مقتطف د. محمد الهادي الطاهري - يوميات قائم بأعمال ربة البيت (12)

(12)

بدأت ربة البيت بمرور الوقت تستعيد عافيتها شيئا فشيئا. ها هي تتدرب على المشي بعكازة واحدة بدل العكازتين، وها هي تطوف في أنحاء المنزل. قد يستغرق منها المشي في الرواق مثلا دقيقة أو دقيقتين بدل الثواني القليلة سابقا، ولكنها مع تمشي وتجتهد في أن تكون مشيتها عادية. ومن فرط حرصها على المشية العادية نسيت ذات يوم أن بقدمها كسرا لم يلتئم بعد فقفزت من فراشها وهبت واقفة دون الاستناد إلى عكازة من عكازتيها المطروحتين قريبا من الفراش. والأغرب من ذلك أنها خطت خطوتين او ثلاث خطوات بلا سند وسمعتها تنادي بصوت يمتزج فيه الفرح بالتوجع وهي تقول : يا محمد يا محمد تعال أنظر. كنت وقتها منشغلا بإعداد وجبة العشاء ولم ألبّ نداءها بالسرعة المطلوبة وظللت أسوي القدر على الكانون وأحرك ما فيه كي لا تأكله النار فأعادت النداء مرتين فلما جئتها قالت: أنظر. ها أنا أمشي بلا عكازة. لم أصدق. وطلبت منها ان تريني ذلك حقا وأن تذرع الرواق كله، ففعلت. وطافت بأركان البيت. كان ذلك حدثا عظيما وهل أعظم من حدث يصبح فيه المرء مستقلا بجسده بلا حاجة إلى متكئ عليه يستند ليمشي؟ وقرأت في عينيها فرحة عارمة وابتهاجا عظيما، ورأيت في صورتها صور أطفالي الثلاثة حين كانوا يتدربون على المشي ويتعثرون فيقعون ولا يتألمون. الفرق الوحيد بينها وبينهم أنها لم تكن طفلة حقا. لقد كانت إمرأة في صورة طفلة ولعل ذلك ما جعل خطواتها دون عكاز خطوات متثاقلة مصحوبة ببعض بالتوجع. لا يمكن للمرء أن يكون طفلا مرة أخرى وإن حتمت عليه الأيام ذلك. قد يشبه الطفل في أشياء ولكن أثر البلوغ والنضج وربما الزمن فيه يحمله دوما على الخوف وعلى الألم والوجع وهو بعيد تجربة المشي الأولى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى