د. سيد شعبان - البومة تسكن النهر

في البلاد البعيدة تهرب الجنيات المسلسلة بقيد حديدي، تمعن في التخفي وراء أشجار الجميز العملاقة، يقال إنها عند منتصف الليل وحين يكون الظلام شديد العتمة تتجول في الممرات الخلفية وراء البناية العتيقة المنزوية في العزبة القبلية، تشعل جدتي موقدها الحجري وتغذيه ببقايا أشجار الكافور التي نخرها السوس، في ليلة شديدة الريح تساقط المطر، شعرنا بالبرد وقد تكدست أجسادنا في تلال من الألبسة المهترئة، تدثرنا بألحفة من صوف الغنم، تموء قطة وترتجف، يأتى صوتها واهنا، مثلت الحكاية؛ عنزة برية تسرق أرغفة من جدتي وهي لا تدري، الجنية الماكرة تحولت إلى لص يسترق السمع، توقفت ساعة المذياع العجوز، أو هكذا شعرنا بأننا في بلاد خارج نطاق الزمن، الكنز المخبوء تحت التلة المسكونة، وحدها جدتي تعرف السر، رجل مغربي يطوف بقريتنا، يحمل جوالا فوق عصاه، في هذه الساعة، سمعنا طرقات متوالية دب الرعب في دواخلنا، من ذا يقاوم الخوف وقد سرى مع حديث يختلط بدوي الريح مطعم بحكاية الجن، تسللت بعيدا ومن ثقب بالباب رأيت الرجل وقد ركب حمارا ذا خيوط سوداء، يمسك بحجارة بيضاء يضع رقما على باب الجدة، سهم يشير إلى جهة ما، ينتهي رأسه تحت الجدار اللبني، أمسكت بالخرقة الملقاة عند مدخل الحجرة، محوته، وإمعانا في التعمية رسمت نفس السهم، على باب العم سمعان رجل طيب، يعيش وحيدا، يعمل نجارا، بعد ساعة جاءت امرأة تتلفع بعباءة سوداء وأخذت تتشمم حائطه، تملكني الرعب، قصصت على جدتي ما فعلت، احتوتني في حنو، أعاذتني بالله من العين الحاسدة.
بومة عمياء تضرب بجناحيها، أمسكت بعصا كانت تغلق بها الباب، فغير معقول أن تخلو البيوت من ذلك العماد الذي فيه مآرب أخرى، ولأن للجدات حاسة تتشمم بها نذر الشر القادم مع أقدام الغرباء حين يطوفون بالبيوت، يمعنون في التنكر، سيما والشتاء سياج من برد واحتياج للدفء، في الكتب الصفراء، خريطة لنهر مبارك ذي سبعة أسرار، يأتي من الجنوب، ويختال شمالا حيث ملتقى البحرين!
بالكاد جدتي تمسك بمفتاح الخزاتة الخشبية، من عهود سحيقة عندها حبات الكهرمان، عقد من لؤلؤ، أسندت جذعها المحني على كتفي، أسرت في أذني بما تخاف أن ينتهي دونما وريث، أنا الحامل للوصايا، الباقي من آل جادو القادمين من البلاد البعيدة، من عند صخرة العربي الأخير، يبحث عني الجني الأحمر في كل مكان، على ظهري وشم أخضر، وفي كف يدي إصبع سادس صغير، بعيني وطف، ولرقبتي اعتلاء، وأحسن لوك الكلمات، هذه هي سمات المخفي في الزمان، والهارب في زوايا المكان.
قصت علي الحكاية، أباحت بسري، لم تكن جدتي، وجدتني ملفوفا في قماط ذهبي، موضوعا عند ضفة النهر، علقت أمي في رقبتي ورقة تثبت هويتي، أنا من سلالة يخاف عليها من أن تندثر بعدي، الخطورة تكمن أن يكتشف أحد سري؛ فتدفعني الجنيات إلى قرارة النهر، إنه يلتهم الصغار، يجمع السحرة، في ليالي الشتاء يسري الوهن في حنايا الزاوية، تنتصب أعواد الكافور مشانق حقد أسود، فيتناثر العطر الأحمر.
كل هذا رهين لحظة ما تتسربل بأقنعة لا تحسن غير الاحتيال على خلق الله، يتناهى إلى سمعي وقع خطوات ثقيلة، إنها أرتال من عهد العماليق وقد جاثوا خلال الديار، في كوة مطمورة أعلى الجدار تخفيت؛ لا طاقة لي بالمقنع وجنوده.
يفور بي الدم الرازح تحت وطأة الانتظار، مفتاح العودة بيدي، الباب الغربي من بوابة السماء عند الصخرة المباركة ينادي ورثته، الرحلة طويلة والزاد يوشك على النفاد، يقف ألف عتيد عند مفترق الطرق، لم تنه بعد الكرامات مسيرتها؛ فللولي مسحة ومسبحة، أوراده تشق الأرض، تتداخل المسافات، يحتاج المسافر أجنحة الشوق؛ تلقي به هناك، حين تكون الإرادة ترفرف الطير بأجنحتها الخضراء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى