عبير سليمان عبدالمالك - عيد ميلاد

في ذلك اليوم منذ عدة سنوات ، كنا والعائلة نستعد لحفل عيد ميلاد أخي "الشاطر عمرو " وأجمعنا على أن نحتفل معه ليلتها عبر الهاتف ، ثم ننتظر لنقيم الحفل عند عودته في الإجازة القادمة .
أنا الأخت الكبرى لشقيقين أحدهما مسافر في بعثة دراسية خارج البلاد ، والآخر دائما متغيب ، بحكم عمله الذي ازدادت خطورته في تلك الفترة التي لن تُنسى ولن تُمحى أبدا من ذاكرة وطن تخلص من عدو ليجد نفسه في مواجهة عدوٍّ آخر يخبيء أسلحته وينفذ خططه الإجرامية من تحت سراديب وأنفاق سرية تقع تحت الأرض في صورة شبكة أخطبوطية ، تعجز حتى أعتى أجهزة الأمن عن تصفيتها والتصدي لها ، محتل يرتدي أعوانه جلابيبا بيضاء ويرفع راياتٍ سوداء.
لا أعلم لماذا يومها ومنذ الصباح الباكر وذهابي لعملي ، كانت صورة شقيقي الأصغر عمرو لا تفارقني ، كلما انتهيت من إنجاز عمل ما وجلست وحيدة تمر أمامي ذكرى طفولته عندما كنت آخذه بنفسي للمدرسة ، نعبر الشارع وأنا ممسكة بيده ، ولأن فارق العمر أربعة عشر عاماً كنت أعتبره ابني ، أستذكر له دروسه في المساء .. وعندما يتفنن في الحيل الطفولية للتهرب من واجباته أنهره ، لكني أعود فورا لأعانقه وأغني له " كان فيه واد اسمه الشاطر عمرو وكمان فيه جدو بشنبات "، أحاول التسلل لعقله وتذليل المصاعب التي تقف أمامه وأقول له "عايزاك تبقى شاطر زي الشاطر عمرو في الأغنية ".
وعندما كبرت لم يخب ظني به ، لم أندم على رعايتي له أثناء انشغال أمي بعملها ، كان عمرو هو أخي وانتقل دوره من الابن إلى الأخ الكبير ، رافقني في محطات حياتي ، أحيانا كان يأتي إلى في مكان عملي لنعود سويا إلى البيت ، وعند زواجي كان رفيقي في مشاوير شراء الأثاث ومستلزمات البيت الجديد من ديكور وقماش ستائر ونجف وبقية التفاصيل الصغيرة ، كان ينتقي معي ، فأمازحه قائلة "كان المفروض تبقى مهندس ديكور، بدل الصحراء والأسلحة والجو ده".
بدأت أفتقده أكثر بعدما تم اختياره للعمل في محافظة بعيدة قرب الحدود ، كنت ألاحظ أنه لم يعد عمرو الذي كان يملأ الدنيا بضحكاته ومزاحه ، لاحظت أنا و زوجته أنه يسرح كثيرا كأنه معنا بجسده فقط بينما عقله يطير بعيدا ويحلق في مكان آخر ، حتى أننا أحيانا نناديه ولا يرد إلا بعد عدة مرات .
قالت زوجته أنه كثيرا ما يستيقظ فزعا ، ويردد " رحمك الله يا فلان " يقول في كل مرة اسم أحد من رفاقه .
حتى جاء يوم قبل سفره في مهمته ، فوجئت به يقول :" اتمنى ماحدش يكون زعلان مني ، أنت بالذات يا نسرين ، لو كنت ضايقتك في يوم أو هرجت معاكي تهريج رذل قولي ".
اندهشت وقلت :" ليه بتقول كده ، عمري ما أزعل منك ، ده أنا ماليش في الدنيا غيرك أنت وجوزي ، ده أنا باخاف أحسد نفسي عليك لأني باحس مفيش أخ في حنيتك".
ليلة سفره ، أيقظني حلم غريب من نومي ، نظرت للساعة وجدتها مازالت الثانية بعد منتصف الليل ، كتمتها بداخلي وكان قلبي مقبوضا رغم بهاء هيئته في المنام الذي لم أحاول أن أفسره ، وبعدها قمت لأعد بناتي للذهاب لمدرستهن ، وبعدها ذهبت لعملي ، وكنت أعرف أن عمرو يسافر قبل موعدنا جميعا ، فعمله يحتم عليه الوصول في السادسة صباحا .
أثناء جلوسي على مكتبي جاء هاتف من الخادمة في بيت أمي " تعالي يا ست نسرين بسرعة ، ماما تعبانة شوية"
سقط قلبي بين قدمي ، بالكاد استجمعت شجاعتي وتمالكت أعصابي لأتمكن فقط من القيادة والوصول للبيت ، خاطر ألح على عقلي أن الموضوع لا يتعلق بأمي ، تسارعت خفقات قلبي وعصفت الأفكار المخيفة بعقلي ، الرؤية ... عمرو .. هل حدث له مكروه ، استرجعت ما قاله لي ، واختتمه بقوله " لو حصل لي حاجة خلي بالك من الأولاد بالذات ياسين ، أنا مش ضامن حالحق أربيه وأشوفه وهو بيكبر قدامي ولا لأ" .
طوال الطريق والحلم يتجسد أمامي في يقظتي ، لقد رأيته في المنام يحلق فوق بستان وارف الخضرة ، مليء بالزهور الملونة والفراشات ذات الألوان الزاهية والعصافير المغردة بنغمات عذبة ، ومن فوق بين الغيوم البيضاء التي تشق زرقة السماء الصافية كان هناك طائرا لونه أخضر بعض ريشاته لونها عاجي ورأس الطير يحمل وجه عمرو ، قال " لو بعدت عنكم الأيام دي ما تزعلوش بعد وقت طويل أو قصير حاتيجوا معايا هنا وحاتشوفوا هنا خير كثير قوي ".
عند وصولي للبيت ، علمت ما حدث دون أن ينطق أحد بكلمة ، البيت الذي كان يستعد لعيد الميلاد كان يستعد لاستقبال جنازة الشهيد "النقيب" عمرو في كفن مغلف بالعلم ، بعدما جُمعت أشلاؤه إثر انفجار مدرعته في رفح ، سقطتُ متهاوية من أثر الصدمة ، التي منعتني من البكاء طوال أيام العزاء!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى