د. محمد الهادي الطاهري - تحولات عبد الله المجنون 3

نسي الناس إذن دهشتهم الأولى وها هم اليوم في دهشة أخرى حين رأوا عبد الله يفقد عقله ويقطع نهج يوغرطة الطويل الضيق عاريا تماما ويقول كلاما تختلط فيه البذاءة بنتف من أشعار الشعراء وآيات القرآن الكريم. رأوا ذلك منه في آخر أيام الشتاء وأول أيام الربيع فلم يصدقوا عيونهم وآذانهم. قال الشيخ البوني صاحب الحمام : ألم أقل لكم منذ تسع سنوات أنه جني في صورة إنسى؟ واعتذر الطاهر المؤدب للنساء عن فشل ما كتبه لهن من الحجب في ردع هذا الجني المارق. وتتالت نوبات عبد الله و ازدادت سوءا على سوء. كانت نوباته الأولى محل دهشة حتى أن الكثير من سكان الضاحية كانوا ينتظرون خروجه عاريا ليتسلوا بمنظره الغريب وليتابعوا بإعجاب ما كان يتفوه به من لغو ممزوج بالشعر والقرآن وبعض الأذكار. ثم صارت شيئا فشيئا باعثا على الخوف والقلق حين رأوه يقذف المارة بالحجارة ويطارد صبيان المدارس ويعترض سبيل النساء إذا خرجن إلى السوق أو إلى الحمام. وعظم على الضاحية كلها أمر عبدالله هذا فاجتمع أعيانها وحرروا عريضة رفعوها إلى الملازم عمار رئيس مركز الشرطة طالبوه فيها بحبس هذا المعتوه ليكف عنهم أذاه. ولكن الملازم عمار لم يبال بذلك واكتفى بأن قال لهم: هذا رجل منكم أقام بينكم عشر سنوات كاملة ولم تروا منه شرا أبدا. ألا تغفرون له ما طرأ عليه من الجنون ؟ ألم تكن الضاحية مرتعا للمجانين الغرباء منذ عقود طويلة؟ فلماذا سكتتم عنهم ورضيتم بهم وثرتم اليوم ضد عبدالله هذا؟. لم يكن كلام الملازم عمار كذبا، لذلك انصرف المعترضون من مكتبه وهم يتلاومون. وبدا عليهم الندم على ما فاتهم وتمنى كل واحد منهم أن يعود به الزمان إلى الوراء عقدين أو ثلاثة ليطهر الضاحية مما كان فيها من المجانين العابرين. واكتفوا بتحذير الناس من نوبات عبدالله القادمة فأسرع التجار إلى غلق متاجرهم وعلق المعلمون الدروس ولم يبق في الضاحية من علامات الحياة سوى المقاهي. وهذه أيضا لحقها الضرر فلم يعد يرتادها أحد بعد صلاة المغرب وكانت من قبل عامرة بالساهرين. ووجد عبدالله المعتوه في هذه الأجواء فرصة لتنمية نوباته القديمة وابتداع نوبات أخرى. فكان أحيانا يقطع نهج يوغرطة مهرولا مهللا مكبرا ويقطعه أحيانا أخرى زاحفا زحف الثعابين. وأغرب نوبة له تلك التي خرج فيها من منزله بعد شهر من نويته الأولى في كسوته البيضاء المعروفة فظن الناس أنه قد ثاب إلى رشده ورجع إليه عقله فأسرع التجار إلى متاجرهم يفتحونها وأعلنت المدارس العودة إلى الدراسة واكتظ نهج يوغرطة بصبيان المدارس ونساء الحمامات والأسواق وإذا بعبد الله يفاجئ الجميع فيعتلي ظهر دراجة نارية مركونة قبالة حمام الشيخ البوني وينطلق بها في أقصى سرعة مقتحما مركز الشرطة. وشوهد الملازم عمار ملقى على ظهره وعبد الله يركله بعنف وأعوان الشرطة على مقربة منه يتابعون صرخات رئيسهم ولا يتجرؤون على إنقاذه من عبد الله. ومن الناس من فرح لذلك فرحا لا يوصف فسمّى عبد الله المجنون ثائرا وهتف باسمه ولكن عبدالله خيب ظنه فنزع عنه كسوته البيضاء ونزع ما تحتها حتى ظهر عاريا تماما وهمّ بأن يبول على وجه الملازم عمار. فلما رأى الناس ذلك هجموا عليه هجمة رجل واحد فقيدوه وأمروا الملازم عمار بتحرير أمر بحبسه وعرضه على طبيب الأمراض العصبية. وما كانت الساعة العاشرة صباحا حتى كان عبدالله قيد الحبس. وبلغ الأمر سلطة القضاء فقضت على الفور بسجن عبدالله وتفتيش منزله وحجز كل ما فيه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى