مقتطف د. محمد الهادي الطاهري - يوميات قائم بأعمال ربّة البيت (14)

(14)

كنّا نتوقّع أن يكون فوج القادمين في زيارة رسمية لا يتعدّى الأربعة أشخاص وإذا بهم فوق العشرة. رجال ونساء في أشكال وازياء متنوّعة، فيهم الطويل وفيهم القصير، بعضهم بدا متعبا من آثار السفر والآخر لا تبدو عليه أي علامة. دقائق طويلة انشغلنا فيها بالترحيب والتقبيل والمصافحة والتربيت على الاكتاف ثم جلسنا كلّنا حيث يجب أن نجلس. وانفتحت أحاديث شتّى أغلبها عن حالة الطقس. قال أحدهم: الدنيا هنا يابسة، قال آخر: يابسة في كل مكان. أأعجبتك الدنيا هناك. ربّي يقدّر الخير. قالت إحداهنّ: والله العظيم ما كنت أحسب الكاف على هذه الحالة. ابتسامات باردة من هنا وهناك وسرعان ما انتقل الحديث من حديث في الطقس إلى حديث في السياسة ثم في التربية والتعليم، ثمّ في الأسعار. قال بعضهم وهو يشير إليّ مباشرة: هل تعرف يا سي محمّد أنّ ثمن العلّوش قد تجاوز الثلاثين دينارا هذه الأياّم؟ فكّرت في المقصد من هذا السؤال. هل يعني أنّني غير محيط بما يدور في أسواق اللحم واسواق الغلال والخضراوات؟ هل يعتبرني مثلا ربّ أسرة لا تعنيه الأسعار مهما ارتفعت؟ قلت مجاملا: أحقّا ما تقول؟ عهدي به فوق العشرين بقليل. أنا في الحقيقة لا أشتري اللحوم من عند الجزارين. قال متعجّبا: ومن اين إذن؟ لابدّ أنك تتزود بما تحتاج إليه من لحم من مزرعتكم هناك في جزة. لم يدع لي فرصة للحديث، وسرعان ما قال: سمعت أنّ بلدتكم غنية بالخرفان والأبقار ايضا. قلت: والدجاج والأرانب. نحن يا صديقي نأكل من خيرات أرضنا. كان أبي رحمه الله يربي الماعز والبقر والأرانب والدجاج وكان للأسف لا يأكل منها إلا نادرا. لأنه كان ينفق منها علينا. بعد رحيله رحمه الله قلبنا وجهة فلاحته فصارت كما تقول أنت تماما. لم يكن يعرف المسكين أنّ ربّ اسرة مثلي يشتري كلّ شيء من هذه الفضاءات التجارية الواسعة ولا يدفع نقدا ابدا. البطاقة البنكية تنوب عن ذلك. يكفي أن تدخل البطاقة في آلة صغيرة وتركب الرقم السرّي الخاص بك حتّى يتم اقتطاع المبلغ. وهذا ما يجعلني غير محيط بأثمان الكثير من الأشياء التي نستهلكها يوميا. السعر الوحيد الذي أعرفه معرفة جيّدة واعي تحولاته الكبيرة هو سعر علبة السجائر. للأسف باعة السجائر عندنا لم يرتقوا بعد إلى مستوى المعاملات المالية الرقمية. كانت ربّة البيت المصون تنصت إليّ وأنا اروي هذه الخرافة لضيفنا العزيز وعلى وجهها علامات حيرة وتعجّب ثم سمعتها تنفجر ضحكا. لا تصدّقوه يا جماعة. نحن بشر مثلكم تماما بلا مزرعة ولا معاملات رقمية. لقد أراد أن يزيل ما تراكم في جوّ هذه القاعة من معاني الخوف والحزن والبؤس. طقس بائس وسوق بائس وسياسات بائسة. لابد إذن من بعض الهزل. هات يا محمّد القهوة. وجئت بالقهوة. لم أخطئ هذه المرة. كان كلّ شيء على ما يرام. الدربة والمران أساس كل شيء.


د. محمد الهادي الطاهري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى