يعقوب المحرقي - كوساما البولكا واليقطينة

أنا كوساما ، اليس الحديثة
في بلاد العجائب.
( يايو كوساما )
ولدت في مطلع القرن ،
رأت بمنظار الطفولة دمار حرب أولى
في ماضي اليابان ،
بين اب يطوح بذراعين مشاغبتين ،
لا لعناق المحبة والود ،
يقذف بهما ويصفع الأم
تردد الجدران الصدى ،
الأم في عجز ترد الصفعات للصغيرة يايو ،
تلبسها الرعب الأبوي والخوف الأمومي
منذ لين الأصابع وطري الأقدام .
ارجفتها اشباح حرب
تدق بقنابلها نياط قلبها ،
ويمزق رعب شراراتها اضلاعها الرهيفة .
رسمت ورودا بيضاء راتها
تستنشق على حافة النهر نسيم الصباح ،
عصفت الرسومات بغضب الأبوين ،
ليس للفن مكانة في عائلة منشغلة بتصدير سلال ، وباقات الورود الى اوروبا .
ليس للطفلة سوى مدرسة عتيقة مقيتة لفن ( النيهونغا) الجاف العود ،الباهت الألوان ،
غصبت برشف العلقم وهي تحن إلى النور
لم تلتقط انفاس عامها العشرين ،
داهمت حرب أخرى أعمدة وطنها وملاذها الناعم .
على شفير الموت كانت طوكيو ،
ناغازاكي و هيروشيما سحقتهما القنابل النووية ، اصبحتا ذرات تراب .
قضت ليال ترسم الورود بالماء وتنسج مظلات طيارين ذاهبين الى الكارثة .
وقفت يايو بفرشاة من فرس بكر
تلكز كما المهماز لوحة الألوان وتقتطف النور للربيع ،
تعكس الشمس دوائرا
ودوامات من فضة على ثيابها
وعلى الأرض الخشبية ، وعلى لوحتها البيضاء العذراء ،
تلمست يايو الفرشاة فهدأت ،
بضغط خنصر يدها اليمنى على طرف العصاة الدقيقة الحاملة للفرشاة ،
سمعت لوحة الألوان الموسيقى
تنادى الأحمر والاصفر والاسود والأبيض إلى يد ساحرة للفن لتعانقها بالفرشاة .
بين حربين اوقد اليابانيون الشموع وقرعوا النواقيس ،
فرشوا ورود الشنتو اطواقا .
بين حربين بعظام هشة وقلوب جزعة وخوف من المجهول ولد الفن الياباني الحديث .
من رحمه خرجت صبية الليلك الوردي وزهرة الصباح ونجمة النهار وطقوس الوشم واخضر الشاي ،
ترعرعت الوانها ، سمعت جورجيا اوكييف تناديها
من الضفة الأخرى لمحيط اللون ،
تصرخ لتحرير اللوحة وانتفاضة الأسلوب ،
بعثت خطابات اللهفة لحداثة تورق
عبر المحيط ،
حملت ما تيسر من الكيمونو لاغاثتها
من عوز قادم وغائل وعاثر في مجهول نيويورك .
انهمر نهر الالوان واشرقت شموس طوكيو
في كآبة نيويوك ،
دربت اناملها الرفيعة على حرير القماش.
ستقول في شيخوخة العمر الذي يمضي بنهر اللون نحو مصبات الفن في لوحات البهجة :
" الرسم يجعلني احلق بعيدا ، الخلق الفني يشفي آلامي العنيفة ، يخفي تجعدات مرضي المخيفة . "
زمن الركض مجاراة لرشاش الفرشاة وبعثرة اللون انتهت ،
حان وقت الحكمة ،
والتركيز والنقطة كما عرفها رواد الحداثة كاندنيسكي ، فازريلي وميرو ،
بول كليه ، جميعهم طبعوا النقاط موضعوها على الحروف واهدوها للقمر ، يايو ادركت منذ نعومة اللون طريه ،
الزيت يحيي نسيج اللوحة
ويشرب اوجاع الفنان .
لها علاقة ساحرة باليقطينة
فاينما ذهبت ستشاهد يقطينة يايو تواجهك بتحدي لونها اللامع في عينيك ، زهوة الخطوط ، استدارة الشكل المتخم ، غزارة الأخاديد .
اليقطينة تستقبلك في مدخل الصالة مادة لك اجنحتها كسجادة حمراء .
في مختلف اللوحات وبتعدد الالوان
تلقط عيناك النقاط مخفية وبارزة ،
موشاة بحواش ونافرة كانها سرة الكون في سماء زرقاء ، لغة لتأويل الفرح وتفسير الفجيعة وثورة لزعزعة اساسات هيكل النسيان ، عناوين اللوحات مبتسرة مختصرة ، تقتصر على حجم اللوحة ومادتها ، غالبا لا ذكر لعنوان ،
فاليقطينة ليست بحاجة لتعريف
أو عنوان ، ياتيها القاصي والداني ليتحسس شغف امراة جميلة بفنها ،
وغرام الوانها بالحياة ،
وزفة الروح في لوحاتها .
فنانة حيرت النقاد محبي التصنيفات وإطلاق المصطلحات
وحشر الفنان في خانة ضيقة ،
كوساما عصية على التصنيف ،
خارج المدارس اسلوبا وموادا
تتنقل من اتجاه الى آخر ،
تجمع وتفرق ثم تعيد الجمع ،
ارتبك البعض ، قال آخرون :
مانيماليست وغيرهم سوريالية ،
ووصفت بالبوب ارت والنسوية
والفن الخام ، لم تتوقف التصنيفات ،
فتارة اللوحة وتارة التركيب واحيانا التمثيل داخل العمل ،كما في افلامها الفيديو ، بين الشعر والموضة ، والسرد القصصي ، وظفت جميع الاشكال الادبية والموسيقية والفنية ، حتى الوثائقية في اغناء أعمالها ، بين التجريد والتحليل النفسي والسيرة الذاتية والتعبير ذي المحتوى الجنسي اعترف بها واحدة من اهم فناني اليابان المعاصرين عالميا ،
على قمة قائمة الكتابات الفنية النسائية .
اكثر الفنانين الاحياء نجاحا ،
تاثر فنها بتجارب طليعية كالامريكي
اندي وارهول ،
و السويدي كلائيس اولدنبرغ .
نقط أو دوائر البولكا هو مايميز اسلوبها ، فمن خلال تمرسها الفني ضمن تجربتها الامريكية في السبعينات ،
وفي حفلات التعري الهيبي التي اجتاحت الحركة الفنية الامريكية مع البوب آرت ، رسمت لأول مرة نقاط البولكا على الأجساد العارية كالوشم .
بعد غياب هذا الأسلوب ،
اعادته كوساما بإنجاز اعمال تركيبية
لمتاحف حول العالم ،
بدأت تنقط الأسطح العارية كالجدران والورق والارضيات ،
انتقلت إلى الأدوات المنزلية ،
صارت نقاط البولكا علامة فارقة ومميزة لفنها .
تسمي يايو مجاورة نقاط البولكا لبعضها على اللوحة" الشبكةاللامتناهية" .
المشاهد يختبر الاحساس بتعقد الخيوط
فور وقوفه امام اللوحة ،
خاصة على بعد مسافة متوسطة
بين القريبة جدا والبعيدة .
نقاط خرجت مباشرة من هلوسات الفنانة الى السطح ،
اولها راى النور حين كانت في العاشرة
من عمرها ، في المشهد امراة قد تكون والدتها يجللها كيمونو منقط بالبولكا .
في الخمسينات خلقت لوحتها الكبيرة
" ازهار مرسومة " يزينها عدد كبير من نقاط البولكا.
وهذه ايضا من هلوسات خيالها ،
عنها تقول :
"احد الأيام ناظرة إلى غطاء الطاولة حيت نضدت علية مرسومة زهور حمراء ، رفعت راسي فرايت ذات الزهور تغطي السقف ، النوافذ ، الجدران ،
رايتها في كل الغرفة ، جسدي والكون . شعرت بانني بدات تدميرا ذاتيا لادور
في لانهائية الزمن ولامتناهي الفضاء ، اضمحل في اللاشيء
ادركت حينها الواقع وليس ما يجول بمخيلتي ، ذعرت و عرفت بانه يلزمني الهرب أو سأفقد حياتي بسبب انتشار الزهور الحمراء ،
ركضت يائسة صعودا على السلم ،
بدأت الدرجات في التداعي تحت قدمي، سقطت اسفل السلم جارحة ركبتي " .
في " متحف الفن الحديث " انشغلت كوساما بالرسم على جسدها وتمثيل ادوار الرسام واللوحة وموقظ الموتى فكان مشهدا مذهلا من" طقس عربدة لايقاظ الموتى" جسد كوساما يتحول الى لوحة تاكلها نقاط البولكا في حديقة التماثيل
في المتحف .
يتعرى ثمانية من ممثليها وتخضع اجسادهم لشبق اللون وعبثية الحركة كأنها تماثيل خرجت من مرسم بيكاسو ،
او من بين يدي جياكوميتي أو مايو .
عائلة كوساما المقدسة احتجت بحنق وسعير بدعوى الدنس والتلويث ،
المدرسة الثانوية ازالت إسمها من قائمة الخريجين ، دفعوها إلى جنون الانتحار مجددا .
في بنيال البندقية الثالث والثلاثين، ارتدت كيمونو مذهبا وباشرت بيع مالديها على أخضر الرصيف ،
باعت امام قاعة العرض .
طردها حرس المعرض حين اوشكت
على الاقفال . لتتعيش بما كسبته
بعد ابعادها كبعير اجرب .
عرضت "حديقة نرسيس " استضافت الصالة لمرات عدة
المرايا في ضوء الشمس ،
سمت العرض " بساط الحركة " .
عرض ناقد لمكننة وتشييء الفن
في السوق.
في زهرة الشباب بمدينة نيويورك احبت الفنانة حبا عابرا الفنان دونالد جود .
وحبا افلاطونيا شغفا السوريالي
جوزيف كورنل ، يصغرها ،كلف وهام بها ،
يرسمان بعضهما يوميا ، أهداها كولاجا عزيزا عليه دامت شعلة حبهما حتى ذاب شمعها وانطفات برحيل الحبيب في بداية السبعينات ، بحزنهاعادت إلى بلاد الشمس المشرقة، تداوي جرحها الجديد ،
متناسية تلك القديمة الكامنة بين حناياها .
لم يغفر لها اليابانيون ما اعتبروه خروجا على الأعراف .
أسماها أحد جامعي المقتنيات الفنية :
( ملكة الفضيحة ) .
رغم عللها استمر فيض عطائها يدر ابداعا ، قصصا وروايات وشعرا ولوحات وهذيانا سورياليا صادما لذهنية تعيش في الماضي ، لكنهم هزموا قواها ،
انتحرت للمرة الثانية ففشلت .
وجدت طبيبا لمعالجة اوجاعها الدفينة ،
وخططت لإقامة مستديمة ، في المشفى
اقامت بمحض الاراده ، مرسمها على بعد خطوات قليلة. ومرارا قالت :
" لو لم يكن من اجل الفن
لقتلت نفسي ، منذ زمن ولى "
من الاركليك على قماشة الخيال
الى القصص حيث سردت اوجاعها ،
انتقلت الى السيرة الذاتية ملاذها ،
إلى فضخ دواخل الفؤاد وآلام الروح .
عودتها إلى اليابان ،
بداية من صفر نسيت وجوده في غمرة الخلق العصي ،
بين نيويوك والعالم الفسيح.
مجموعتها التجريبية التي بداتها
في نيو يورك" شبكة اللانهاية "
المكونة من لون او لونين بدأت بمقارنتها بما تشاهد من اعمال جونسون بولوك
و مارك روثكو وبارنت نيومان .
تركت المدينة ، اسقطتها نيويورك
من ذاكرتها .
عادت في الثمانينات والتسعينات
مع معارضها الاستعادية .
منحت تكريم عالمي .
بعد نجاحها في البندقية ، اقامت غرفة المرايا المليئة باليقطينات الصغيرة ، ذهبت إلى خلق اليقطينة العملاقة ، صفراء تغطيها نقط سوداء .
هي صورتها الذاتية .
في بداية الألفية الثاانية عرضت كوساما مشهدا تركيبيا " انا هنا ولكن لا شيء"
غرفة ببساطة فراغها مؤثثة بطاولة ، وكراسي ، فراغ للجلوس وزجاحات ، مقاعد بذراعين ، وسجاد جدار ملفت منقط بالبولكا المشعة بفعل الاضاءة
فوق البنفسجية .
خلاصة المشهد : تدمير ذاتي لكل شيء تحتويه الغرفة في لانهائية الفضاء .
كلير فون وصفت عروض كوساما للمرايا بان الفنانة قادرة على اخذك إلى كوكب هاديء ، إلى متاهة منعزلة من الضوء النابض ، أو إلى ماقد يكون غطاء من احشاء الليفيثان الوحش الميثولوجي مصابة بمرض الحصبه ٠
خلق هذه الاحاسيس لدى المشاهد قصدتها عمدا الفنانة ، هذه التجارب تبدوا فريدة في اعمالها ، كوساما تريد تعاطف الاخرين معها في حياتها المضطربة.
بداتري شوري يقول بان فن كوساما بوعي او بلا وعي يعنى بكيفية رؤية الآخرين للزمن
والفضاء عند دخولهم معارضها. وهذا مخالف لحالة الفنانة
حيث أن كوساما تلبسها الفن قبل حالتها المرضية . اذن المرض ليس سببا للإبداع لديها ٠ فالخلق الفني للفنانة آلية وجودية .
كوساما تجيب على السؤال بنقاط ودوائر البولكا الملونة ، البعض اراد اجابات مباشرة من قلبها ، كان لهم ما ارادوه ، قالت :
اكون اكثر سعادة لحظة الخلق الفني.
خوفي الاكبر هو العزلة والوحدة ،
مع خوفي من الموت ،
احب ان تكون روحي عالية بما يكفي لصد هذه المخاوف .
أولى ذكرياتي هو خلق نقاط البولكا باصابعي
عندما كنت طفلة.
الذين تمتعوا باعجابي رحلوا
فانا في عقدي التاسع من العمر.
عندما لا اعمل تغرق افكاري
في السوداوية.
اكثر ما امقت في الاخرين العنف والتعصب.
لا حاجة لدي لتملك الأشياء.
اكبر كنوزي هو لوحتي القادمة.
لا اكره شيئا من مظهري.
اكل الكعك متعتي التي توخز ضميري.
لا ادري عن رغبتي في اعادة شيء مات ثانية
الى الحياة ، لكنني اريد ان ارى الاسلحة النووية تموت اثناء حياتي.
في شبابي صدمني كتاب به رسومات،
من تأليف ورسم جورجيا اوكليف .
حالمة في الذهاب إلى امريكا للهرب
من عائلتي ، كنت اعرف بانه لا أحد لي هناك .
بعد رؤيتي لرسمها ، كاتبت جورجيا . ردت علي بطيبة وكرم مذهلين ، خطابها لبى حاجتي لشجاعة المغادرة إلى نيويورك.
اسوأ ما قيل لي عندما رغبت في ان اكون فنانة ، قول امي : لا تطأي بقدمك
منزلي مجددا .
اعتقد بان العطاء افضل من الاخذ .
لا ادين لوالدي بشيء. ابي كان غير مخلص ،
وأمي غاضبة عنيفة .
الحب الأكبر في حياتي هو محبة الانسانية ، وللعالم الذي كان القوة المحركة والطاقة التي تقف وراء كل منجزاتي.
اعبر عن الحب من خلال فني .
أنا مسرنمة، غالبا ارسم وأكتب ليلا.
اغنية اتمناها لجنازتي :
يايو كوساما مانهاتان
مدمنة انتحار
احكي لنا نكتة
لا اعرف اية نكتة
.لكن اليقطينات يضحكنني دوما
أنهن الأكثر فكاهة من الخضروات .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى