ثناء درويش - غالية

كالعادة حاولت غالية أن تضغط جاهدة على أعصابها، كي لا تبصق الحصاة التي بقيت لسنوات تحت لسانها، وكتمت غيظها ككلّ مرّة فلم تقل له في نوبة نزقها وفقدان السيطرة على جيشان مشاعرها ما ودّت قوله منذ لحظة تعيينها في هذه المؤسسة:
"من تظنّ نفسك؟؟ ما أنت إلا مجرّد نكرة مهما ظننت أنّ هذا الكرسيّ سيهبك ألف ولام التعريف، وسيرفع هامك فوق رؤوسنا ليتحكّم بمصائرنا ما بين نهي وأمر، دون أن يحقّ لنا أن نعترض او نشكو"
وكان سيل الاعتراض سيتابع مجراه ليجرف ركام أوهامه وطمي غروره حين تتابع ساخرة:
"انظر جيّداً لهذا الكرسيّ، أتراه دام لسواك ممن سبقوك ليدوم لك، أيّها الجنين المشوّه الذي لابد ذات ميقات أن يلفظه رحم الكون".
كانت غالية قد تخرّجت من كلّية التجارة قسم المحاسبة منذ خمسة عشر عاماً ثم تابعت دراساتها العليا مباشرة بنفس الاختصاص لحصولها على معدّل عال، وما كان بحسبانها أنها ستبدأ رحلة الخيبة والانطفاء وهي تقف وجهاً لوجه أمام وطن متداعٍ لم يبق منه إلا الأشعار تمجّده وحنين المغتربين لصورة له في البال، ووجدت روحها تنهزم رويداً في ذلك الواقع البائس وراح طموحها يذوي وإرادتها التي ظنّت أنّها ستتحدّى بها المستحيل تنطفئ كذؤابة شمعة.
كم كانت ساذجة حين اعتقدت أنّ الشركات ستتهافت للاستفادة من تعليمها العالي وخبرتها، وكم شطح خيالها بعيداً وأعمت الثقة بنفسها عينيها عن رؤية شريعة الغاب السائدة وحقيقة أنّ البقاء للأقوى، والأقوى حتماً مادّياً أمام اندحار الروح والقيم الوجدانية.
بعد انتظار ثلاثة اعوام بقيت خلالها عاطلة عن العمل عالقة في أملها وانتظارها، قدّمت غالية بتحريض من أهلها على وظيفة حكومية، وجاءتها التباريك والتهاني من الأهل والأصدقاء لوجود اسمها ضمن المقبولين، في مرحلة أصبح الحصول على وظيفة حلم الأكثرية، رغم ضآلة الراتب الشهريّ أمام الجهود المبذولة، ومعاناة الوصول لمقرّ الشركة عبر مهزلة وسائل المواصلات التي تذكّر يوميّاً بساعة الحشر.
دخلت غالية مكتب مديرها لتستلم مهامها في يومها الأول، وحين رأت مديرها هبطت معنوياتها ألف درجة للأسفل وكانت أول صدمة لها على ارض الواقع العمليّ، فقد كان هو نفسه الولد الكسول الذي درس معها في مدرستها الابتدائية والذي طرد مرّات منها لتسيّبه وعدم انضباطه وتقصيره الدراسيّ، ومن يومها لم تعد تسمع ايّ خبر عنه.
وراح السؤال تلو السؤال يدور في رأسها كرحى الطاحون ولا طحين جواب يشبع نهم الفضول:
"كيف وصل هذا الفاشل إلى هنا؟!
أيّ واسطة ثقيلة جعلته يعتلي كرسي الإدارة.. وجعلتني مأمورة لديه؟!
كم دفع ثمن شهادة الدكتوراه الفخريّة في الاقتصاد التي يعلّقها خلفه على الجدار؟!".
وهكذا بقيت لأكثر من عشر سنوات تتخيّل انفجارها بوجهه فاضحة قيمته الإنسانية والعلمية الضحلة، إثر كلّ ملاحظة يوجّهها لها بغير علم أو حقّ، لكنها تحجم حين تتخيّله كيف سيمكسها من كتفيها لو قالت له ذلك ويفتح الباب ويقذفها منه إلى غير عودة كلقمة ممجوجة.. أو بأحسن الأحوال كيف سيرفع بها تقريراً للجهات العليا تقتصّ من راتبها وإجازاتها وأبسط حقوقها، دون أن تجد من يسمع وجهة نظرها أو دفاعها عن نفسها، لأن صوته سيكون الأعلى ما دامت الحياة بالنسبة إليه ولمن عيّنه "محسوبيّات" وخزينة أموال تتكاثر إلى اللا نهاية.
ستصمت كالعادة بالعة السكّين على حدّيه، ولن تقول شيئاً مهما تعالى ضغط الدم وتكاثرت رضوض الروح. ستغتصب ابتسامة صفراء تردّ بها على ملاحظاته الفجّة الخالية من التقنية وبعد النظر، وتفعل ما يطلب منها كموظّفة مطيعة، وستدّعي العمى وهي ترى نفسها تساهم في زيادة رصيده وعدد عماراته، متناسية بأحد الأدراج شهاداتها العلمية وفي عمق روحها شغفها المعرفي وجموح طموحها القديم في أن تكون عماداً مهمّاً لاقتصاد الوطن.
وحين تعود للبيت، ستهرع فوراً كعادتها إلى المطبخ قبل أن تخلع ملابسها، ستعتكف فيه لساعتين تعدّ خلالهما الطعام، وتهرب مؤقتاً من عيون صغيريها الكشّافة وقد بدآ يلاحظان انطفاء طاقة الحياة عند والدتهما، وتوتّرها لأتفه الأسباب.
ستعذر زوجها الذي صار المنزل بالنسبة له فندقاً للأكل والنوم، وتقنع نفسها أن من حقّه أن يبحث عن السعادة بعيداً عنها، وأنّ في ابتعاده راحة لها من أعباء زوجية إضافية.. لا طاقة لها بها.
أنهت غالية إعداد الطعام الذي لم يتملّح هذه المرّة بدموعها، ثم دخلت الحمّام لتغتسل من أدران وقذارة الفساد الذي يعلق بها مجرد خروجها من منزلها ويملؤها تماما حين عودتها، نظرت في مرآة الحمّام طويلاً.. حدّثت نفسها من جديد:
"لابد أن هناك مصارف للصبر وإلا فسيقضي على الجميع هذا القهر".
استغرقت بملامح وجهها الزاوي الشاحب كلون الشمع حتى غامت عيناها، ولم تعد ترى إلا إطار المرآة الفارغة المفتوحة لابتلاعها كثقب أسود.. ثمّ فجأة لاح وجه مديرها داخل المرآة ينظر نحوها بتشفٍّ وسخرية، فخيّل لها أنّه وجه مسخ، الوجه الدميم القبيح للدنيا.
ولم تدر وهي تقف أمام المرآة المحطّمة وقطرات الدم الراعفة تتقاطر من كفّها، من منهم الذي تناثر شظايا على الأرض، هي.. أم ربّ عملها، أم وطن مكسور؟!.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى