سعيد رفيع - الإحتياط واجب

أعلنت الصحف أن موكب المسؤول الكبير سيخترق شارع الكورنيش في طريقه للمنطقة الصناعية لافتتاح مصنع جديد ، وفي الصباح تدفقت الحشود إلى الشارع المحظوظ حتی اكتظ بالبشر ، وكاد أن يختنق بالزحام .
ورغم تسابق الناس وتكالبهم على احتلال مواقع قريبة من الطريق ، فقد نجح في أن يدس جسده النحيل بين الأجساد المتلاطمة ، وتمكن بصعوبة بالغة من الوصول إلى مكان فريد يقع خلف الجنود مباشرة ، الذين اصطفوا ببزاتهم الأنيقة وقبعاتهم الملونة ، وقد تشابكت أصابعهم ، فشكلوا حاجزا بشريا منيعا يعزل الطريق عن الحشود الفضولية .
وقبل أن ينتصف النهار ، مر ضابط كبير على دراجة بخارية ، أخذ يستطلع الطريق ، ويتفقد الحشود على جانبيه ، ثم ما لبث أن عاد أدراجه ، فكان ذلك مؤشرا على أن مرور الموكب قد بات وشيكا .
وما هي إلا لحظات، حتى ترامی من بعيد صوت الصافرات ، وانشقت الأرض عن قافلة كبيرة من السيارات الفارهة ، تتقدمها الدراجات البخارية ، فانطلقت شرارة الحماس ، وتشنجت الحناجر بالهتاف ، وجلجلت زغاريد النسوة من النوافذ والشرفات ، وأخذت فرقة من تلاميذ المدارس تعزف الموسيقى ، وتردد الأناشيد الوطنية .
وانتقلت إليه عدوى الحماس ، فانتفضت أطرافه ، وشعر ببروده تسري في جسده ، رغم حرارة الجو ، وما لبثت البرودة أن انتقلت إلى رأسه ، ثم شب على أطراف أصابعه ، ومط رقبته حتى كادت أن تنفصل عن جسده ، بينما راحت عيناه تحدقان من فوق الرؤوس ، وتفتشان عن ثغرة بين الأعناق لتشرف منها على الموكب المهيب .
واشتد ضغط الجماهير على الجنود ، فتشبثوا بمواقعهم ، وراحوا يدفعون الناس إلى الخلف ، وتعالت صيحات تحث الناس على النظام ، ثم مالبث أن شرع الجنود هراواتهم ، وكان نصيبه ضربات مؤلمة على رأسه وذراعيه تمزق على أثرها قميصه فلم ينتبه للسيارات الفارهة ذات النوافذ المعتمة التي مرقت بسرعة مذهلة .
وبعد مرور الموكب ، إنفرط عقد الجنود ، وتدافع الناس في كل الإتجاهات ، فشق طريقه بصعوبة بين الأجساد حتی حرر جسده من براثن الزحام ، ثم وقف يلتقط أنفاسه ، ويلملم أطرافه .
وبينما هو يعاين قميصه الممزق ، ويتحسس الخدوش في رأسه وذراعيه ، وقعت عيناه على صديقه ضابط الشرطة ، بقامته الفارعة ، فرفع يده محييا ، ثم اقترب منه ، وصافحه ، وقال وهو يشير إلى قميصه الممزق :
- رغم كل هذا لم أتمكن من رؤيته .
إبتسم الصديق ، وهو يتلفت حوله ، ثم قال بصوت خفيض :
- لا عليك .. لقد مر المسؤول سرا من شارع آخر .
وقبل أن يفيق من ذهوله ، تركه الصديق ، وانصرف مسرعا ، فعاد يتحسس الإصابات المؤلمة برأسه وذراعيه ليكتشف أن ساعته لم تعد في معصمه .
وفي المساء ساءت حالته ، وأصيب بمضاعفات خطيرة ، فقد التهبت فروة رأسه ، وتورمت ذراعاه ، فاستدعت زوجته الطبيب ، الذي جاء على عجل ، وأوصى له بعلاج مكثف .
وفي الصباح شعر ببعض التحسن ، فغادر الفراش ، وتناول الإفطار كعادته في شرفة المنزل ، ثم طالع جريدة الصباح ، التي أصدرت عددا خاصا عن افتتاح المصنع الجديد ، وتصدرت صفحتها الأولى صورة المسؤول الكبير ، واقفا على متن سيارة مكشوفة ، وهو يلوح للجماهير الغفيرة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى