منيرة الدّخلي - الغرفة رقم 41

كان لإيقاع الليل في المبيت الجامعي رقّادة بالقيروان وقع خاص.ففي موسيقى الظّلام نشاز عجيب.إنّها خليط رهيب من أصوات البنات ووقع الأقدام و حفيف الأشجار و صفع الأبواب وحشرجات مذياع من هنا أو من هناك و أغان قديمة و جديدة و صرخة مفاجئة و قهقهة عالية .يطول الليل أو يقصر و ذاك اللّحن لا ينقطع . يخفت أحيانا لكنّه يعلو من جديد .
في الغرفة أظلّ مواكبة لموسيقى أخرى .إنّها مزيج من دويّ لم أعرف مصدره قطّ و أزيز سريري و صفير بعض الحشرات و رعدات مصابيح الممرّات القديمة.لقد اعتدت تلك الموسيقى.
خلف زجاج نافذة غرفتي كان المنظر مثيرا للشّفقة إذ لا شيء يقطع مدّ البصر غير أشجار متناثرة هنا و هناك .و كنت ،رغم ذلك ،أقف لساعات طويلة أتأمّل المشهد .كانت شريكتي في الغرفة تتعجّب من ذلك و لم أكن اكترث لها.أمّا ليلا فقد كنت أتعمّد ترك النّور مشتعلا فتهجم الحشرات على زجاج النّافذة هجوما مخيفا . كانت بأنواع مختلفة و أحجام متفاوتة .
أشكالها تلفت انتباهي .و ألوانها تعجبني لأنّها طبيعيّة لا زيف فيها .كنت أضحك من نفسي كلّما أتخيّلها تخترق الزّجاج و تدخل الغرفة .إذ كيف سيكون مصيري ؟أحيانا أخرج لأمر ما فأخاف أن تشمت بي شريكتي في الغرفة فتفتح لتلك الزّائرات الشّبّاك ثمّ تهرب

و تتركني أواجهها وحدي .لكنّي سرعان ما استبعد ذلك الافتراض عندما أعود إلى غرفتي
و أجدها مستسلمة للنّوم و قد غطّت وجهها بالوسادة حتّى لا يزعجها النّور.
لقد كانت طيّبة و متفهّمة و لكن بها عيبا كبيرا جدّا و هو الفضول و التّدخّل فيما لا يعنيها . كنت أرتاح منها طوال النّهار إذ تفضيه مع بنات منطقتها .أمّا في اللّيل فكانت لا تنام إلاّ في سريرها .فتهبط عليّ هبوط الهمّ. و تكثر من الأسئلة : كيف قضّيّت يومك ؟هل ذهبت إلى الجامعة اليوم ؟هل راجعت ؟ماذا درست ؟هل زرت أحدا ؟هل زارك أحد ؟ و تعجب العجب كلّه إذا أخبرتها أنّني قضّيت يومي في القراءة .و أنّني لم أغادر الغرفة طوال اليوم .
أخبرتني مرّة بأنّها قد تموت إن حجزوها في مكان مغلق لبضع ساعات فقط فما بالك لو كان يوما كاملا .
كانت كريمة معي .و كنت ودودة معها .أسمعها إن شكت. و أتعاطف معها إن بكت .
و أرعاها إن مرضت .لكنّها وضعت حدّا لعلاقتنا يوم خرجت من الغرفة في آخر يوم لنا معا دون أن تقول كلمة واحدة. و لم تبارك لي نجاحي .ولم تلتفت لتوديعي . أحزنني تصرّفها.
لكنّي لم ألمها . كتمت حزني .و سرعان ما نسيت أمرها .
في شهر جويلية يقلّ عدد الطّلبة و يقفل المطعم و تشلّ الحركة في الممرّات و تكثر الغرف الفارغة.كنت مضطرّة على المكوث وحدي أنتظر نتيجة الشّفوي .حزمت أمتعتي .ولم أسلّم المفتاح إلى المسؤول عن الإيداعات و بقيت انتظر .لم يطل انتظاري ففي اليوم التّالي أعلنت النّتيجة و كنت من النّاجحين .عدت إلى غرفتي لاستكمل جمع حاجياتي ففوجئت بخديجة تدخل الغرفة صحبة أختها.سلّمت عليّ ببرود إذ علمت بأمر نجاحي .ثمّ تمدّدتا على سريرها.لقد نامتا معا في فراش واحد في ذلك الطّقس السّاخن .كان معي بعض الخبز
و الجبن والتّفّاح فقدّمت لهما العشاء .أخذتاه منّي عن طيب خاطر .لكنّهما كانتا حزينتين.
فقد رسبت خديجة .و لم تستكمل شفويّا الشّهادة الوحيدة الّتي تحصّلت عليها كتابيّا . لم استطع أن أقول كلمة واحدة .فاكتفيت بالصّمت .
أختها تكبرها .و كانت تميل إلى الصّمت و هي لطيفة أيضا .غير أنّها عنيفة في غلق الباب و فتحه ممّا جعلني اهتزّ و انتفض عدّة مرّات .كانت ليلة مريعة . خفت فيها كثيرا .فقد كانت جلّ الممرّات فارغة .و قد تنبّهت إلى أنّ غرفتي الوحيدة المسكونة في ممرّنا .
لكنّ حضور خديجة و أختها جعلني أطرد مخاوفي .فاستأنست بهما .تمدّدت أطلب النّوم .
فغفوت قليلا .
لكن يا إلهي ماذا يحصل لي ؟
فجأة اختنقت .و ألمّ بي ألم عجيب سرعان ما انتشر في كامل جسمي.
جاهدت و فتحت عينيّ.جاهدت و فتحت عينيّ. إ نّها أخت خديجة قد انقضّت على عنقي تعصره بين يديها عصرا .يداي تتخبّطان في الفضاء .قدماي تحفران الحشيّة حفرا .الصّرخة تموت بداخلي .لقد أخرستني الصّدمة .الهواء صار مطلبي .أريد أن أتنفّس .ما أجمل الحياة! و ما أقسى الموت! انتفخت عيناي.احتقن وجهي.خديجة تهبّ لمساعدة أختها.
انهالت عليّ ضربا .تركل حينا و تلكم حينا آخر .كان إحساسا مريعا .
النّجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدة النّجـــــــــــــــــــــــــــدة
قد لا أقوى على تذكّر التّفاصيل .غير أنّي أذكر أنّ النّافذة انفتحت و أن ّذلك العدد الهائل من الحشرات قد هجم على غرفتي .يتصيّد فرصة قد لا تسنح له مرّة أخرى.فجأة تنحّت عنّي تلك الأيدي القابضة على عنقي.فذقت حلاوة الخلاص من الموت .و إذا بي أتنبّه إلى ما حصل للفتاتين .لقد غطّتهما الحشرات.فلم أعد أتبيّن منهما شيئا .حتّى أصواتهما المتأوّهة أسكتت.
لقد أضحتا كيسين منتفخين .ولا مكان شاغر من القرص و اللّسع.لقد طمست ملامحهما .
ارتعدت .نظرت إلى أطرافي .ليس بي انتفاخ أو وجع.إنّها لم تهاجمني .فأخذت أتأمّلها بنفس إحساسي القديم .لكنّ أشكالها وألوانها بدت لي مختلفة . فعيونها جاحظة غاضبة .و أشواكها ناتئة . وطيرانها يحدث أصواتا عالية مزعجة .حزنت لأنّها لم تكن وديعة كما عهدتها .ولأنّها تغيّر جلدها كبني آدم .
كان سقف الغرفة مغطّى بذلك الجيش الصّديق .لقد شبعت تلك الحشرات من أكل ما تسنّى لها من لحم الفتاتين المرميّتين على الأرض.كان الوضع ينمّ عن جريمة قتل .حاولت النّهوض لأشرب لكنّ إحدى تلك الحشرات جثمت على صدري .وصوّبت عينيها نحو عينيّ
فشعرت بالدّوار و إذا بي أغيب عن الوعي .و لا أدري كم من الوقت بقيت على ذلك الحال.
***
مرّة أخرى يصفع الباب صفعا فنهضت .كان قلبي يخفق بشدّة .و كنت أتصبّب عرقا .وقد التففت بالغطاء التفاف من ينشد السّلامة محتميا بقشّة .لقد كانتا خديجة و أختها .إنّهما تغادران الغرفة حاملتين ما تبقّى لهما من أمتعة قليلة.أغلقتا الباب بعنف شديد كالعادة دون أن تقولا كلمة توديع واحدة .بقيت مقرفصة في سريري .نظرت إلى النّافذة .لقد سطع نور الشّمس على الأرض .ونفذ إلى غرفتي وارتسم على الجدار .كانت السّاعة السّادسة صباحا .كنت منهكة كمن انتهى للتوّ من تمرين في العدو .التففت مجدّدا بالغطاء رغم الحرارة المرتفعة .و لذت استمتع بنور الصّباح.كان نورا رائعا يختلف عمّا عهدته سابقا .و إذا به
يخترقني وينير صورا عديدة تراءت أمامي :امتحاناتي ...مضايقة البعض لي....لطف البعض معي ...كرم بعض أساتذتي ...وقرف البعض الآخر....خوفي من الفشل...
إضرابات الطّلبة...الاجتماعات ...هجوم البوليس علينا ....صراخ البنات ...النّجاح...
الجوع... ضيق الحال...البرد الذّي يخترق العظام...المنحة ...البكاء وهو إمّا بسبب الفرح أو الخيبة .
فجأة وجدتني أضحك .لقد تراءت لي صورة خديجة وهي تحسدني لنجاحي .لا شكّ أنّها بكت .ربّما لذلك السّبب زارتها أختها حتّى تواسيها و تمنعها من قتلي! .اتّسعت ابتسامتي
عندما تذكّرت هجومهما عليّ بالأمس ! لقد ظلمتهما إنّهما ليستا بتلك الشّراسة .أخبرني أحد الأولاد ،مرّة ،"أنّه لن يفهم قطّ مشاعر البنات نحو بعضهنّ البعض" فضحكت و قلت :"وأنا أيضا لم أفهمهنّ يوما "
انتشر النّور على الحائط .يا إلهي لقد تأخّرت ! انتفضت مسرعة استعدّ للخروج.اغتسلت.
غيّرت ملابسي .طويت الغطاء لأضعه في الحقيبة .وهببت نحو الشّبّاك و فتحته .أكلت تفّاحة و قطعة جبن و لففت الخبز اليابس لأضعه في الخارج.لقد حرصت على ترك غرفتي نظيفة .في تلك الأثناء تنبّهت إلى موسيقى الصّباح.في الحقيقة لقد بدأ إيقاعها منذ ساعتين تقريبا .غير أنّي كنت غائبة عنها لأتأمّل صوري.
لقد تخرّجت .و خرجت من هذه الكليّة كما خرجت من هذه الغرفة التّي أوصدتها خلفي و أنا متأكّدة من أنّني سأستقبل حياة جديدة.

الكاف في 22-09-2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى