محمد محمود غدية - مطر يبلل المشاعر

إنفرط الدر حين وطأت قدمه الأسفلت ، ترك فى القرية الطيب أهلها، والمشاعر النبيلة، حقائب الأشواق، التى لن يجد مثلها فى المدينة، إرتعدت فرائسه حين هجره الدفء، الوحشة والوحدة من حوله لها ضجيج، يطحن عظام الصمت، إفتقد حبيبته التى أدار لها ظهره وهى تلوح بيدها، مرمرية التكوين، ما عداها عدم، إبتسامتها تسقى جفاف الروح، يلملم ملامحها التى لم تغادره، وهل ينسى القلب شعاع النور الكامن فيه ؟
الوقت شتاء، السماء مغطاة بالغيوم وسحب داكنة، قرر المطر أن تبقى أرضه عطشى طوال غربته وإبتعاده عن فلاحتها وعنايتها، يمضى وحده نحو سراديب معتمة، لا غرس فيها تمضغه الرتابة والملل والإعتيادية ، تحتفى به بساتين التعب، وحقول المواجع، وسط تلال من الأوراق،
فوق مكتب متواضع، تشير إلى الصادر والوارد، والمنصرف والرصيد، وفى ضربة موجعة، تم إحالته ضمن المئات إلى المعاش المبكر، صدره حقيبة مغلقة على مواجعه ، يستجدى نسمة هواء
لا تأتى، يحوطه نزيف الأسفلت ، وحوادث الطرق وقتلى المحور الرابع والخامس والمستجد، إنكسر زجاج قلبه الغاطس فى السواد، إشتاق لقريته ، الطيب أهلها، والمشاعر النبيلة، وللمطر الذى يعشقه، وكيف يغدو فى سن العاشرة فرحا حين تبتل ملابسه، غير عابىء بسنواته الخمسين، للمطر رائحة خاصة يعشقها، تبلل مشاعره، يتأمل قريته من شباك القطار كحسناء تدلي أقدامها، تغتسل بماء النهر، يقاوم الخوف الذى تسلل إليه وهو يرى جفاف النهر ، وبنايات أشبه بناطحات السحاب ، تحجب الشمس والأقمار، غاصت المرارة فى حلقه، حين رأى البيت الكبير، خالى من ساكنيه وقد تهدم، ليأخذ دوره فى بناية كبيرة متعددة الطوابق، بعد أن كانت دور واحدة، تشققت مسامه إلى لمسة حانية وخبز أمه، إفتقد الدفء والأمان، يتوه وسط غابات أسمنتية، لا زرع فيها ولا أشجار، مازال طعم ثمر التوت فى فمه، أين البيوت التى كانت تخفق فيها الأرواح .. ؟
كست زجاج نظارته حلة من الضباب ، وغشاوة الرؤى ، حين أنكرته الطرق وملاعب الصبا والبيوت، والصبايا المتحررات الضفائر .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى