = ألما تعرفوا منا اليقينا

وهذه الأبيات وقارن بينها وبين الأبيات الأخيرة :
وقد علم القبائل من معد = إذا قبب بأبطحها بنينا
بانا المطعمون إذا = قدرنا وأنا المهلكون إذا ابتلينا
وإنا المانعون لما أردنا = وإنا النازلون بحيث شينا
وإنا التاركون إذا سخطنا = وإنا الآخذون إذا رضينا
وأنا العاصمون إذا أطعنا = وأنا إلعارمون إذا عصينا
ونشرب إذا وردنا الماء صفوا = ويشرب غيرنا كدرا وطينا
وهذه الأبيات :
إذا ما الملك سام الناس خسفا = أبينا أن نقر الذل فينا
لنا الدنيا ومن أمسى عليها = ونبطش حين نبطش قادرينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا = وماء البحر نملؤه سفينا
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما = تخر له الجبابر ساجدينا

أمتن من هذه القصيدة ،وأرصن قصيدة الحارث بن حلزة، وكان لسان بكر، فيما يقول الرواة ، ومحاميها ، والذائد عنها بين يدى عمرو بن هند أيضا ؟ زعموا أن عمرو بن هند أصلح بين القبيلتين المختصمتين بكر وتغلب واتخذ منهما رهائن ، فتعرضت رهائن تغلب لبعض الشر وهلكت أو هلك أكثرها ، فتجنب تغلب على بكر وطالبت بدية الهلكى ، وأبت بكر، وكادت تستأنف الحرب بينهما، واجتمعت أشرافها إلى عمرو بن هند ليحكم بينهم ، وأحس الحارث ميل الملك إلى تغلب فنهض فاعتمد على قوسه وارتجل هذه المصيدة.
قالوا وكان به وضح ، وكان الملك قد أمر أن يكون بينه وبينه ستار ، فلما أخذ ينشد قصيدته أخذ الملك يعجب به ويدنيه شيئا فشيئا حتى أجلسه إلى جانبه وقضى لبكر.
ويكفى أن تقرأ هذه المصيدة لترى أنها ليست مرتجلة ارتجالا وانما هى قصيده نظمت وفكر فيها الشاعر تفكيرا طويلا ورتب أجزاءها ترتيبا دقيقا، وليس فيها من مظاهر الارتجال إلا شئ واحد هو هذا الإقواء الذى تجده فى قوله :
فملكنا بذلك الناس حتى = ملك المنذر بن ماء السماء
فالقافية كلها مرفوعة إلا هذا البيت .
ولكن الإقوا، كان شيئا شائعا حتى عند الشعراء المسلمين الذين ، لم يكونوا يرتجلون فى كل وقت ، نقول إن قصيدة الحارث أمتن وأرصن من قصيدة ابن كلثوم ' وقد نظمتا فى عصر واحد ، إن صح ما يقول الرواة ، فهما مسوقتان إلى عمرو بن هند .
فاقرأ هذه الأبيات للحارث وقارن بسنهما فى ، اللفظ والمعنى وبين ما قدمنا لك من شعر عمرو:
ملك أضرع البرية لا يوجد = فيها لما لديه كفاء
ما أصابوا من تغلبي فمطلول= عليه إذ ا أصيب العفاء
كتكاليف قومنا إذ غزا المنذر = هل نحن لاين هند رعاء
إذا أحل العلياء قبة ميسون = فأدنى ديارها العوصاء
فتأوت له قراضبة = من كل حي كأنهم ألقاء
فهداهم بالأسودين وأمر اللi = بلغ تشقى به الأشقياء
إذ تمنونهم غرورا فساقتهم = إليكم أمنية أشراء
لم يغركم غرورا ولكن= رفع الآل شخصهم والضحاء

وانظر إلى هذه الأبيات يعير قيها الشاعر تغلب بإغارات كانت عليهم لم ينتصفوا لأنفسهم من أصحابهما :
أعلينا جناح كندة أن يغنم = غازيهم ومنا الجزاء
ليس منا المضربون ولا = قيس ولا جندل ولا الحذاء
أم جنايا بنى عتيق فمن يغدر= فإنا من حربهم براء
أم علينا جرى العباد كما = نبط يجوز إلمحمل الأعباء
وثمانون من تميم بأيديهم = رماح صدورهن القضاء
تركوهم ملحبين وآبوا = بنهاب يصم منها الحداء
ام علينا جرى حنيفة أم = ما جمعت من محارب غبراء
أم علينا جرى قضاعة أم ليس = علينا فيما جنوا أنداء

ثم جاءوا يسترجعون فلم ترجع لهم شامة ولا زهراء فأنت ترى أن بين القصيدتين فرقا عظيما فى جودة اللفظ وقوة المتن وشدة الأسر. على أن هذا لا يغير رأينا فى القصيدتين ، فنحن نرجح انهما منتحلتان .
وكل ما فى الأمر أن الذين كانوا ينتحلون كانوا كالشعراء أنفسهم يختلفون قوة وضعفا وشدة ولينا .
فالذي انتحل قصيدة الحارث بن حلزة كان من هؤلاء الرواة الأقوياء الذين يحسنون تخير اللفظ وتنسيقه ونظم القصيد فى متانة وأيد. ولسنا نتردد فى أن نعيد ما قلناه من أن هاتين القصيدتين وما يشبههما مما يتصل بالخصومة بين بكر وتغلب إنما هو من آثار التنافس بين القبيلتين فى الإسلام لا فى الجاهلية .

5- طرفة بن العبد - المتلمس

وشاعران آخران من ربيعه نقت عندهما وقفة قصيرة هما طرفة بن العبد والمتلمس وانما نجمعهما لأن القصص جمعهما من قبل .
فقد زعموا أن المتلمس كان خال طرفة.
ولم يقف جمع القصص بسنهما عند هذا الحد بل قد جمعهما فى الشىء القليل الذى نعرفه عئهما ؛ ذلك أن لطرفة والمتلمس أسطورة لهج بها الناس منذ القرن الأول للهجرة .
وهم يختلفون فى روايتها اختلافا كثيرا ؟ ولكنا نتخير من هذه الروايات أيسرها وأقربها إلى الإنسان : زعموا أن هذين الشاعرين هجوا عمرو بن هند حتى أحنقاه عليهما، ثم وفدا عليه فتلقاهما لقاء حسنا وكتب لهما كتابين إلى عامله بالبحرين وأوهمهما أنه كتب لهما بالجوائز والصلات ، فخرجا يقصدان إلى هذا العامل .
ولكن المتلمس شك في كتابه فأقرأه غلاما من أهل الحيرة فإذا فيه أمر بقتل المتلمس ، فألقى كتابه فى النهر، والح على طرفه فى أن يفعل فعله
فأبى؟ وافترق الشاعران : مضى أحدهما إلى الشام فنجا، ومضى الآخر إلى البحرين فلقي الموت .
وكان طرفة حديث السن لم يتجاوز العشرين فى رأى بعض الرواة ولم يتجاوز السادسة والعشرين فى رأى بعضهم الآخر.
وقد كثرت الأحاديث حول هذه القصة وأضيفت إليها أشياء أعرضنا عن ذكرها لظهور الانتحال فيها.
وغضب عمرو ابن هند على المتلمس حين هرب إلى الشام وأفلت من الموت فأقسم لا يطعم حب العراق واتصل هجاء المتلمس له . والرواة المحققون يعدون هذين الشاعرين من المقلين .
بل لم يرو ابن سلام للمتلمس شيئا ولم يسم له قصيدة .
فأما طرفة فقد قال ابن سلام عنه فى موضع إنه هو وعبيد من أقدم الفحول ولم يبق لهما إلا قصائد بمقر عشر.
واستقل ابن سلام هذه القصائد على الشاعرين وقال إنه قد حمل عليهما حمل كثير. وقد رأيت أنه حين أراد أن يضع عبيدا فى طبقته لم يعرف له إلا بيتا واحدا .
فأما طرفة فقد عرف له المطولة وروى مطلعها هكذا :
لخولة أطلال ببرقة ثهمد = وقفت بها أبكى وأبكى إلى الغد

وعرف له الرائية المشهورة : " أصحوت اليوم أم شاقتك هر " وعرف له قصائد أخرى لم يدل عليها .
وقال إنه أشعر الناس بواحدة .
يريد المعلقة.
وبين يديلا ديوان لطرفة يشتمل هاتين القصيدتين قصيدة أخرى مشهورة ، وهى :
سألوا عنا الذى يعرفنا = بخزازى يوم تحلق اللمم

ثم مقطوعات أخرى ليست بذات غناء .
وأنت إذا قرأت شعر طرفة رأيت فيه ما ترى فى أكثر هذا الشعر الذى يضاف إلى الجاهليين ولا سيما المضريين منهم من مكانة اللفظ وغرابته أحيانا، حتى لتقرأ الأبيات المتصلة فلا تفهم منها شيئا دون ان تستعين بالمعاجم .
ولكنك مضطر أن تلاحظ أن هذا الشعر أشبه بشعر المضريين منه بشعر الربيعيين
؟ فنحن لم نجمع شعراء ربيعة عفوا ؛ وانما جمعناهم فيما تحدثنا به إليك فى هذا الكتاب إلى الآن لأن بينهم شيئا يتفقون فيه جميعا ، هو هذه السهولة التى تبلغ الإسفاف أحيانا
؟ لا نستثنى منهم فى ذلك إلا قصيدة الحارث بن حلزة .
فكيف شذ طرفه عن شعراء ربيعة جميعا فقوى متنه واشتد أسره وآثر من الإغراب ما لم يؤثر أصحابه ودنا شعره من شعر المضريين ؟
وانظر فى هذه الأبيات التى يصف بها الناقة :
وأنى لأمضى الهم عند احتضاره = بعوجاء مرقال تروح وتغتدى
أمون كألواح الأران نصأتها = على لاحب كأنه ظهر برجد
جمالية وجناء تردى كأنها = سفنجة تبرى لأزعر أريد
تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت = وظيفا وظيفا مور معبد
تربعت القفين فى الشول ترتعى = حدائق مولى الأسرة أغيد
تريع إلى صوت المهيب وتتقى = بذى خصل روعات أكلف ملبد
كأن حناحى مضرحى تكنفا = حفافيه شكا فى العسيب بمسرد

وهو يمضى على هذا النحو فى وصف ناقته فيضطرنا إلى أن نفكر فيما قلناه من قبل من ان أكثر هذه الأوصاف أقرب إلى أن يكون من صنعة العلماء باللغة منه إلى أى شئ آخر .
ولكن دع وصفه الناقة واقرأ:
ولست بحلال التلاع مخافة = ولكن متى يسترفد القوم أرفد
فإن تبغنى فى حلقة القوم تلقني = وإن تلتمسنى فى الحوانيت تصطد
متى تأتنى أصبحك كأسا روية = وإن كنت عنها ذا غنى فاغن وازدد
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني = إلى ذروة البيت الشريف المصمد
نداماى بيض كالنجوم وقينة = تروح إلينا بين برد ومجسد
رحيب قطاب الجيب منها رفيقة = بجس الندامى بضة المتجرد
إذا نحن قلنا أسمعينا انبرت لنا = على رسلها مطروقة لم تشدد
إذا رجعت فى صوتها خلت صوتها = تجاوب اظار على , ربع ردى

فسترى فى هذه الأبيات لينا ولكن فى غير ضعف ، وشدة ولكن فى غير عنف .
وسنرى كلاما لا هو بالغريب الذى لا يفهم ، ولا هو بالسوقي المبتذل ، ولا هو بالألفاظ قد رصفت رصفا دون أن تدل على شئ .
وامض فى قراءة القصيدة فستظهر لك شخصية قوية ومذهب فى الحياة واضح جلى مذهب اللهو واللذة يعمد إليهما من لا يؤمن بشيء بعد الموت ولا يطمع من الحياة إلا فيما تتيح له من نعيم برئ من الإثم والعار على ما كان يفهمهما عليه هؤلاء، الناس :
وما زال تشرابى الخمور ولذتى = وبيعى وانفاقى طريفى ومتلدى
إلى أن تحامتننى العشيرة كلها = وأفردت إفراد البعير المعبد
رأيت بنى غبراء لا ينكروننى = ولا أهل هذاك الطراف الممدد
ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى = وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنن لا تستطيع دفع منيتي = فدعنى أبادرها بما ملكت يدى
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى = وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقى العاذلات بشربة = كميت متى ما تعل بالماء تزيد
وكرى إذا نادى المضاف محنبا = كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب = ببهكنة تحت الخباء المعمد

فى هذا شخصية بارزة قوية لا يستطيع من يلمحها أن يزعم أنها متكلفة أو منتحلة أو مستعارة .
وهذه الشخصية ظاهرة البداوة واضحة الإلحاد بينة الحزن واليأس والميل إلى الإباحة فى قصد واعتدال .
هذه الشخصية تمثل رجلا فكر والتمس الخير والهدى فلم يصل إلى شئ ، وهو صادق فى يأسه ، صادق فى حزنه ، صادق فى ميله الى هذه اللذات التى يؤثرها.
ولست أدرى أهذا الشعر قد قاله طرفة أم قاله رجل
آخر؟ وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذا الشعر.
بل ليس يعنيني أن أعرف اسم صاحب هذا الشعر؟ وانما الذى يعنيني هو أن هذا الشعر صحيح لا تكلف فيه ولا انتحال ، وأن هذا الشعر لا يشبه ما قدمناه فى وصف الناقة ولا يمكن أن يتصل به ، وأن هذا الشعر النادر من الشعر الذى نعثر به من حين إلى حين فى تضاعيف هذا الكلام الكثير الذى يضاف إلى الجاهليين ، فنحن حين نقرؤه أنا نقرأ شعرا حقا فيه قوة وحياة وروح .
وإذا فأنا ارجح أن فى هذه القصيدة شعرا صنعه علماء اللغة هو هذا الوصف الذى قدمنا بعضه ، وشعرا صدر عن شاعر حقا هو هذه الأبيات وما يشبهها.
ولسنا نأمن أن يكون فى هذه الأبيات نفسها ما دس على الشاعر دسا وانتحل عليها انتحالا .
فأما صاحب القصيدة فيقول الرواة إنه طرفه .
ولست أدرى اهو طرفة أم غيره ؟ بل لست أدرى أجاهلي هو أم
إسلامي؟ وكل ما أعرفه هو أنه شاعر بدوى ملحد شاك .
ولست أحب أن أقف عند القصيدتين الأخريين ، فإن شخصية الشاعر تستخفي فيهما استخفاء وتعود معهما إلى هذا الشعر الذى وقفت عنده غير مرة والذي يمثل مجد القبيلة وفخرها القديم .
وأكبر الظن أن هاتين القصيدتين كقصيدة الحارث بن حلزة وضعتا فى الإسلام تخليدا لمآثر بكر بن وائل .
فلندع طرفة ولنصل إلى المتلمس .
وأمر المتلمس أيسر من أمر طرفة .
فشعره يعود بنا إلى شعر ربيعة الذى قدمنا الإشارة إليه والى ما فيه من رقة وإسفاف وابتذال.
ومن غريب أمره أن التكلف فيه ظاهر، ولاسيما فى القافية ، فيكفى أن تقرأ سينيته التي أولها :
يا آل بكر ألا لله أمكم = طال الثواء وثوب العجز ملبوس

لتحس تكلف القافية .
على أن هذه القصيدة مضطربة الرواية فقد يوضع آخرها فى أولها ، وقد يروى مطلعها :
كم دون مية من مستعمل قذف = ومن فلاة بها تستودع العيس

وللمتلمس قصيدة أخرى ليست أجود ولا أمتن من هذه ، ولعلها أدنى منها إلى الرداءة، وهى التى مطلعها:
ألم تر أن المرء رهن منية = صريع لعافى الطير أو سوف يرمس
فلا تقبلن ضيما مخافة ميتة = وموتن بها حرا وجلدك أملس

ويقول فيها :
وما الناس إلا ما رأوا وتحدثوا = وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا

وربما كانت ميمية المتلمس أجود ما يضاف إليه من الشعر، وهى التى أولها :
يعيرني أمي رجال ولا أرى = أخا كرم إلا بأن يتكرما

وأكبر الظن أن كل ما يضاف إلى المتلمس من شعر- أو أكثره على أقل تقدير- مصنوع ، الغرض من صنعته ، تفسير طائفة من الأمثال وطائفة من الأخبار حفظت فى نفوس الشعب عن ملوك الحيرة وسيرتهم فى هؤلاء الأخلاط من العرب وغير العرب الذين كانوا يسكنون السواد.
ولا أستبعد أن يكون شخص المتلمس نفسه قد اخترع اختراعا تفسيرا لهذا المثل الذى كان يضرب بصحيفة المتلمس والذي لم يكن الناس يعرفون من أمره شيئا، ففسره القصاص !
واستمدوا تفسيره من هذه الأساطير الشعبية التي أشرنا إليها غير مرة .
وهناك شعراء آخرون من ربيعة كنا نستطيع أن نقف عندهم ونلم بشعرهم إلهاما وننتهى فيهم إلى مثل ما انتهينا إليه فى أمر هؤلاء الشعراء ، الذين درسناهم فى هذا البحث القصير.
ولكنا نكتفي بما قدمنا ؟ فقد ضربنا المثل .
ويخيل إلينا أنا قد وضحنا وبينا وأزلنا الحجاب عن كل ما نريد أن نقوله فى موقفنا بازاء الشعر الجاهلى.
ونحن لم نقصد فى هذا الكتاب الى أن ندرس الشعراء ولا الى أن نحلل شعرهم وانما قصدنا الى أن نبسط رأينا فى طريقة درس هذا الشعر الجاهلى وهؤلاء الشعراء الجاهلين
وقد بلغنا من ذلك ما كنا نريد
فأما تتبع الشعراء شاعرا شاعرا ودرس شعرهم قصيدة قصيدة ومقطوعة مقطوعة فقد نفرغ لبعضه فى غير هذا الكتاب
ومهما نفعل فلن نستطيع أن ننهض به وحدنا فى عام أو أعوام ، بل لابد من أن ينهض به معنا الذين يحبون الحق فيسعون إليه ويطلبونه
على أن نريد أن نختم هذا السفر بملاحظتين :

( الأولى ) أن هذا الدرس الذى قدمناه ينتهى بنا الى نتيجة إلا تكن تاريخية صحيحة فهي فرض يحسن أن يقف عنده الباحثون ويجتهدوا فى تحقيقه ، وهى أن أقدم الشعراء فيما كانت تزعم العرب وفيما كان يزعم الرواة أنما هم يمنيون أو ربعيون 0 وسواء أكانوا من أولئك أو من هؤلاء فما يروى من أخبارهم يدل على أن قبائلهم كانت تعيش فى نجد والعراق والجزيرة أي في هذه البلاد التى تتصل بالفرس اتصالا ظاهرا والتي كان يهاجر إليها العرب من عدنان وقطحان على سواء
وإذا فنحن نرجح أن هذه الحركات التى دفعت أهل اليمن من ناحية وأهل الحجاز من ناحية أخرى الى العراق والجزيرة ونجد ، فى عصور مختلفة لكنها لا تكاد تتجاوز القرن الرابع للمسيح ، قد أحدثت نهضة عقلية وأدبية ، لما كان من اختلاط هذين الجنسين العربيين فيما بسنهما ومن اتصالهم بالفرس
ومن هذه النهضة نشأ الشعر أو أقل إذا كنت تريد التحقيق ظهر الشعر وقوى وأصبح فنا أدبيا
وقد ذهب هذا الشعر ولم يبق لنا منه شيء إلا الذكرى ، ولكن لم يكد يأتى القرن السادس للمسيح حتى تجاوزت هذه النهضة أقطار العراق والجزيرة ونجد وتغلغلت فى أعماق البلاد العربية نحو الحجاز فمست أهله 0 ومن هنا ظهر الشعر فى مضر ومن إليهم من أهل البلاد العربية الشمالية 0 فالشعر كما ترى يمنى قوى حين اتصلت القحطانية بربيعة
ولكنا لم نعرفه ولم نصل إليه إلا حين تغلغل فى البلاد العربية وأخذته مضر عن ربيعة
ومن هنا نستطيع أن نقول أنا تعمدنا الوقوف ببحثنا عند هذا الحد الذى انتهيا إليه ؛ فلنا فى شعر مضر رأى غير رأينا فى شعر اليمن وربيعة ، لأننا نستطيع أن نؤرخه ونحدد أوليته تقريبا ، ولأننا نستطيع أن نقبل بعض قديمه دون أن تحول بيننا وبين ذلك عنيفة
وإذا فنحن نستطيع أن نستأنف هذا البحث فى سفر أخر
وسترى أن الشعراء الجاهلين من مضر قد أدركوا الإسلام كلهم أو أكثرهم فليس غريبا أن يصح من شعرهم شيء كثير
(الثانية ) أن الذين يقرءون هذا الكتاب قد يفرغون من قراءته وفى نفوسهم شيء من الأثر المؤلم لهذا الشك الأدبي الذي نردده في كل مكان من الكتاب
وقد يشعرون ، مخطئين أو مصيبين ، بأننا نتعمد الهدم تعمدا ونقصد إليه في غير رفق ولا لين
وقد يتخوفون عواقب هذا الهدم على الأدب العربي عامة وعلى القرآن الذي يتصل به هذا الأدب خاصة

فلهؤلاء نقول أن هذا الشك لا ضرر منه ولا بأس به ، لا لأن الشك مصدر اليقين ليس غير ، بل لأنه قد آن للأدب العربي وعلومه أن تقوم على أساس متين
وخير للأدب العربي أن يزال منه فى غير رفق ولا لين مالا يستطيع الحياة ولا يصلح لها من أن يبقى مثقلا بهذه الأثقال التى تضر أكثر مما تنفع ، وتعوق عن الحركة أكثر مما تمكن منها
ولسنا نخشى على القرآن من هذا النوع من الشك والهدم بأسا ؛ فنحن نخالف أشد الخلاف أولئك الذين يعتقدون أن القرآن في حاجة إلى الشعر الجاهلي لتصح عربيته وتثبت ألفاظه
نخالفهم فى ذلك أشد الخلاف لأن أحدا لم ينكر عربية النبى فيما نعرف ، ولأن أحدا لم ينكر أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه تتلى عليهم آياته
وإذا لم ينكر أحد أن النبى عربي وإذا لم ينكر أحد أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه ، فأي خوف على عربية القرآن من أن يبطل هذا الشعر الجاهلى أو هذا الشعر الذى يضاف الى الجاهليين ؟ وليس بين أنصار القديم أنفسهم من يستطيع أن ينازع فى أن المسلمين قد احتاطوا أشد الاحتياط فى رواية القرآن وكتابته ودرسه وتفسيره حتى أصبح أصدق نص عربي قديم يمكن الاعتماد عليه فى تدوين اللغة العربية وفهمها
وهم لم يحلفوا برواية الشعر ولم يحتاطوا فيها ، بل انصرفوا عنها فى بعض الأوقات طائعين أو كارهين ، ولم يراجعوها إلا بعد فترة من الدهر وبعد أن عبث النسيان والزمان بما كان قد حفظ من شعر العرب فى غير كتابة ولا تدوين
فأيهما أشد إكبارا للقرآن وإجلالا له وتقديسا لنصوصه وايمانا بعربيته : ذلك الذى يراه وحده النص الصحيح الصادق الذى يستدل بعربيته القاطعة على تلك العربية المشكوك فيها ، أم ذلك الذى يستدل على عربية القران بشعر كان يرويه وينتحله فى غير احتياط ولا تحفظ قوم منهم الكذاب ومنهم الفاسق منهم المأجور ومنهم صاحب اللهو والعبث ؟
أما نحن فمطمئنون الى مذهبنا مقتنعون بأن الشعر الجاهلى أو كثرة هذا الشعر الجاهلى لا تمثل شيئا ولا تدل على شيء إلا ما قدمنا من العبث والكذب والانتحال ، وأن الوجه -إذا لم يكن بد من الاستدلال بنص على نص - إنما هو الاستدلال بنصوص القران على عربية هذا الشعر لا بهذا الشعر على عربية القران

طه حسين
18 مارس 1927

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى