أسامة إسبر - جسد تتسرب منه الحياة

كان أنا،
أو أحد أشكالي.
كمنَ لي وبزغ فجأةً
حين فتحتُ ألبوماً
كما لو أن شمساً أشرقت كي تضيء لحظتي.
كان وجهاً يعيشُ في صورة
في فضاء من غيوم بيضاء وسوداء.
خلفه نافذةٌ فُتحت قليلاً
لاحت منها مناشر التبغ وأشجار الزيتون
وكان الوقت نهاراً في قرية متوسطية.
كان وجهاً تريّث من لحظات عبرت
أنقذتْه يد ثم غرق بين الأوراق.
عائلتي لا تحبّ جَمْع الصور
غير أن أمي كانت دوماً تضع في حقيبة يدها،
في جيب له سحاب صورةٌ جماعية
لأبنائها كلهم، بالأبيض والأسود أيضاً.
في ملامحهم فرحُ تلك الأيام
فضاء الحقول يضمهم
ودهشة الطفولة
تتوهج في أكثر من عين.
وفي وجه طفلٍ شعره أسود تقطيبةٌ
ربما كان ينظر إلى الكاميرا
ويتساءل ما الذي يجري هناك.
قلت لنفسي وأنا أنظر إلى وجهٍ نأى عني:
إذا وقف الجميع مرة أخرى
والتُقطت لهم صورةٌ
كيف سيبدون الآن
بعد أن تغيرت وجوهٌ حلقت قرب وجهي
بعد أن ضاعت ملامح عاشت فينا كالضوء والهواء
ابتسمت وتوهجت أنوارها،
تسلقت الحياة وجلست على أعلى قممها.
لأكثر من عقدٍ
لم ألمح تلك الوجوه
لكنها ولدتْ كلها فجأة
في وجهٍ كان لي
أشرقَ من صورة ثم غرب فيها
كأنه لا يريد أن يتحدث معي.
قضيتُ طفولتي كلها معه في اللعب
في عراء الحقول وبين الأشجار.
عشتُ مشبعاً بخضرة الجبال والسهول
وما زلت أحتفظ بروائح أعشابها في جلدي.
لا أظن أن كل شيء يعبر في الحياة
ثمة ما يستمرّ فيك
ويجري في دمك
إذا تصالحت مع إيقاعها
الذي لا يهمه ذلك
بل يتدفق فحسب
كما تدفق إيقاع حياتي
وصدحتْ موسيقى طفولتي
تحولت إلى ضوء
توهّج على امتداد شاطئ المتوسط
حين نظرتُ إلى الصورة.
في تلك اللحظة عرفتُ أن الطفولة
لا تغادر الشرايين
وأن المرء يسمع موسيقاها
إذا أصغى وهو يلهثُ على الطريق الطويل
لحياةٍ قصيرة.
حين أمعنتُ النظر في الصورة
وأنا أحملها بين يديّ
شعرتُ كما لو أنني
سرقتُ نار الطفولة
وجئتُ بها إلى برودة لحظتي
وأنني أحرس حكمتها
وأقدّس عدوى دمها
وأذكي أوارها
في الحطب المبلل
لجسد تتسرّب منه الحياة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى