مقتطف د. محمد الهادي الطاهري - يوميات قائم بأعمال ربّة البيت (8)

(8)

أعمال ربّة البيت كثيرة جدّا ولا تقف عند حدود المطبخ. في كل شبر من مساحة هذا البيت عمل لابدّ منه، في الأروقة وفي غرف النوم الثلاث، وفي قاعة الجلوس، وفي خزائن الملابس، وفي الشرفتين الأمامية والخلفيّة أيضا. في كلّ هذه الأماكن الفرعيّة عمل لابدّ منه. نعم قد تكون الأعمال فيها متباعدة الأوقات وغير يومية، ولكنّها مع ذلك أعمال تقتضي وقتا وجهدا وتقتضي نظاما ورؤية ومنهجيّة عمل أيضا، وأنا، وإن كنت أشارك من قبل في بعض هذه الأعمال عن طيب خاطر حينا وملزما أحيانا، فالحقيقة أنّ مهاراتي فيها محدودة، والنتائج في الغالب متوسّطة وربّما غير مرضيّة. أمّا مدّة القيام بأعمال ربّة البيت فقد أجبرتني على النهوض بها كلّها بغضّ النظر عن النتائج. في مثل هذه الأحوال لا نحتاج إلى عمل متقن، نحتاج فقط إلى تسيير الأعمال لنوهم أنفسنا بأنّ شيئا لم يتوقّف. حاولت قدر المستطاع أن أسيّر هذه الأعمال ولم أكن أنتظر جزاء ولا شكورا، ولا حتّى استياء أو سخريّة أو تهكّما. أنا، لعلمكم، من أنصار المقاربة الوظائفيّة، والمهمّ في هذه المقاربة هو النتائج بغضّ النظر عن الأشكال والأساليب والمرجعيات. فالهدف من طيّ الملابس مثلا أن تكون مرتّبة على نحو واضح يسهّل على أصحابها العثور عليها إذا احتاجوها، ولا يعنيني كيف تطوى السراويل والجماّزات مثلا. المهمّ أن تُطوى وتوضع في مواضعها بغضّ النظر عن كيّها ، وعن شكلّ طيّها. وكذلك الكنس، وتنظيف بيت الاستحمام. وقد دفعتني هذه المقاربة إلى الإتيان بأعمال تبدو من منظور المقاربة الجماليّة أخطاء فادحة. ومن الأمثلة على ذلك أنّي طويت الجمازات بعد غسلها لا دون كيّها فقط بل أني رصّفتها كلّها ووضعت بعضها فوق بعض، وكان عليّ أن أعلّقها في المعالق المخصّصة لها كي لا يلحقها انكماش، وكذلك السراويل والمعاطف. وكانت النتيجة ملابس منكمشة، نعم هي نظيفة ولكنها لا تسرّ الناظرين. أمّا الكنس، فقد كانت ربّة البيت الأصليّة تخصّص لكل ناحية من نواحي البيت مكنسة تختلف عن غيرها من حيث اللون ومن حيث الشكل أيضا. وأنا لا تعنيني هذه التفاصيل الدقيقة، المكنسة مكنسة، لذلك فقد كنست الرواقين والغرف الثلاث وقاعة الجلوس بمكنسة مخصّصة لبيت الاستحمام، وكنستها في يوم آخر بمكنسة ثالثة مخصّصة لكنس الشرفتين. نعم هي مكانس مختلفة ولكن ذلك لم يعن لي شيئا، وكان يعني الكثير لربّة البيت. رأيتها مستاءة من كنس الغرف بمكنسة بيت الاستحمام ولكن استياءها صار غضبا حين رأتني أستعمل خيشة بيت الحمام في الرواق. يا سيّدتي، ما المشكلة؟ كلها لدفع الأذى. ما الضرر الذي قد يلحقنا إذا فعلنا هذا بهذه أو بتلك؟ تقول: نعم لا ضرر، ولكن الفن يا صاحبي. نحن نعمل بفنّ ومذاق وأنت تعمل فقط. لقد صدقت. ولعلّ عملهنّ بفنّ وبذوق وبرؤية جماليّة هو ما يذهب عنهنّ الشعور بالتعب والروتين. قست ذلك على عمل عرضيّ من أعمالي المنزلية فوجدته صوابا. تذكّرت أن انشغالي بحديقة منزلنا والعناية بشجيراتها وأزهارها عمل مرهق جدا قد يأخذ منّي في الأسبوع الواحد ساعات، ولكنّي كنت مع ذلك لا أشعر بتعب. لماذا؟ لأنّي كنت أجد لذّة في كل ذلك، وتعجبني صورة الشجيرة الصغيرة إذا قلّمت أغصانها بعناية وترتيب وإذا صنعت لها حوضا من جنسها. آلات الحفر والتقليم في الحديقة متنوعة، وما يناسب الأشجار لا يناسب الأزهار. كذلك آلات التنظيف ومواده داخل المنزل. فما يناسب الأواني لا يناسب الثياب وهذا لا يناسب أرضية المنزل. لكلّ شيء آلة خاصة به ومادة أيضا. هل يُعقل مثلا أن تغسل أواني المطبخ بما تُغسل به الثياب؟ المنطق يقول لا. أما أنا ففعلتها. لم يتغير شيء. ومع ذلك فهو لا يليق. لم تنتبه ربّة البيت إلى هذه الفعلة إلاّ بعد شهر تقريبا. لقد دخلت المطبخ فرأت كمّية المواد المخصّصة لتنظيف الأواني مكتملة لا نقص فيها. سألتني: بم كنت تغسل إذن؟ قلت بعفوية: بهذا، وأشرت إلى مادة تنظيف أخرى مخصّصة لغسل الملابس. ضحكت عليّ. يالك من بدويّ. ضحكت أنا أيضا. هل تعني البداوة أن نستعمل كلّ شيء في كل شيء دون نظام؟ ربّما. نحن البدو نعمل بمنطق آخر لا تعقيد فيه. البساطة والشمولية. العبرة بالنتائج.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى