إيمان السيد - راقصة الباليه..

قالوا لي: إنَّ غدًا عيد ميلاده
فزعتُ، فمنذ شهرٍ ونيف، قرأتُ نبأ وفاته في جريدة النهار صفحة الوفيَّات، هل كان خبرًا كاذبًا،أم هم الكاذبون؟
أسرعتُ إلى النافذة، وأنا أرتجف، وقفتُ بارتباكٍ وراء ستارها الشفيف؛ لأختلس النظر إلى نافذة غرفته التي لم أعد أراها مضيئةً أبدًا بعد شيوع الخبر، لمحتُ ضوء شمعةٍ خافتٍ جدًا، كان فتيل ضوئها الشاحب يرتجف هو الآخر كراقصة باليه، يصغر ظلُّها على الحائط إذا هبَّتِ الرِّيح، ويتضخَّم ثابتًا إذا ما سكنتْ، و طيفًا كالحاً يروح ويجيء قلِقًا خلف النافذة المتهالكة، جلستُ أراقبه متوجِّسةً، نبضات قلبي التي بدأت تتسارع، تكاد تقفز من صدري، ضجَّ نباح الكلب الذي كان يشاكسه كلما رآه، أُطفئِتْ مصابيح البيوت والنوافذ، جثمتِ العتمةُ على صدر الحيِّ فجأةً، بينما كان نباح الكلب الأصفر، وخفقُ قلبي يعلوان، هل ما أراه شبحًا، أم أنه هو فعلاً؟! وهل كان إلا شبحًا في الأصل يا غبية!
الظلام لا يُتيح لي رؤية ملامح وجهه، يسطع الضوء، يبدو أنه أضاء المصباح الذي كان يسرجه في العتمة كلما أراد أن يكتبَ، ها هو يجلس في كرسيه الهزَّاز، ويطأطئ رأسه كمن يتفحَّص ورقةً ما، بينما تنشغل أصابعه الطويلة بفعل شيءٍ رتيبٍ، يبدو أنه يلفُّ ورق تبغه كعادته، في آخر الليل بعد أن ينام الآخرون، يدندن بصوتٍ مشقوقٍ:

يا بوي ع. الليل وآخره
لمَن تصحا جروحي...
حِمل وما جادرش اتاخره
عني وع توّج روحي

زحام أوهام ماليني
بدعي اللهم ليني
يا همومي وهَمَّليني
وبدال ما تاجي روحي

ليلاتي في الميعاد دا
ينعاد عمري اللي عدى
وألقى الماضي اللي عدَّى
ع.الحاضر يستعدَّى

وبينما يرخي لروحه جناحيها، يهزُ رأسه طربًا، يبلِّل سبَّابته بريقه، ثم يلصق الورق الرقيق بهدوءٍ كمن يجمع السماء بالأرض بعد أن يحشوَهما تبغًا ويلفَّهما ،دَرْجًا، بين السبابة والإبهام، ثم يقوم ببطءٍ شديدٍ، يقترب من النافذة، أتراجع خطوتَين إلى الوراء كي لا يلمحني، وأختبئ وراء الحائط بينما كان شقًا ضيقًا جدًا في الستارة يُتيح لي رؤيته دون أن يراني إذا ما ملتُ برأسي نحوه، يفتح النافذة التي كانت مواربةً، ينبعث صوت أزيزها نُواحًا يشقَّ سجى الليل، يُطلُّ برأسه متثاقلاً، يقلِّب عينيه بهدوءٍ يمنةً ويسرةً متأملاً الشرفات والنوافذ والشبابيك المُغلَقة، تتقلَّص ملامح وجهه عندما يستشعر وحشة المكان، تصل عيناه إلى نافذتي، تنفرج أساريره، ويشهق شهقةً عميقةً دون أن يزفرها... كمن يختزن رائحةً في صدره، يُتبعها بتنهيدةٍ منحولةٍ، يصحبها أنينٌ خافتٌ، يااالله ...كم وددتُ أن أفتحَ نافذتي، وأنا مبتسمةٌ كعادتي وأقفز وتقفز معي ضفيرتاي البنيَّتان!
وأسأله على استحياء ..كيفك؟ كما كنت أفعل دائمًا وأنا ألقي عليه كل يوم تحية الصباح، يعبُّ سيجارته، ينفث دخانَها في وجهي كأنه يراني، هل كان يراني حقًا؟!

ارتخت ساقاي تحتي، لم تعودا قادرتَين على حَملي، بركتُ على الأرض، وقد وصلتْني رائحة تبغ سيجارته المعتِّقة بشذا عطره، يمتقعُ وجهي، أغالبُ شوقي إليه، حتى انفجر صوتي بالبكاء....
أنتِ هنا؟!
صرخَ بصوتٍ مفزوعٍ، سعلتُ سعالاً شديدًا كان يحفظ اختناقاته كلما هاجمتْني نوبة ربوٍ شرسةٍ، ويلومني لعدم أخذي الداوء لهذا اليوم...
لا تتحرَّكي من مكانكِ أنا آتٍ، وسمعتُ صوت ساقيه تسابقان الريح، فأدركتُ حينها أنه مازال حيًا.

استجمعتُ قواي،نهضتُ ببهجةٍ وأنا أمسح دموعي لأصندقَ -ريثما يصل- هدايا عيد ميلاده التي ابتعتُها له منذ أكثر من شهرٍ عن طريق الانترنت:
مجموعةٌ ملونةٌ من أقلام الرصاص (جرافيت) خاصةٌ بالرسم ليرسم ما يحلو له من اللوحات المختلفة التي لا تشبه إلا روحه الكبيرة، وقد عهدته نحَّاتًا ورسَّامًا من الطراز الرفيع
غلاية قهوة كهربائيةٍ، إذ تتوقف لوحدها ،الكترونيًا، مجرد أن تصل إلى درجةٍ معيَّنةٍ عن الغليان محتفظةً بوجه القهوة الذي يعشق، ومج فُستقي، لونه المفضَّل، وقد احتفظتُ بتوأمه كي نتشارك ارتشاف القهوة بنفس المج، ونفس لونه، ولو كان ذلك التشارك عن بُعدٍ، ونظارتَان شمسيَّتان، إن ضاعت إحداهما، وجد لديه بديلاً حرصًا على عينيه من التحسُّس من حرارة شمس الصيف، تيشرت سيمون، وبيجاما صيفية خاصة بالتريُّض بلونَين أخضر غامق وكحلي، إذ كان يشكو مؤخرًا من زيادة وزنه، بلاك من الفضة، كنتُ قد نقشتُ عليه أول حرفٍ من اسمي، وأول حرفٍ من اسمه، جهزَّتُ كل شيءٍ يومذاك، بقيَ أن أطلبَ منه العنوان وأفاجئه بما سأهديه، ليستيقظَ على نبأ وفاتي.

إيمان فجر السيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى