أنطون تشيخوف - جِهَاز العروس.. ترجمة: محمد الوكيل .

رأيتُ في حياتي منازل عديدة، كبيرة وصغيرة، قديمة وحديثة، مبنية بالحجر وبالخشب، لكن من بين كل هذه المنازل منزل واحد أذكره بوضوح تام. كان أقرب لكوخ منه لمنزل.. كوخ ضئيل من طابق واحد به ثلاثة نوافذ، بدا إلى حد غير عادي أشبه بعجوز ضئيلة حدباء تلبس قبعة. كانت جدرانه البيضاء الجصيّة وسقفه القرميدي ومدخنته المتهدمة غارقين في بحر من اللون الأخضر. كان الكوخ خافياً عن الأنظار بين أشجار التوت والسنط والحور التي زرعها أجداد سُكّان الكوخ الحاليين وأجداد أجدادهم. ورغم أن المنزل يقع داخل المدينة إلا أن باحته كانت جزءاً من صف باحات خضراء مماثلة مشكلة جميعها جزءاً من شارع، ولم تكن أي مركبة تسير في هذا الشارع وقلّما كان أي شخص يسير فيه.
دائماً ما تكون مصراعات نوافذ المنزل الصغير مغلقة، فسكانه لا يبالون بنور الشمس.. لم يكن الضوء ذا أهمية لهم. كانوا لا يفتحون النوافذ أبداً فلم يكونوا مولعين باستنشاق الهواء النقي. الأناس الذين يعيشون حياتهم بين أشجار السنط والتوت والقراص لا شغف لديهم بالطبيعة، فهذا الشغف لا يكون سوى لزائر صيفي منحه الله القدرة على رؤية جمال الطبيعة، بينما بقية البشر يظلون غارقين في جهل عميق بوجود جمال كهذا. لا يشعر البشر بقيمة ما يملكونه إن كان وفيراً، فنحن لا نقدّر قيمة ما نملك بل وحتى لا نحبه.
كان المنزل الصغير قائماً وسط جنة أرضية من الأشجار الخضراء التي تعشش فيها طيور سعيدة. لكن داخل المنزل.. يا للأسف..! في الصيف يكون الجو داخل المنزل مكتوماً خانقاً، وفي الشتاء يكون حاراً كحمّام بخار تركي فلا تجد نَفَساً من الهواء تتنفسه، دعك من كآبة الجو..!
زرتُ ذلك المنزل الصغير للمرة الأولى قبل عدة سنوات في مهمة عمل. كنتُ أحمل رسالة من العقيد -الذي كان صاحب المنزل- إلى زوجته وابنته. أذكر تلك الزيارة الأولى بوضوح شديد، وربما من المستحيل حقاً أن أنساها.
كانت امرأة أربعينية ضئيلة هزيلة الجسد تحدّق بي في ذعر واستغراب بينما أخطو من الممر إلى غرفة الضيوف. كوني زائراً شاباً غريباً عن المنزل كان كافياً لوضعها في حالة من الذعر والحيرة. رغم أنني لم أكن أحمل خنجراً أو فأساً أو مسدساً في يدي، استقبلوني بذعر وخوف.
سألتني المرأة الضئيلة بصوت مرتجف:
– "هل لي أن أتشرف بمعرفة اسمك؟"
قدّمت نفسي وأخبرتها بسبب مجيئي. تلاشى ذعرها ودهشتها مع صيحتها القوية المبتهجة "أوه!" ورفعت بصرها إلى السقف. تلى هذه الـ "أوه!" صدى صوت تردد في البهو ثم غرفة الضيوف ومنها إلى المطبخ وهكذا حتى القبو، ولم يمضِ وقت طويل حتى صار المنزل كله يكرر "أوه!" بأصوات مختلفة.
بعد خمس دقائق كنتُ جالساً على أريكة كبيرة ناعمة ودافئة في غرفة المعيشة، أستمع إلى "أوه!" التي يتردد صداها في الشارع كله. كانت هناك رائحة مسحوق للعث ورائحة حذاء مصنوع من جلد الماعز ملفوف في منديل قماشي وموضوع على مقعد بجانبي. على إطار النافذة كانت بعض أزهار إبرة الراعي مزروعة، وستائر من الموصلي تقف عليها بعض ذبابات بليدة.
كانت على الجدار لوحة لقس ما مرسومة بالزيت وقد كُسر زجاجها عند أحد الأركان، وبجوار القس صف من اللوحات لبعض الأسلاف ذوي الوجوه ليمونية اللون ذات السحنة الغجرية، وعلى الطاولة وُضع كشتبان خياطة وبكرة من القطن وجورب غير مكتمل الحياكة، بينما كان على الأرض باترونات ورقية وبلوزة زرقاء مثبتين معاً، وفي الغرفة المجاورة كانت عجوزان مذعورتان مرتعدتان يجمعان باترونات مماثلة وقطعاً من طباشير الخياطة من على الأرض. قالت المرأة الضئيلة:
– "أرجو أن تعذرنا، فنحن نفتقر للنظام بشكل مخيف."
كانت أثناء حديثها معي تختلس نظرات محرجة إلى الغرفة الأخرى التي كانت العجوزان ما تزالان تجمعان الباترونات فيها، وبدا باب الغرفة محرجاً هو الآخر فكان ينفتح بوصة أو اثنتين ثم ينغلق مجدداً. خاطبت المرأة الضئيلة شخصاً ما خلف الباب قائلة:
– "ما المشكلة؟"
ارتفع صوت أنثوي من خلف الباب متسائلاً:
– "أين ربطتي التي أرسلها لي أبي من كورسك؟"
= "أوه يا مريم العذراء، هل يمكن أن يكون.. هذا مستحيل حقاً.. لأن لدينا رجلاً لا نعرفه جيداً. اسألي لوكيريا."
حينها قرأتُ في عيني المرأة الضئيلة التي تورد وجهها سروراً، رغبة في أن تقول: "ما أبرعنا في الحديث بالفرنسية!" .
بعدها بقليل انفتح الباب ورأيتُ فتاة طويلة نحيلة في التاسعة عشرة تلبس ثوباً طويلاً من الموصلي عليه حزام ذهبي تتدلى منه –كما أذكر- مروحة من صَدَف اللآلئ. دخلت الفتاة وانحنت احتراماً واحمرّ وجهها حياءاً.. احمر أولاً أنفها المجدور بعض الشيء ثم انتشر الاحمرار حتى عينيها وجبهتها. هتفت المرأة الضئيلة:
– "هذه ابنتي. مانيتشكا، هذا الشاب المحترم أتى من أجل.." وقدمتني لابنتها. حين عبرت عن دهشتي من عدد الباترونات الورقية الكبير خفضت الأم والابنة عينيهما أرضاً.
قالت الأم:
– "يُقام معرض هنا في يوم (عيد الصعود)، نشتري الأقمشة فيه ثم نبقى منشغلين بحياكتها حتى معرض العام التالي. نحن لا نؤجل حياكة الثياب فراتب زوجي ليس كافياً ولا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بنيل بعض الترف، لذا نحيك كل ثيابنا بأنفسنا."
- "ولكن من سيلبس كل هذا الكمّ من الثياب؟ ألستما تعيشان وحدكما في المنزل؟"
– "أوه.. لم نكن لنفكر في ارتدائها! نحن لا نلبسها، بل هي من أجل جهاز العروس!"
تورد وجه الابنة بالحمرة مجدداً وقالت:
– "آه، ماما، ما هذا الذي تقولينه؟ سيظن ضيفنا أن هذا صحيح! أنا لا أنوي الزواج أبداً!"
ورغم قولها هذا، برقت عيناها عند نطقها كلمة "الزواج".
قدّموا إليّ الشاي والزبد والمربّى ثم العُلّيق والقشدة. في الساعة السابعة تناولنا العشاء الذي تكوّن من ست أصناف مختلفة، وبينما كنا نتعشّى سمعتُ صوت تثاؤب عالٍ في الحجرة المجاورة.. نظرتُ متفاجئاً نحو الباب: فتثاؤب كهذا لا يمكن أن يصدر سوى من رجل.
قالت المرأة الضئيلة حين رأت دهشتي:
– "هذا ييجور سيميونيتش شقيق زوجي، يعيش معنا منذ العام الماضي. أرجو أن تعذره فهو لن يستطيع القدوم لمقابلتك، فهو شخص غير اجتماعي يخجل من الغرباء. صار يتردد على دير قريب بعد أن تعرّض لمعاملة ظالمة في العمل الحكومي وسيطرت خيبة الأمل عليه."
بعد العشاء عرضت عليّ المرأة الضئيلة الرداء الكهنوتي الذي طرّزه ييجور سيميونيتش بيديه كهدية للكنيسة. تخلّت مانيتشكا عن خجلها للحظة فعرضت عليّ جعبة التبغ التي كانت تطرّزها لأبيها. حين تظاهرت بالانبهار الشديد بعملها تورّد وجهها وهمست بشيء ما في أذن أمها، فابتسمت الأخيرة بابتهاج ودعتني لأن أذهب معها إلى مخزن المنزل.. وهناك رأيتُ خمس حقائب كبيرة وعدداً من الصناديق والحقائب الأصغر حجماً.
همست أمها:
– "هذا هو جِهَازها. أعددناه كله بأنفسنا."
بعد أن رأيتُ تلك الحقائب البغيضة غادرتُ مضيّفاتي كريمات الضيافة بعد أن أخذن مني وعداً بأن آتي لزيارتهن مجدداً في يوم آخر.
وحدث أن تمكنتُ من الوفاء بهذا الوعد. بعد سبع سنوات من زيارتي الأولى أُرسلتُ إلى المدينة الصغيرة لأتقدم برأيي في قضيّة كان يتم الحكم فيها هناك.
وحين دخلتُ المنزل الصغير سمعت نفس الـ "أوه!" تتردد داخله، فقد عرفنني على الفور.. وهذا طبيعي! كانت زيارتي الأولى حدثاً مهماً في حياتهما، وحين تكون الأحداث المهمة قليلة يكون تذكرها سهلاً ولو بعد زمن طويل.
دلفتُ إلى غرفة المعيشة. رأيتُ الأم التي ازدادت بدانة وصار شعرها رمادياً بالفعل، جالسة على الأرض تقص قماشاً أزرق، ورأيتُ الابنة جالسة على الأريكة تطرّز شيئاً. كانت رائحة مسحوق العث ما تزال موجودة، وكذلك الباترونات نفسها واللوحة ذات الزجاج المكسور نفسها. لكن كان هناك تغيير ما، فبجوار لوحة القس عُلّقت لوحة للعقيد، وكانت المرأتان تلبسان ثياب الحداد.. كان العقيد قد توفي بعد أسبوع من ترقيته إلى رتبة لواء.. هنا استيقظت ذكريات الماضي.. وبدأت الأرملة تذرف الدموع.
قالت:
– "لقد أصبنا بفاجعة كبيرة. تعلم أن زوجي قد توفي. نحن الآن وحيدتان في هذا العالم ولا أحد يهتم بأمرنا سوانا. ييجور سيميونيتش حي، لكنه ليس بخير. لم يقبلوه في الدير لأنه.. لأنه يعاقر المشروبات الروحية. والآن صار محبطاً أكثر ويشرب أكثر من السابق. أفكر في التقدم إلى مشير طبقة النبلاء بشكوى ضده. هل تصدق أنه فتح الحقائب عنوة عدة مرات و.. أخذ جهاز مانيتشكا وأعطاه للشحاذين؟! لقد أخذ كل شيء كان داخل اثنتين من الحقائب! إن استمر في فعل هذا فلن يبقى لابنتي مانيتشكا ثياب لجهازها على الإطلاق."
قالت مانيتشكا في خجل:
– "ما هذا الذي تقولينه يا ماما؟ ضيفنا سيظن.. لا أدري ماذا يمكن أن يظن.. سوف لن أتزوج أبداً، أبداً.". رفعت مانيتشكا بصرها إلى السقف بنظرة أمل وطموح، مؤكدة بذلك أنها لا تعتقد بما قالت على الإطلاق.
اندفع رجل أصلع الرأس يلبس معطفاً بنياً وحذاء جليد صوفياً بدلاً من الحذاء ذي الرقبة، اندفع كالفأر عابراً الممر ثم اختفى. فكرت: "أظن أن هذا هو ييجور سيميونيتش." .
نظرتُ إلى الأم والابنة معاً. تغيرتا كثيراً وبدتا أكبر سناً. صار شعر الأم فضياً، لكن الابنة كانت شاحبة جداً وذابلة حتى أن أمها قد تبدو لمن لا يعرفهما أختاً كبرى لا تكبرها بأكثر من سنوات خمس.
قالت الأم لي ناسية أنها قالت ذلك من قبل:
– "لقد قررتُ أن أذهب إلى المشير. سوف أتقدم إليه بشكوى. ييجور سيميونيتش يستولي على كل ما نصنع ويتبرع به ليطهّر روحه. ابنتي مانيتشكا صارت بلا جهاز."
احمر وجه مانيتشكا خجلاً مرة أخرى ولكنها لم تقل شيئاً هذه المرة.
– "يجب أن نصنعه كله مرة أخرى. والله يعلم أننا لسنا ثريتين. نحن الآن وحيدتان في هذا العالم."
كررت مانيتشكا: "نحن الآن وحيدتان في هذا العالم.".
وقبل عام، أتى بي القَدَر إلى المنزل الصغير مرة أخرى. حين دلفت إلى غرفة المعيشة رأيتُ المرأة العجوز تلبس ثياب الحداد السوداء ذات الضفائر الثقيلة من الكريب، جالسة على الأريكة تحيك شيئاً، وبجوارها كان يجلس الرجل العجوز الضئيل الذي يلبس معطفاً بنياً وحذاء جليد صوفياً بدلاً من الحذاء ذي الرقبة. حين رآني وثب من مكانه وركض إلى الغرفة.
ابتسمت السيدة العجوز رداً على تحيّتي وقالت:
– "سررتُ لرؤيتك من جديد يا سيدي."
بعد قليل سألتها:
– "ماذا تحيكين؟"
أجابت:
– "إنها بلوزة. حين أنتهي منها سأعطيها للقس ليخزنها عنده، وإلا سيستولي عليها ييجور سيميونيتش." ثم أضافت هامسة: "صرتُ الآن أخزن كل ما أصنع في منزل القس."
ثم ألقت نظرة على صورة ابنتها المنصوبة أمامها على الطاولة، وتنهدت وقالت:
– "أنا الآن وحيدة في هذا العالم."
وماذا عن الابنة؟ أين مانيتشكا؟ لم أسأل. لم أجرؤ على أن أسأل الأم العجوز التي ترتدي ثياب الحداد السوداء للمرة الثانية. وطوال الوقت الذي قضيته في غرفة المعيشة. وحين نهضت لأرحل، لم تأتِ مانيتشكا لتحيّتي. لم أسمع صوتها ولم أسمع صوت خطواتها الهادئة المترددة…
فهمت، وشعرتُ بالحزن يثقل قلبي.
(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى