د. سيد شعبان - بيت به جن

جاءت القطة -بعد غياب قارب ثلاثة أشهر- يجري وراءها ولداها؛ إنهما يثيران دهشة لا تقاوم، أي جمال يحوطهما!
صغير به صفرة تختلط ببباض، والأخرى خضراء كأنما هي صبغت بربيع الأرض!
حين اختفت كل هذه المدة تسللت الفئران إلى بيتنا؛ تترك فوضى في كل مكان، كانت أمي تتساءل أي بئر ألقيت فيه؟
تتهم الكلب الأحمر بأنه من فعل هذا؛ في مرة أحضرت جروا يتيما، اعتنيت به؛ أدفئه من شتاء قارس، أطعمه بقايا العظم التي ملت من أضراسنا، غافلنا ذلك الكلب ومن ثم غرس نابيه في رقبة المسكين المصاب باليتم.
صرنا كمن يضرب الودع، أختي ماكرة تتندر بأن القطة وقعت في غواية القط الأشهب؛ كثيرا ما كان يموء عند مدخل البيت جهة الرمانة التي تتوجها زهور حمراء.
شاهدته مرة وهو يعابثها يتقافز فوقها؛ انتحت جانبا؛ فالعذراء شديدة الحياء؛ تورد خداها، نهرتها أمي أن تصف ما حدث، فبعض الكلام حرام؛ سيما والقطة لا تتورع أن تزهو بفعلتها.
قيلت تفسيرات لا تحصى: بعضها مغرق في الخيال وأكثرها مما يعطى انطباعا بأن تلك جناية الأنثى منذ خلق الله الأرض بما عليها.
لم تعد قطة مشاغبة فثمة أمر أحال عاداتها التي ألفناها مزيجا من حكمة ومسكنة؛ تقول جدتي: العاقل من ينحني للريح كما سنبلة القمح؛ باتت تسكننا في دوامة من نصائح العجائز.
بدأت أتابع ما طرأ عليها من تغيير، صارت أكثر وداعة تمنح صغيريها كسرات الخبز مغموسة في اللبن، تتعارك مع أمي، تثير صخبا حول المائدة؛ تلح عليها أن تزيد حصة الطعام، لا تأبه لها العجوز، طعامنا يكاد يكفينا، غير معقول أن ننخدع بموائها الزائد.
هل تراها جاءت لتساكننا في البيت؟
فالغراب فعل مثل هذا حين افترس اليمامة الوادعة، لقد تناثر ريشها؛ وهاهي الآن تسكن جوفه، احترنا من حقده الأسود، تخيلوا زرعنا الذرة ثلاث مرات؛ حين ينجم يقتلعه إنه مولع بالخراب، حين يراني يتشفى بنعيبه الذي يشبه صافرة عربة الموتى.
ربما هي تفكر في هذا؛ ستعدو على خوان الطعام؛ ستأتي غير مبالية على ثياب الصغار، أغرب شيء أنها ستحتل حجرة أبي لم يحدث في القرية أن قطة فعلت هذا، إنها كما تبادر إلى ذهني ستتسلب أخوي اسميهما.
هل سنصحو يوما وقد انضم إلى أفراد عائلتنا قطان؟
الغريب أن تلك العابثة جاءت في أيام يضرب الحر فيها بلهبه، نهرب إلى البيت الطيني الذي ابتناه جدي منذ خمسين عاما، حملنا طعامنا وإناء الماء الفخاري؛ نحن نتحايل على الحياة بما تيسر ؛ سبقتنا القطة بأوﻻها؛ ترى هل تقرأ أفكارنا؟
مؤكد.
حين تجدني تتمسح بي، أشبه بكائن لزج، تكاد توقعني، يبدو أن مهنة التسول جين جبل عليه الأحياء؛ امرأة تقف بطفلها وقد لفته بعصابة تقف به في عرض الطريق غير أبهة بسيارة مجنونة؛ تستدر عطف العابرين.
خوفتنا جدتي من أن نمسها بسوء القطط لها أرواح، قد تكون جنية في صورة قطتنا الغائبة؛ جاءت تختبرنا، لعلها ستحضر عفريتا يهزأ بنا، يبدو أن بيتنا صار هدفا لسكان العالم الآخر، على أية حال تفاجأنا بها وهي تمسك بصحيفة اليوم، تطالع الإعلانات المبوبة، لمحتها تبحث عن شغالة تجيد مجالسة الصغار؛ انتابني ضحك هستيري؛ غير معقول أن يحدث هذا، بالفعل هي حالة جنون؛ قطة تفعل كل هذا!
ما قالته جدتي صار أقرب للتصديق؛ إنه جن يحتال علينا، غير بعيد أننا سنسكن العراء قريبا.
حدث أن فأرا خطيرا تسلل إلى حجرتي؛ فزعت وقد أسرعت إلى الباب أستدعي القطة؛ حركت ذيلها في غير اهتمام، شردت بنظراتها ناحية كوب اللبن الذي أعدته لي أمي؛ رغبة في استجداء عطفها غمست فيه كسرة خبز، حملتها بين فكيها ومن ثم عدت بها إلى صغيريها، انتظرتها ساعة وساعة ثم بعد جاءت تتمطى؛ تحمل الصغيران بل وضعتهما على فراشي، ثم ماءت وأنذرت الفأر فخرج خائفا يترقب؛ تدرون إلى أين؟
بالتأكيد إلى حجرة أختي التي أشبعتها تندرا!
لم تنم أختي تشعر أن كل سخريتها من القطة قد تناهت إليها، ليت جدتي لم تحك لنا عن علاقة القطط بالجن؛ نحن عائلة مصابة بهلع لا مبرر له، نخاف خيال الظل؛ نسكن الحارة القديمة، نتحايل على الظن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى