سعيد الكفراوي - هناك.. بعيداً عند الشطآن

وكنتُ أصغي للميكرفون، وأنا ألعب في مساحة النور أمام صوان العزاء، وأرى في ضوء الكهرباء مكبر الصوت المعلق على جميزة عم «عبد الغني بدر».. كان المقرئ يستعيد كلمات الله الكريم سبحانه «أينما تكونوا يدرككم الموت»، وقتها قلت في نفسي «الموت يتبع ابن آدم حتى باب قبره».. بعدها جريت ناحية الولد «شعبان» ابن «شلبية» بتاعة الفاكهة الفارشة على مدخل البلد من ناحية البحر.. كان الولد «شعبان» جالساً على درج سلم دار «أبو موسى» وقبل أن أجلس معه رأيت عمي «أحمد» قادماً متجاوزاً الضوء الشاحب البعيد، ولا أعرف لماذا رأيته في هذه اللحظة طويلاً ونحيلاً.

نظرت ناحية «شعبان» وأشرت ناحية عمي وقلت: «عمي أحمد»، أجابني الولد بعد سرحة وقد استقرت عينه على عمي القادم، وقال لي وكأنه يكلم نفسه «يا أخي عمك دهوت أمره غريب.. دايماً ماشي لوحده، وميكلمش حد.. ساكت زي الدار المهجورة».. سَكتْ ولم أرد عليه إلا أنه اقترب مني وهمس في أذني «يكونش ياله إكمن معندوش خلفة نفسه مكسورة ؟».

وقفتُ، وهبطت درجة السلم وقطعت على عمي الطريق حيث فوجئ بي فوضع يده على رأسي وقال لي «الله أنت هنا؟!»، وسألني عن أبي ثم دس يده في جيبه وأخرج محفظته وأعطاني خمسة جنيهات وقال لي «تجيب علبة سجاير سوبر وتاخد الباقي» ثم سار خطوة ووقف وقال «تعالى الصوان».. مضى عمي، وأنا توجهت ناحية بقالة عم «عبد العزيز زايد» كي أحضر الدخان.. كنت مشغولاً بقراءة الشيخ «سيد جابر»، ومن وأنا صُغيّر كنت إذا سمعتُ القرآن أحزن وأفكر في الناس الغائبة، وستي «هانم» الله يرحمها كانت عندما تراني شارداً ساعة سماع القرآن تصيح في والدي «ابنك يا سالم عليه أسياد ولازم تشوف لك حل فيه».

من صغري شغلني أمر عمي «أحمد» الذي كنت أحبه مثل أبي، وكنت أعي ما يتردد في الدار عن الخلفة، وعن السحر المعمول له والذي ربطه، وعن زوجته التي كانت تتحمل الكثير من الإهانات عندما تسمع تلقيح زوجات الأعمام وهن يسمعنها «سحر مين وبتاع مين هي اللي معيوبة».. وكانت إذا حضرت صمتوا وغيروا الحديث.. وكان جدي «عبد الغفار» الجالس على العتبة بجانب الجدار غارقاً في دروشته، وغيابه الدائم، والذي كان يسألني «هو أنا نمت يا علي ولا من صباحية ربنا وأنا صاحي؟!».. وكان يطمئن مني على عمي فأخبره أن عمي نقل من عندنا للبيت القديم عند الغيطان وكنتُ حين أرى زوجة عمي «فتحية» نازلة الصبح بدري من المقعد العلوي منوّرة ونظيفة وملابسها تشف بالنور، وأرى ضفيرتيها طلة من تحت طرحتها الحرير، وكردان الذهب يلمع على صدرها، وكانت تنظر ناحيتي فأرى برقة عينها المكحولة، فإذا مرت من جانبي تنشقت رائحة حلوة مثل الصابون المعطر.. وكنت ازعل لما أسمع نسوان الدار يسألونها إن كان فيه حموم ولا لأ ؟، وكانت تتجنب الجلوس معهن وتتجه ناحية شجرة النبق على النهر، وبعد قليل أرى كحل العين ساح على خدها، وهي واقفة تنظر عبر النهر أول النهار حيث الشطآن البعيدة.

أتذكر أنه في ذلك الوقت رأيت عمي «أحمد» يستدعي أبي وأعمامي ويجلسون في «المندرة» التي على الشارع، وسمعت أصواتهم تعلو، وعمي يطلب حقه في ميراث جدي - أرض ودار ومواشي - وأبي الذي يقدر أحواله يقول له «يعني أخرتها يا أحمد عايز تقسم وتعيش لوحدك !!».. وكان عمي يمسك خناقه ويشد ثوبه ويزعق بعالي الصوت «خلاص زهقت.. روحي طلعت».. وكنت أنا جالس بالقرب من البُريه القديم الذي له مرآة تعكس صورة العائلة حيث كنت ألمح الدموع في عين عمي وأسمع صوت والدي المخنوق «خلاص ياسيدي براحتك».

افتكر أنه بالنهار فك أثاثه، وجمع حاجاته وضعها على عربة يجرها حصان وسار هو وزوجته خلف العربة في اتجاه الدار القديمة عند الغيطان وأنا أمشي من بعيد خلف العربة وأراها تغيب عن نظري، وأبكي فراق عمي وزوجته «فتحية»، ولما ارتفع صوتي بالبكاء توقفتْ العربة حتى وصلتهم، أخذتني زوجة عمي في حضنها وهي تمسح دموعها وقالت «يعني إحنا هانروح فين ؟.. ما إحنا في البلد وهناخدك تعيش معانا».. وسمعت صوت العجلات تدرج على الطريق وهم في اتجاه الدار القديمة وقررت وأنا أعود لدار العائلة أنني سوف أذهب عند عمي وأعيش هناك، وحين وصلت للدار رأيت أبي يسقي الحيوان من النهر، وحين رأى فحمتي رفع رأسه وكلمني «عيط بقى زي النسوان.. وهو يعني حد كان زعله.. ما هو مشى بمزاجه». وكان وجه أبي محتقن ويعطي ظهره للدار ويرش الماء على جسد البهيمة التي يسقيها.

رجعتُ لصوان العزاء.. الكهارب منوّرة، وأنا أدخل من باب النصبة لأرى الخلق على الكراسي، وأنا متوجه حيث عمي.. اقتربتُ من الصف الجالس فيه.. وأخذت أتفرج على قماش الصوان المزخرف بالدوائر التي تحمل أسماء النبي عليه السلام، والصحابة رضوان الله عليهم، والنجف المعلق بالسقف مضيئاً بالنور ويشع ببهجة الضوء مع صوت المقرئ الحسن. كان عمي يجلس بالقرب من باب الصوان المفتوح على الغيطان، وحوله كبراء البلد، وأسمع سعلات وتمتمات تتكرر كلما أوغل المقرئ بصوته في المعنى الخفي لآيات الذكر الحكيم، وأسمع دعوات متناثرة رحمة للراحل الكريم.

سألني عمي «جبت السجاير ؟».. مددتُ يدي بالدخان وباقي الخمسة جنيه.. أخذ علبة السجائر وقال «الدخان ليّه.. وباقي الفلوس لك.. ابسط يا بطل».. وطبطب على ظهري.

رآه الصوان كله يدخل من الباب الواسع، بيده عصاه العاج، فارداً طوله على آخره، وعلى كتفه عباءته الجوخ الامبريال الزرقاء الفخمة.. كان يقبض على عقفة عصاه الفضة، ويحبك على رأسه طاقية من الصوف في لون العباءة.. يقف مستعرضاً أمام الجميع هيبته، رافعاً ذراعيه وصوته يجلجل في المكان:

«شكر الله سعيكم».. رد الجمع «عظم الله أجركم».. ظِلُ بسمة لا تعرف الحزن أطلت لثانية على وجه نسل التركوة الذين أدركهم زمان الفقر يوماً، لكنهم سرعان ما سيسوا الزمن وجيروه لحسابهم فجاءت لهم الدنيا بالمال والحسب والنسب.

يطل «علوان» على الخلق من مقامه الرفيع، والخلق في العزاء تعرفه كيس مليان بالمظالم والافتراء على الكبير والصغير.

أنا في مكمني بجوار الكرسي أرقب في النور أهل البلد كأنهم في حضرة داخل الجامع.

قطع «علوان» الترتيل، وبصوت جهوري زعق «يجعلها آخر الأحزان» أدى الجميع الواجب وردوا عليه شفاعة وهيبة.. عمي لم ينبس بحرف، وانشغل بسماع آيات الذكر الحكيم.

باغت «علوان» عمي:

«رد العزا يا أحمد يا عبد الغفار».

قال عمي:

«شكر الله سعيك».

جلس «علوان» أمامه قابضاً على عقفة عصاه، يحدق في وجه عمي بعينه التي تشبه عين الصقر، زرقاء ولامعة وتضوي في نور الكهارب كقطعة من زجاج.. كان عمي كثيراً ما أخبرني أنهم نسل ظالم جُبل على أكل الحق، ومذلة الناس.

في اللحظة التي انتهى فيها المقرئ من رُبعه الثاني ميّل «علوان» على عمي وهمس له:

«ها تفضل طول عمرك يا أحمد يا عبد الغفار إنف وناقص رباية»

«بقول لك إيه ؟.. قصّر وخلي ليلتك تعدي.. إحنا في مَعْزَه».

«ما هو يا أخي أمثالك يفوّروا الدم.. شحات وراسك في السما.. مدعي الكبر من يومك وفاكر نفسك عنتر مع إن ياما الهدوم مدارية بلاوي».

انقرص عمي ولدغته الأفعى، وانشغل بالكلام مع جاره وكأن «علوان» لا وجود له.

أنا زعلت، وتمنيت أن ينهض عمي ويلجمه ويعلمه الأدب.. أنا أعرف ما بينهما من عداء قديم.. عمر من العداوة.. وكثيراً ما رأيت أفعال «علوان» مع عمي.

حل الصمت على صوان العزاء.

فحت كهارب النور، والمقرئ يشرب ينسونه، والناس على الكراسي تهمس وتشرب الدخان، وهب هواء أول الشتوية قادماً من الغيطان يضرب عظمي بأول البرد والمخاوف، وأنا أنظر من باب الصوان على الظلمة المحاصرة.

يخبط عقفة عصاه، ويفرد عباءته ويطويها، وبدا لي كأن ألف عفريت يمتطون ظهره، وعينه الزجاج تشع بالغضب والكراهية.

احتارُ في كراهيته لعمي.. أيام وسنوات تتعقد فيها الأمور، وعمي يشوح في وجه أبي «جنس كلب والفساد طبيعة فيهم، والسمسرة وشراء الذمم وسُلف الربا الحرام».

أتذكر أن «فتحية» زوجة عمي كانت إذا رأت «علوان» قادماً يهز طوله على الجسر تعود إلى الدار وتغلق الباب بالرتاج.

قال «علوان» موجهاً كلامه لعمي:

«ماهو لو كان عندك عيّل يمكن كان حالك انصلح».

برقت الدنيا أمام عين عمي، وضربه دمه في دماغه، والكلام عن عدم الخلفة دونه الموت.

رد عمي:

«قصّر يا علوان وخللي ليلتك تعدي».

رفع «علوان» صوته حتى جاب آخر الصوان.

«طيب طلاق بالثلاثة من مراتي كل ما تحل تحرم إنني اللي حرمتك من الخلفة ومتعة الدنيا».

استغرب عمي الكلام ولم يرد، في حين جاء صوت من آخر الصوان:

«ما خلاص يا حاج (علوان).. إحنا في عزه».

يضغط «علوان» على الجرح.. والصوت بالليل ساري، حامل للأسرار وأوجاع البشر.

«يمين بالله أنا اللي ربطك ليلة دخلتك على مراتك.. رحت (لراغب الصفطاوي) عمل لك العمل وسحرك وأنت شربت السحر مع حلة الاتفاق ليلة عرسك، وعنها قطعت دابر خلفك».

ضحك بصوت جلجل فوق الرؤوس، والناس قالت «لا حول ولا قوة إلا بالله»، وعمي كان عقله طار منه، والغشيم يضحك بعالي الصوت، ويضغط على الجرح حتى الصديد.

«يمين بالله أنا فاكر اليوم ده زي النهاردة.. سنين عدت ولسه فاكره زي النهاردة».

ألبد بجانب عمي مقاوماً بكائي وأنا أراه ينتفض وسط حشد المعزين، كأنه فرجة في مولد.. أشعر به عريان يقف وحده في سوق البلد وأنا أرى عمره كله معلقاً أمام عينيه.. والريح ترجف هناك وتدفع بظل الأشجار في النور متمايلة، ويصدر عنها ذلك الصوت الذي يخيفني.

بغاية الهدوء، ومن غير أي توقع، والناس على رأسها طير.. في اللحظة التي يكون فيها ملامسة الحديد البارد ملامسة للموت نفسه.. في لحظة مواتية يكتشف فيها عمي أسباب عذابه ثلاثين من السنين، وبداخل صدره ينتفض قلبه يفزع الطائر الحبيس، وصوته يخرج غصباً عنه «كل العمر ده !!».

سحب عمي من سيالته سلاحه ألماني الطراز، ونشن وشد الزناد.. انطلقت رصاصات تسع، وهو جالس على الكرسي.. مرة واحدة الرصاصات تجلجل في صوان العزاء وتخرق لحم سماء ربنا المعبود.. رصاصة وراء رصاصة لها دوي مثل صريخ، وجسد المغرور ينتفص وقد خرس.. يسقط على الأرض مسربلاً في دمه مثل ذبيحة.

وأنا أقف خلف عمي «أحمد » لا أعرف ماذا أفعل ؟

عمي خرج من صوان العزاء في يده سلاحه، والريح على البلد تهب.. لم يستوقفه أحد ومشى على جسر النهر وأنا أتبعه من بعيد أفكر في والدي وأعمامي و«فتحية» زوجة عمي في دارها آخر العمار.

وعمي يسير في وجود غامض، وبرق اشتد عصفه هناك في حاشية السماء.

كنتُ أسير خلف عمي لا يشعر بي، يأخذ سبيله حتى داره وقد شد قامته وكأنه يحطم قيوده.

حين وصل للدار ضرب بابها بقدمه فانفتح في عويل على مصراعيه. دخل وترك الباب مفتوحاً، وأنا انسربت ودخلت وسترت نفسي بدولاب قديم وسط الدار.

فزعتْ «فتحية» زوجته من منظره، ورأيتها تلوذ بوسط الدار: «خير اللهم ما اجعله خير».. مالك ؟.. مالك يا أحمد ؟.

رأيت عمي يمزع قميصها الليلي، ورأيت لحمها عارياً في بياضه تحت الضوء ورأيت ثدييها اللذين لم يعرفا حتى اليوم «اللبن» يندلقان على الصدر ويقبض عليهما عمي بكفه ويمرغ وجهه فيهما.. كان يجذبها بعنف ناحية حجرة النوم وقد تجرد من ملابسه.. رأيت عمي من مكمني عارياً وقد اكتملت رجولته.

يغيب بامرأته رابط الجأش، بعزم الرجال في قلب داره عند حدود العمار حيث كان الليل يحمل المخاوف والحكايات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى