محمد مزيد - ساحة التماثيل

تأتي ريماس، كل يوم، الى ساحة التماثيل، في مركز هذه المدينة البعيدة عن ديارها، وهي تضع على وركها العريض طفلتها ذات العامين، ثم تجلس في مكان محدد على مصطبة حديدية، أمام أحد التماثيل، الذي يشبه وجهه الى حد كبير، وجه الألماني الوسيم الذي ألتقاها قبل ثلاث سنوات في مؤسسة توزيع المساعدات على اللاجئين، وفي ليلة بلا قمر، تحجب الغيوم نجومها، زرع في احشائها هذه الطفلة، ذات عينين زرقاوين، ما يجعلها مصرة على الجلوس أمام هذا التمثال لانها قد رأته ذات مساء، غمز لها بعينه اليسرى، لم تكن تتوهم ولا مسحورة بجمال انوثتها الصارخ الذي تسبب لها بكل هذا الأذى .
كانت كل يوم تنتظر تلك الغمزة، عند الغروب تحديدا، تعتقد أن الرب تخلى عنها، منذ زمن بعيد، لكنه هنا، يخبرها الرب بإمور غامضة، يفيض عليها ، ويدس في عقلها المرتبك الذي توقف عن التفكير انه موجود بقربها ،لكنها غير قادرة على فك ألغازه، لا تستطيع أن تعرف علاقة العين اليسرى الغامزة لهذا التمثال بالغروب ؟
تجرأت هذا اليوم، فاقتربت من وجهه ، أرادت أن تكلمه، وهي تعلم انه مجرد كتلة من البرونز جامدة ، بقيت تنظر الى العينين الجامدتين، لم يتحرك قيد انملة ،ولما أدارت ظهرها وهي تهم بالمغادرة، بعد يأس، ضحكت طفلتها ، فأستغربت ، ادارت ظهرها سريعا اليه ، اذ وجدت يده قد عادت الى مكانها، كان يبدو انه قد وضع يده على خصلات شعر الطفلة ، بثت هذه الحركة في قلبها الرعب ، ولما تقابل وجهها بوجهه ، همس اليها " لا تخافي ، تعالي في منتصف الليل وسأخرج معك الى أي مكان تشائين " !!
لم تتحرك عن مكانها، بقيت واقفة ترتعش، لا تقوى قدماها على حملها، أخذت تنظر الى الوجه البرونزي الضاحك، من دون أن ترى اثرا للحياة فيه. تصاعد الاضطراب في قلبها والخوف، وشعرت أن قلبها الصغير لا يتحمل كل هذا النبض السريع المتدفق، خافت من أن تؤدي حركات التمثال، الى كارثة جديدة، هي ليست قادرة على مواجهتها.
عادت الى الكمب مكان تجمع المهاجرين، دخلت الى الكرفان الذي خصص لها مع عائلة افريقية، تتكون من امرأة في الثلاثين من العمر وبناتها، ثلاث فتيات صغيرات سود، تنتظر هذه العائلة مثلها الموافقة على الإقامة المؤقتة في هذا البلد الأوروبي.
بعد أن أرضعت صغيرتها، ووضعتها على سريرها نائمة، جلست ريماس أمام مرآة صغيرة، تنظر الى وجهها الحنطي الذابل وشعرها الأسود، ثم نهضت ووضعت يديها على وركيها الكبيرين ثم قالت في نفسها " هنا مكمن عذابي " فكرت، هل تذهب لوحدها في منتصف الليل أم تأخذ أبنتها معها؟ ستكون الصغيرة نائمة في هذا الوقت، نهضت، ازاحت الستارة الفاصلة بينها وبين العائلة الافريقية ، ايقظت جارتها، ذات الوجه الضاحك الجميل، وطلبت منها أن تهتم بابنتها في حال غيابها، عند منتصف الليل. وبعد ساعة التفتت الى ابنتها النائمة والى عيني الافريقية الضاحكتين، ثم خرجت الى ساحة التماثيل في وسط المدينة.
اقتربت من التمثال، رأته يبتسم لها، ثم خرج من هيكله البرونزي، ليظهر بلحمه ودمه، امسك بذراعيها واخذها الى جرف النهر الذي يقسم المدينة الى نصفين، جلسا، وضع يده على كتفها، ثم لثمها بقبلة، وبعدها سألها:
- لماذا لم تأت بابنتي؟
ذعرت بشدة، سؤاله أيقظها من سباتها، وهي تحلم بالطيران في المساحات الخضر التي تسببت بها القبلة:
- ابنتك؟
ضحك بهدوء، بخفوت، أعجبها صوته العميق، ذكرّها بالشامة تحت ثديها الايسر ، ولطمة الحمة في اعلى فخذها الأيمن، وتفاصيل تلك الليلة، من أول لمسة حتى آخرها .
استغربت، انه يتكلم بتفاصيل تحتوي على اسرار ليلتها التي زرع فيها الالماني بذرته في رحمها. قبلها من خدها، وطلب منها أن تجلب ابنته في المرة القادمة.
نهضت بصعوبة، عادت الى الكرفان، فوجدت طفلتها تنام على ذراع المرأة الافريقية.
قارنت بين لون عيني ابنتها الزرقاوين ولون عيني رجل التمثال، تأكدت تماما، إنه هو، لكن لماذا صار تمثالا؟
تركت ابنتها نائمة بحضن المرأة، وعادت مسرعة الى ساحة التماثيل، نظرت الى وجوههم جميعا، كان كل واحد منهم يشبه وجها تعرفه، هذا زوجها الذي قتل بسبب الطائفية، هذا زوج أمها الذي مات بالحسرة في ايام الحصار، وذاك اباها الذي قتل بحرب ايران وبجانبه خالها، و عمها.. بقيت تبحث عن اخيها الذي ذهب الى الحرب ولم يعد لحد الان.
ولما عادت الى التمثال الألماني الذي يغمزها، أخبرها بصوت خافت " أن أخاك لن يعود من الحرب، لانها مازالت مستمرة، ولم ينصب له تمثال بعد كما نحن " .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى