محمد محمود غدية - بائعة الطيور

حملت كعادتها أقفاص الطيور،
اليوم موعد السوق وفيه الرزق الوفير، تبيع الدجاجات التى كبرت وإرتضت ببقايا الطعام، فهى لا تقدر على شراء علف الطيور، ضوضاء فى البيت
و عراك، لا غلبة فيه لأحد بين أفراخ الكتاكيت وأولادها الصغار لاينتهى
إلا حين يكبر الأولاد،
تختبئ من وطأة الأيام، خلف وشاح الصمت، تتراكم لديها الحكايات التى
لا تبوح بها، تتدثر بالأمل لا ترهبها زخات المطر المؤلمة المتساقطة من سقف الحجرة، بعد أن زحزحت فرشة نومها، ونوم الأولاد بعيداً عن تساقط المطر، لديها طاقة من الصبر تدفعها لإغلاق منافذ الوجع بإحكام، تتسكع على أبسطة الذكرة الطيبة، فى زوج خطفه الموت، فى ضربة مؤلمة مع المرض، أحبته وأحبها كانت تشرق وتغرب فيه، ذاقت المرارة بعده وزارتها الكآبة،
ستشتري الليمون الذى يحبه الأطفال فى شراب السكر، وكل ما يشتهونه
من شراب أو مأكل، أسئلة الأطفال
لا تنتهى، لماذا يموت أبى، وتموت السمكة إذا خرجت من الماء، ولماذا
لا نرتدي الملابس الجديدة فى العيد كباقى الأطفال ؟
تمتلئ جعبتها بالأسئلة الصعبة، التى تتشابه مع قسوة الأيام، تعد العشاء كل ليلة للأولاد والطيور، تنشر إبتسامتها وعطرها فى ماحولها، روحها مفعمة بالرضا و الطمأنينة، لا تعرف الذبول، تواجه كل أنواع الشقاء، لديها طاقة من الحب ثابتة كحشائش الأرض، تحميها من الصدمات المفاجأة، تنتابها للحظات مخاوف نتيجة الإجهاد و الشعور بالوحدة، تكافح من أجل الصغار، تخفى دمعاتها بعيداً عنهم، برغم محاولتها اليائسة فى قبض الدموع، إستجمعت قواها على المواجهة حين دار بها الزمان وإستدار، لا يغيب وجهها المشوب بالصفاء فى زحمة السوق، إبتسامتها مفتاح الرزق الوفير، الجميع يحبونها لا تجادل كثيراً، بعض باعة الطيور، يضعون أمامها أقفاص الطيور لبيعها، و يقتسمون معها حصيلة البيع، لأنها الأكثر إبتساماً، وكأنها قرأت وهى التى لا تعرف القراءة والكتابة، الحكمة الصينية التى تقول :
إذا كنت لا تقدر علي الإبتسام فلا تفتح متجراً،
كثيرون يطلبونها للزواج، لأنها مازالت تحتفظ ببقايا حسن و ملاحة، بالإضافة إلى حسن الخلق، و يظل الرجل المرتقب لا يأتى، وهى التى عاشت مع زوجها على ضفاف الوداعة و موارد روحه، قلبه مثل الطير والورد لا يطلق اشرعته إلا فى إتجاهات الفرح، إفتقدت فى رحيله إنشودة البساطة، تقاوم ليل الرماد الطويل، تفتح الأبواب والنوافذ البعيدة، كي يدخل الصباح حاملاً أنفاسه الجديدة، الأرض كانت واسعة أكثر اخضراراً، وفضاء الكون أرحب، العيش كان أطيب الجار يحب جاره ويقص عليه الحكايات، يسأل عنه عند الغياب كانت البيوت آمنة دون باب أو حجاب، تعود إلى المنزل حاملة الحلوى للصغار،
صابر سيذهب إلى المدرسة فى الغد للمرة الأولي، ينتعل حذاءاً ومريول نظيفاً كالجديد،
و حقيبة تخلى عنها صاحبها حين إنتقل إلى مرحلة تعليمية أكبر، سيشترى الحلوى له ولإخوته، من أول مصروف يحمله، ثروات العالم أجمع عاجزة عن شراء ذلك الشريان الذى ينبض بالحب و الفرح الحقيقى، كالذى
تحمله أم صابر، التى لا تدري شيئاً عن الأسئلة من حولها،
أين لبائعة الطيور رغم قسوة الأيام،
كل هذا الإبتسام ؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى