يعقوب المحرقي - الترنيمة الأولى

"اليد التي تهز المهد
هي اليد التي تحكم العالم"
(وليم شكسبير)

سواء تعرفونها ، حفظت قلوبكم لحنها
او اذنكم ذكراها ، هي في اعماقكم السحيقة تدوزن قيثارتها وتدون نوتاتها في انتظار ولادة قادمة .
يدان صغيرتان واصابع من عسل الجنة، هي شفافية النعاس ورفة ناعم الرمشين واغماضة العين
في قرير الوسن ،
مفتاح الأحلام ورتاج باب الهواجس ، تنهدات الأم وموسيقى الدعاء ، هي نغم الملائكة
على ناي السحابة البيضاء ، وهسهسة الحرف الأول في كراسة المنامات الرقيقة ،
ايقاعات الأصابع وحساسية الحسون
وتغريدة العصفور ، صوت النوم يسحب جناحيه
على وثير الفراش ، فراشة تحررت من شرنقتها توا
نحو بداية الضوء ، ضوع الروح على عتبات البستان ،
وورق الشجر يناغي قمرا ذهبيا ساهرا لرؤية مشهد الأم الحانية على سرير صغير بيد تهز وبيد تنغم لحنا ينعقد قلائد من نور ترفرف كما العصفور في حفلة الغسق ، ذاهبا لصغاره حتى تنام .
باي اللغات سمعت فنم حان موعد ذهابك إلى حضن الوردة وملاذ الهوى ، نم لأن الليل ملتحف بالسماء ،
تراك النجوم وتراك النيازك ، نم فامك لن تنام قبلك تتلوا تراتيلا على وسنك المرتاب وباب عينك الموارب الخجول .
نم ستحييك جميع الطيور والسحب وسمكات البحر الملونة واصدقاء ولدوا للتو ويحييك شعب لم تعرفه بعد ينام في كهوف منذ قرون ، وبجانبه كلبه نائما في الأبد .
صديقك الجديد يكاد يغمض عينين زرقاوتين على صوت النجوم ولحن اغنية تسيل على وردي شفتي امه :
"تلألأ ، تلألأ ، أيها النجم الصغير
كم رائع انت
وكيف أعجب بما تكونه
في اعالي العالم القصي الارتفاع
كما الألماس في السماء ."
لم تسرد الأم على الرضيع الازرق العينين حكاية النجم ، سيعلمه الكتاب :
جين تيلور ولدت قبل اربعة قرون،
شاعرة ، اختها آن ، اختلط الأمر
على النقاد كعادتهم ، غبشوا ذاكرة القراء في شباك الكلام . جين استوحت النجوم ، كتبت "ترانيم لعقول الأطفال "،
وسال حبر قلمها رحيقا جذلا في جداول الريف الانجليزي وسقى نهر التايمز ، وصب في بحر المانش ، عبر إلى فرنسا ، لقطه طائرا اللقلق إلى اقاصي العالم ، فانتشى به الأطفال.
من بتلات ما تطاير فوق القارات :
"نبت البنفسج المتواضع في فراش أخضر مظلل ،كانت ساقها منحنية ، وعلقت رأسهاكما لو كانت تختبئ عن الأنظار.
هي زهرة جميلة لونها مشرق وانيق ،
ربما تكون قد نالت تعريشة وردية ،بدلاً من الاختباء هناك."
لو ولدت في روما أو ميلانو وامك ايطالية ثرثارة ، ينحني عنقها ويرتخي صوتها حين تغني لك لنوم ناعم هنيء :
"نجم صغير يانجم
الليل ينسحب قرب الشعلة المتقافزة
البقرة في الحضيرة
البقرة والعجل
الخروف والحمل
الدجاجة والفرخة
لكل منهم رضيعه
لكل منهم امه
وكل واحد ذاهب الى النوم ".
لو هاجرت امك الى فرنسا ، تعلمت اللغة ،
فستجدها عند رأسك تغني :
"صديقي بيرو
اعرني ريشتك
لاكتب كلمة
شمعداني مات لم يعد لدي نار
افتح لي بابك
حبا في الله
في ضوء القمر
اجاب بييرو : ليس لدي ريشة
انا في سريري ".
واذا حدث و كنت من الخدج ،
ستنام في كبسولة كما رواد الفضاء ،
وحولك كبسولات اخرى
قد تحرم من الغناء ، او تسمع صوتا من مكبرات الصوت او ممرضة تطوعت لدور غناء لجميع الكبسولات. لن يفوتك من الاغاني سوى التوقيت ،
الحفلة تنتظرك في بيتكم ،
وآلام حانية تغني بكل لهجات الخريطة العربية الممتدة من الماء إلى الماء :
لو كنت ولدت على ضفاف الخليج ،
ورايت شجر اللوز والبمبر ، ونمت قريبا من الماء ،
ستناغيك امك وتنادي النخيل :
"نامي نومة هنية نومة الغزلان في البرية
نامي لولو عن الجلب والعوعو
يا زهرة في البرية
لا إله إلا الله صليت من عين عذرا في البيت
لا إله إلا الله معذرا من عين رجال ومرا
لا إله إلا الله لايح من عين الجاي والرايح"
لو حلمت بضوع الغوطة الدمشقية وبلودان عذب الشجر والشهباء وشقائق النعمان ، وراودتك اطياف حمص والسويداء ستسمع طفولة السوري الصغير يغالب النعاس على ايقاعات حنان امه :
" نام يبني نام
لادبح لك طير الحمام
ياحمام لا تصدق
عم كذب على ابني حتى ينام"
لو كنت على جبل عمان او في عجلون ستسمعها ايضا وياتيك الحلم بندف ثلج طريه على جبل عمان :
"نام يبني نام
لادبح لك طير الحمام
يا حمام لا تخافي
بضحك على ابني تا ينام"
وفي القدس تناغي مريم بزيتون القدس وبرتقال حيفا مسيح السلام :
“شعره نازل على جبينه،
روحي وعمري بهدي له”.
وحتى تنام على صوت النيل النبيل الذي نام على موسيقاه اطفال الفراعنة، ثم صاروا ملوكا غيروا التاريخ ، لهم غنت الامهات وصدح الحمام بغناء الحب :
نينا نام .. نينا نام
وادبح لك جوزين حمام.
اذا تخيلت طفلا تونسيا جميلا يلاعب اجراس الياسمين خلف اذني امه ويحاكي فراولة هاربة من حلم الارض الى فراشه ، لأن بردا فاجأها قبل القطاف :
"نني نني جاك النوم
أمك قمرة و بوك نجوم
وانت تميرة في عرجون
واحويته في بحرها تعوم
يااهليل ف أول يوم
الناس كلها ترعيله
سلم وليدي نحكيله
يكبر ويفوز في جيله
يدير احويش ونمشيله
نني نني جاك نعاس
امك فجرة وبوك نحاس
وانت اغزيّل بين الناس
و وريدة محطوطه في قرطاس
و حصوه في عين الخناس .
في التاريخ ، الأم السومرية كانت تنيم رضيعها
على تهويدة المحبة المعشقة بروح النخلة والمضمخة بعبق الرافدين باهزوجة:
“أوسا نانو”، أي “تعال يا نوم”،
وتبدل النغم العراقي على صوت الهاون والربابة ولبس حزنا شفيفا خفيفا تغنيه العراقية على نعاس يتردد في بين التسرب الى فراش الصغير او الهرب وترك الام في سهر الليالي وارق الصحو :
“يمة هب الهوى واندكت الباب ،
ترا حسبالي يا يمة خشّة أحباب ،
يمة أتاري الهوى والباب كذاب”
اما اذا ما كبرت وعشقت اما حجازية كغزالة الماء فستغني وهي تهز المهد على ايقاعات القمر :
"دوها يا دوها.. والكعبة بنوها.. وزمزم شربوها.. سيدي سافر مكة.. جب لي زنبيل كعكعة.. والكعكة في المخزن.. والمخزن مالو مفتاح.. والمفتاح عند النجار.. والنجار يبغى الفلوس.. والفلوس عند السلطان.. والسلطان يبغى المناديل.. والمناديل عند الصغار.. والصغار يبغوا الحليب.. والحليب عند البقرة.. والبقرة تبغى الحشيش.. والحشيش فوق الجبل.. والجبل يبغى المطرة.. والمطرة عند ربي.. ياربي حط المطرة.. يا مطرة حطي حطي".
وفي عروس النيلين الأبيض والأزرق للطفل الرضيع حصة وجلوة في احلام الامهات وارجحة المهاد على ايقاع النجوم :
"ماما وبابا حبوني..
وأنا ختيتهم في عيوني..
حصاني كبير.. وبجري شديد..
وأنا من فوقه كأني أمير..
أخش الجامعة وأبقى وزير".
في المغرب والجزائر تتغنى الأم لسهرة الاحلام ووردة الحشا ونسمة الفؤاد بتهويدة تتناغم وموسيقى المتوسط ، وتتارجح على نسيم الجبال :
نيني يا مومو.. حتى يطيب عشانا..
ولا ما طاب عشانا.. يطيب عشا جيرانا".
"نني نني يا بشة..
كل عصفورة في العشة..
نني نني ليكي نغني..
تكبر بنتي وتتمشى".
اما الموسيقيان " برامز" و "شوبان "
كانا رضيعين يلاعبان اجراس الليلك ،
وتغالب انفاسهما شمس النهار ،
وسطوة النجوم وخراف الهوى تعدها الأم
وهي تؤرجح المهاد :
"لو لو لو لابي
اصمت يا طفلي ولا تبكي
انت تتأرجح الآن في مهدك
حتى تنام ساغني بنعومة
لو لو لابي طيور فوقك تحوم عاليا
تتمتى لك نوما هنيئا
اغمض عينيك ولا تبكي
لولو لابي
عندليب سيغني لك
اغنية ناعمة على اذنك
هي فقط لرضيع يسمعها "
' شوبان "و " برامز " خرجت التهويدة من سحيق اعماق احلامهما ونادت في بئر ذاكرتيهما حلم الاهزوجة ، كتبا ولحنا التهويدات على نغمة اصابع البيانو ورنين مفاتيحه.
جاء الطاعن في الفن بإذن ونصف ،
رسم لوحات اسماها "التهويدة" ،
وشحها بالذهبي وزخرفها بالأزرق واصفر الزعفران ، ووقع في اسفل اللوحات "فنسنت فان كوخ "
ومضى إلى مستشفى المجانين يعالج الوانه
وخفقات روحه ، ويترنم بتهويدة الهولندية امه
التي لم تنم قبل ان ياتيه "النعاس من لولو لولو لابي "
لو تخيلت امك صينية. من ضواحي غوانزو ،
تغني للبط العائم في النهر والطير السابح مع الغيم على السهل بخرافه البيضاء وراعيه تحت الجميزة العجوز ، يراقب بعزف الناي بلحن صيني فلاحي قديم .
الأم حانية تهزك وكأنها تهز العالم ليستريح من حروبه وتلتئم جراحاته :
"دودو ، دودو
تنيم كل العصافير
تطوح بالريش في الريح
معلقة هناك في الأعالي
يسود الهدوء ، يسود الهدوء
مبعدة الحية والبومة ."
لو افترضنا أن امك يوما قرأتك ترنيمة اسبانية
في برشلونة ،ورأت القيثارة ترقص على الفلامانكو وتؤرجحها اغصان الرمان في كرنفال الربيع
على طريق " الرامبلا" ،
ستكبر وتمشي فيه عاشقا أو عاشقة أو في طريق المدرسة ، تصدح الام بحنان الزهور
على غصين الهوى الرطيب :
"نم الآن، ياكنزي العذب
برعمي من زهرة مسك الروم
نم في هدوء
كالنحلة في الوردة
نم بهدوء ، بهدوء ايها الكنز
نم الان ، بهدوء ايها الحب
ستحلم احلاما جميلة
باصغائك لاغنيتي، "
لو نمت بين عيني وردة افريقية ابنوسية القامة ، رشيقة التوق ، عطرتها الأمطار بنور القزح ، وضمخها رحيق الهدوء في شفق السهول ومراعي الأغنام السادرة على سهوب المدى . سترى شفتي السوسن القرمزي تغنيان لنعاس يخبيء عينيه عن اغماضة قبل موعدها :
"لا تبكي، لا تبكي
ياطفلي لا تبكي
اهدأ يا طفلي
ما ذا جرى لطفلي ، اهدأ
طفلي لا يعاني شيئا ، لا تبكي
طفلي جائع، لا تبكي ، اهدأ"
واحدة اخيرة تدحرجت من جبال القوقاز
الى حضن امرأة قوقازية ، قد تكون فلاحة شيشانية أو مدرسة شركسية ، هي أم ساهرة تهز سريرا فيه طفل كعصفور في عشه ، ناعم الريش ، تحت رأسه الصغير ، يتوسده منتظرا حصته من لذيذ الأنعام ،
الأم تغني له وللجبال لتوقد نارا وتبعد الذئاب :
"نم يا صغيري ، يا جميلي
دودو ، عليك بالدودو
القمر ينظر بلا ضجيج
في مهادك
ساروي حكايات أسطورية
واغني لك اغان صغيرة
عليك النوم بعينينك الصغيرتين مغمضتين
دودو ، عليك بالدودو ."
سيأتي الوقت ، ستعرف حياة المحارب
ستضع بقسوة رجلك في الركاب
وستأخذ البندقية
وغطاء السرج لحصان المعركة
سأقوده بحرير إليك
نم الآن صغيري الغالي
دودو ، عليك بالدودو. "
نام الأطفال ونامت الأم على شخير خفيف كطنين نحلة ولدت توا ، القمر لاينام والنجوم ساهرة تراقب المشهد ، النيازك تهدي الى الأرض شظايا النور
في حفل بهيج .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى