يعقوب المحرقي - خرائط النجوم

كأن بني نعش نساءٌ حواسرٌ
قرائبُ قد شَيَّعْنَ نعشَ قريبِ
"شاعر مجهول ضاع بين النجوم"
حلم بلا نجوم هو حلم منسي .
الشاعر الفرنسي بول ايلوار "1895 - 1952"

إنها النجوم ،
النجوم في الأعالي هي من يحكم وجودنا.
(وليم شكسبير)
عندما يحين الحين لا تذهب في الرماد
أذهب إلى النجوم.
"انتون برانكو سيميك"
شاعر كرواتي 1925- 1898
قال ليوناردو دافنشي :
"من يذهب صوب النجوم لا يعود"
إذن لمعالم الطريق والخروج من المتاهة،
وحتى لا نضيع المخيال
ويضيع الخيال سدى في مطاردة غبار النجوم ،
والتيه في ضباب السحب ،
حتى لا تجرنا مخالب الدب إلى عرينه ،
ويختلي بنا سهيل كما فعل بالنبيل نعش ،
لنرسم خرائطا للنجوم بسعةالكون ،وشاسع الآفاق ،
ونخط عليها مسارات الرمل ،
ومسارب المياه المتعرجة كالثعابين ،
ننسج في ثناياها تواشيح الشمس ،
وسرديات الكواكب ،
نحدد مواقع الطلوع ونقاط النزول ،
ونغرس شجر النوم لأحلام الصباح ،
نحمل حقائب الأمل
المحنى بنور الوسن .
نمشي على خطى العصفور في رحلته الأولى
من العش إلى برعم الحب
المعلق في قميص الغيمة الوردية الأطراف ،
ولنتبع رعيان الفيافي وسحب الغيب ، نناجي اقمار المحبة في دجى الغيوم ، لنسري الليل خلف الملوك في رحلتهم وهاديهم النجم الطارق الى مهاد يسوع ، لنواسي بنات نعش في جلل اصابهن فدار برؤوسهن في مدارات الكون ،
لننقل خطونا بخفة السرحان على وثير الرمل ،
نحيي القطبي وصغار النجمات ونوقظ الدب ،
ونغني هوميروس وهيزيود على قيثارة عشتار ،
ونعبث مع المتنبي مزهوا بقامته :
أُحادٌ أمْ سُداسٌ في أُحَادِ
لُليْلَتُنَا المَنُوطَةُ بالتّنادِي
كأنّ بَناتِ نَعْشٍ في دُجَاهَا
خَرائِدُ سافراتٌ في حِداد
أُفَكّرُ في مُعاقَرَةِ المَنَايَا
وقَوْدِ الخَيْلِ مُشرِفةَ الهَوادي .
لهم جميعا سطع النجم وسجد القمر .
تلك كانت النجوم الطوارق ،
يدللها قمر تعلق في قبة زرقاء ،
تنام واهنة على ذهبه ،
احيانا نرى في خيالنا الطفولي الأنجم
تلتم حوله ونتخيلها تصغي بوله
الى قصص ومغامرات قمر يهذي بحكاياه
كان طفلا وشب على الطوق ،
النجمات فضيات يبرقن
على مرآة زرقاء بلون اللازورد ،
لهن بهجة البستان ورونق وجوه الصبايا العاشقات في ربيع الشجر ،
ولهن ريحان المحبة في شتاءات حنين الفردوس الملائكي ،
النجمات الساهرات الطارقات في حضن القمر وحول هالته كقديس على قماشة لم يجف زيتها ،
فنانها وخالق روحها يقف مشدوها يراقب ارجوحة الياسمين تهدهد ارجلها الرهيفة على وادي السهر ،
تغني النجمة الأم اغنية احيانا في رحلة وسن شفاف بين الغابة والبحر ،
في الغابة يقابلن غزلانا على وشك النزول من تلة الوسن فتنام الواحدة متوسدة اوراق وارف الشجر ،
والأخرى تتوسد الهواء الرطب للندى.
طارق الليل تخافه النجوم الطوارق،
يصل بريقها الى الكلب المنزوي
في حديقة صغيرة ينتظر افطار الصباح ،
كل من يطرق الطريق كان طارقا ،
من النهر والسهل والجبل يجييؤون
احيانا برفقة ابلهم ليستقوا
من بحيرة القمر ،
سموها لان صورته لا تفارقها
حتى في النهار .
البحيرة تعيش فيها ثلاثة سمكات فقط
لا أحد يدري من اي البحار أتت ،
اسماك صامتة لا تبوح باسرارها .
النجوم اسراب لطيفة انيسة البحارة والرعيان وقاطعي الطريق .
عددها كرذاذ شظايا الشهب زاد على البشر، مئات المليارات ربما فاق ذلك .
تبز الشمس نورا ، وتكبرها جسدا .
سبعة هن بنات افكار الاغريق
في سماء اثينا ، عرفوهم باللغة وحروفها فكن الفا و بيتا ، غاما ، دلتا وهن الطارقات المرسلات النور على اطباق من بلور المحبة الى افق الأرض .
ثريا الاغريق سبعة اخوات جميلات خرجن
في وديان السماء لمشاهدة الالهة ترفل بالعيد ، على
رؤوسهن تيجان الورد ،
وفي نحورهن قلائد الليلك ،
يهرول خلفهن الماجن الكبير باخوس مخفورا بفاتنات النبيذ وشهوة القرابين .
الثريا السبعة بنات اطلس وامهم بيليوني الفاتنة ،
لهن اسماء كفاكهة اثينا في سلال الربيع وعربات باخوس الداعرة ، "استيروب" ، "الكتر" ، " مايا" ،
" تايجت " ، " سل" ، سلن" ، واخرهن " السيلون" .
العبريون والازتيك لهما في قراءة الثريا صفحات
من غار ، قارنوا الثريا بدجاجة يركض خلفها صيصانها الصفر الصغار كانهم في حقول السماء المنداحة
على نعيم النور والق قمر سرمدي الذهب.
في محكم كتاباته دون "فرانسوا ربليه" مشاهداته الثريا واثنى على تضحياتها
في قيادة دفة الرياح والتماهي مع بوصلة الحنين لعيون البحارة في حالك المحيط.
يؤرخ للثريا بخروج أول الاسلاف
من القارة السوداء ، مهد الميثولوجيا
ونبع الخيال .
مرت الثريا في اوديسا هوميروس وعبرت التوراة ، ولم يفوتها القرآن ، مقدسة كانت ، انقذت الأرواح ،
وكتبت في السماء تاريخها بخيوط من فضة .
ترسل الثريا قناديل الزيت الى البيوت والمعابد
في الهند لحفلة مولد الإله" كارثيكاي ديبام " ،
صارت تقليدا ترقبه الثريا ويرقص على ايقاعاته الفلاحون . هزيود الشاعر خلد الاحتفال ،
وقال بتاثير الثريا على القطاف والحصاد .
الثريا انعمت عل تاهيتي ،وجزرها بعيد النعمة ،
تتكاثر فيه المحاصيل ويورق القمر .
العرب رفعوا الثريا عن الثرى ،
الاسم "سوريا" فارسي ، والثريا عربية معلقة في سماء زرقاء صافية كالمرآة ، موشاة بملايين النجوم ،
كانت الثريا مرشدا وانيسا ومنقذا لطراق الليل ، وعابري السبيل .
انت ايها المهووس ببنات نعش ،
هاهن غارقات في بحثهن الحثيث عن قاتل يتخفى في رداء السماء دهورا ، يتسرب مثل زئبق الربيع كلما هممن به ،لم تبق فخاخ ولا مصائد ،
لم ندع شباكا ولا قناصات ،
طاردناه في اعماق الليل وآناء النهار ، رقصنا وثملنا علنا نوقعه في الشراك ، ادرك الخديعة وكشف الوقيعة ،
وراوغ بخبث ثعلب مكار ،
أكل العنب وهرب بالعناقيد ،
قتل نعشا في وضح النهار ،
مدون إسمه على ذاكرة الدب وفي اوراق السحب ،
انه سهيل الذي لم نجد في سهل وقيعته غير دم وبعض رماد القتيل .
الدبان الأكبر والاصغر ولدانا من رحم الزمن ،
الاغريق ارضعونا بحليب اثينا وتبنانا رعيان العرب ، اقسمنا برب القمر والشمس ومسير السحاب ، وخالق الطوارق أن دم نعش لن يكون سدى ،
وإن سهيلا لن يبقى حليب امه في جوفه ولن يرى النور يوم نلتقي ،
كنا سبعة عذراوات نستقي من نبع الحياة ونركب الخيل ونطارد الغزلان ،نرعى قطعان السحب البيضاء ،نغني للمطر ونرقص على ايقاع الفصول ،
كنا نرتاد الافاق ،نطرق الطرق بنعال الريح الصغيرة
هي "السها" تمتحن العرب بها الأبصار ، وتكحل بدمعتها الملائكة الرسل .
.
عربيا كان نعش واعرابيا كان القاتل سهيل، سمته امه لتسهل حياتها ،
أدخلها في كابوس الدم ،
نحن سبعة صبيات بعمر الياسمين ،
وجلال البدر وبهاء الندى ،
اربعة حملن القتيل نعش في تابوته ، مزخرف بصدف الجنة ،
ومطعم بشفيف نوار النعيم ،
صنعه نجار إله حكيم ،
ليس من شيمنا الثأر ولا الذبح ،
لسنا وحوشا ولا نسرق القلب ،
ننهب العيون ونحرق الفؤاد .
ثلاثة مشين خلف النعش ،
اقسمن باقتناص سهيلا
من عقر ملاذه الأخير ،
وجره إلى عدالة الميزان ،
واحكام الرحمن ،
هرب في ثياب الدب الصغير وفراء الثعلب وأس النعجة،
مكحلا العينين وحالقا شعر الرأس ومختبئا في اعماق الظلمة ،
سنطارده إلى آخر الدنيا ونجيء به مخفورا بصراخ القواقع وانين القتيل ،
ونار الجحيم .
سنضع رأسه بين كفتي الميزان الإلهي ، ليدق ختما على جبهته الرعناء ،
سنجيء به مهما قاتلنا الوقت ،
رمت علينا الساعات عقاربها ،
وسلط علينا الشيطان رياح الزمهرير .
الثلاثة الأخوات عبرن جبال الوهم ، وخضن بحار الرجاء ،
صعدن تلال النوم ،
وسفحن تعب المشي على وديان الهم ،
لم يجدن اثرا لسهيل ،
فص ملح وذاب ،
فصفصن غبار النجوم وسلالات النحل وغالبن سهاد النوى .
نأى سهيل ونأت السنون ،
تتالى الركض وراء سراب الدماء ،
وذابت أرجل الفتيات
في زحمة الكواكب السيارة .
سهيل كان سيد الجنوب والشرق ،
ابانا نعش كان امير الشمال ،
شمائله شملت كل وديان أرضه ،
كاد يطال السماء .
العرب في واسع الرمل وخبب النوق
وتوق الشعر ومخيلة الملائكة رصدوا بحدأة العين الكواكب والنجوم .
سرب النجوم قالوا عنه :
نجوم طارقة واضحة من الخيام ،
ثلاثة عشر منها في كوكبة الدب الأكبر ،
أما الأخيرة فهي في كوكبة السلوقيان .
الدب الأكبر حاضنة الصغار ومدرستهم الأولى ، منها تخرجت صبايا نعش ،
حين يطلع سهيل كن منشغلات بالبحث عنه ،
ينسل كالسارق بخطوات كالبرق
نحو ملاذاته السرية
بعيدا عن إمارة الشمال ،
اورثها نعش بناته ،
كرسهن بالكرسي ،
فصار العرش عروشا والتاج تيجانا .
كما في الأرض كذلك في السماء ،
الجريمة حفظت ، والقاتل سهيل مايزال هاربا مرعوبا تطارده الدماء .
والمتهم ظلما "الجدي " مايزال يرفل بقيد الحديد وينتظرنجمة اسمها الحرية .
القطبي الشمالي الذي لا يغيب لم يجد لسهيل أثرا على سطح الفضاء .
اصرت البنات على تهمة " الجدي ".
وضاح جميل اليمن قبل أن يغادر
الى الصندوق الملكي قال وكأنه يحاكي بنات نعش :
"دعينا ما أممت بنات نعش
من الطيف الذي ينتاب ليلا
ولكن إن أردت فصبحينا
إذا أمت ركائبنا سهيلا "
لم يخرج وضاح من صندوقه ،
ولا الجدي من سجنه ،
ولا نزلت بنات نعش من اعالي الجبال ، والباقيات يطفن بالتابوت ،
نعش مسجى في جوفه ،
وفي قيعان الظلام يتخفى سهيل .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى