د. أماني فؤاد - أسماك كالتي عرفتها.. قصة

حين مرضتْ أمي؛ لجأتُ للمياه نفْسها، لأيام لم ألتقط إلا صرخات معدتي وإخوتي، ‏استعرتُ يدها بعروقها النافرة، التي تنبض بإيقاع عميق، ببشرتها الشفافة الملساء، وردَّدتُ ‏ذات الكلمات التي همسَت بها في أُذني؛ فخرجت سمكة كبيرة، من حولها تقافزت أسماك ‏كثيرة ملوَّنة، امتلأتْ بها ردهة البيت الجانبية، هرولت إليها، فقالت: الله هو الرزاق.‏

حكى أخي الصغير: إنه رأَى في أحلامه أسماكًا – كالتي أغرقَتْنا – تخطو على جسد ‏أمي، كانت تعبُرها كل يوم كما يمشي قِطُّه الأبيض على جسده، المرأة التي كانت تمد ‏نظرها لليل فينسال بعضه بأصابعها؛ لتكتحل به.‏

لم يعد أبي منذ سبْع سنوات، تحطمت سفينته الصغيرة، بعض حروف من اسمه فقط ‏تناثرت على الشاطئ، كان قد رسَمها على ألواح مركبه. لم تبكِ أمي، وقفت أمام البحر ‏وحيدة بعد أن أمرتني وإخوتي بالعودة، بدت كصنم، لساعات شاخصة نحو السماء، ثم ‏بدأت تشير للبحر، تئن بوجع، وكلما تهاوت فوق الرمال؛ قامت ثانية، رأيتها تطوِّح ‏طرحتها، أو ربما ألسنة من نيران بيضاء، نفذ صراخها من طبقات الغيب، لوهلة رأيتها ‏تقف أعلى حواف الأمواج، تصعد فوق السحاب، لنداءاتها اقشعرت الأعالي، فارتد صوت ‏هائل يدوي كرياح هوجاء. ‏

في الليالي المقمرة، كانت المرأة التي لم تذرف الدموع، توقد النيران على الشاطئ، ‏وتستنهض ألسنتها بنجواها، في أحد مرات عودتها، رأيت الأمواج تحث الخطو وراءها، ‏تتضرَّع أن تكُفَّ طقوسها، طقوسها التي لا تكابدها إلا امرأة انشَقَّ لوجعها صدر السماء. ‏

على فِراش النهاية، أمرَتني أن أوقد النيران ورمت فوق رأسي بغلالة تضوي، وحين ‏انشغلت بالنبض الذي سرى بعروقي، ألحَّت: “افعلي”، رأينا وجه أبي متوهجًا، تنعكس ‏عليه حمرة النيران، سرَى باتجاهها، قبَّلها، حوْلهما تقافزت مئات الأسماك الصغيرة ‏الملوَّنة، أمسك بيديها؛ فتبدَّدا. ‏

حتى هذه اللحظة – منذ عشْر سنوات – لم تزل يد أمي الشفافة الملساء، وكلماتها – ‏التي أسرَّت بها إليَّ – تطعمنا الأسماك.‏

في الليالي المقمرة، حين أُوقد النيران؛ كانت سفينة أبي الصغيرة تلوح فوق الأمواج، لم ‏أعد أراهما، لكن الأسماك الصغيرة الملونة كانت – كلَّما غفوت – تخطو فوق جسدي، ‏وحروف اسم أبي، ونجمتين تتلألآن بعيني أمي، كانتا تتجددان كل مساء. والريح الهادر ‏الذي انكسر في مواجهة المرأة، التي ارتعشت لأنينها أذن السماء.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى