صباح بن حسونة - حُبّ في زمنِ التكنولوجيا

كانت خيوط الشمس التي اخترقت الستائر ترتسم فوق وجهه لتضيء سمرة جذابة مغرقة في النعاس، تململ قليلا ثم أدار جسده إلى الناحية الأخرى تاركا الحرارة تختال فوق ظهره و ترسل فيه دفئا محببا..و لكنه لم يستطع العودة إلى النوم.

" يجب أن أغير هذه الستائر الشفافة بأخرى قادرة على منع خيوط الشمس من اقتحام نومي، و لكن لِمَ نمت على الأريكة و لم أدخل غرفتي ؟"

امتد به السهر ليلة البارحة إلى ساعة متأخرة و كان يجب أن يبقى نائما حتى الضحى.

" ضحى ! ترى هل أفاقت مثله أم مازالت تحلم به ؟»

عاشا حلمهما المشترك منذ سنة تقريبا، ارتويا من نهر المحبة الصرف دون أن يلتقيا حقيقة فهو مقيم خارج البلاد و سيعود آخر هذا الصيف..سنة تساوي الكثير من الأعوام فهما لم يفترقا فيها إلا لماما. يخرج الى العمل كل يوم و يعود إلى بيته ملهوفا فيجدها في انتظاره ليتقاسما كل أشيائهما عن بعد، يأكلان معا و يتحدثان في كل شيء تقريبا . كان يشعر نحوها بحب جارف لا يستطيع منه فكاكا.
فتاة ذات جمال بالغ و مثير، شقراء كتلك التي كانت تأتيه في الحلم وهو ما يزال مراهقا يرسم صور النساء في مخيلته كما يشتهي. أحب شعرها الطويل الذي تشكله كل يوم بطريقة مختلفة و عينيها الزرقاوين كموجة رائقة في صباح صيفي ، لم يكن يقدر على النظر إليهما دون أن يرتبك و يتلعثم لسانه، اخترقتا عقله و قلبه منذ اللحظة الأولى فقرر الارتباط بصاحبتهما إلى الأبد.

هو شاب يشارف على الأربعين، أنفق آخر خمس سنوات من عمره مع عجوز أوروبية غنية أحبته و كتبت له كل أملاكها بعد أن تزوجها و ضمنت في العقد أن لا يتمتع بثروتها إلا بعد وفاتها. و ها قد ماتت .

حزن لوفاتها ثلاثة أيام بكاها فيها بكاء حقيقيا لطيبة جبل عليها و في اليوم الرابع عاد لحياته و لشبابه بسرعة من يريد تعويض الزمن الذي هُدر..فتح هاتفه و بدأ يبحث عن أنثى تنسيه شظف السنوات الخمس المهدورة من عمره و تعيد إليه شبابه .انثى جميلة بمواصفات محددة تنسيه غبنه السابق و اعترضته صورتها على أحد المواقع و لم يتردد في التواصل معها فهي جميلة بما يكفي ليكون كل يوم معها عمرا جديدا و لم تمانع و قد رأت وسامته و سمعت عن ثروته .

دون أن يفتح عينيه أرسل يده تبحث عن هاتفه و تتحسس الأريكة حيث ينام، لا يدري متى نام و لا كيف انتهت المحادثة.امتدت يده إلى هاتفه كما تمتد لأنثى لا تؤخذ إلا بشغف و رفق و فتحه على محادثتهما الليلية و قد تأججت فيها نار الوجد و ارتسم الشوق نابضا ينشد اللقاء القادم الذي طال انتظاره .

- أخيرا سأعود و أراك و ألمسك و أقبل عينيك الزرقاوين، لا أكاد أصدق أن هذا سيحدث !

- مثلك أنا حبيبي أنتظر على الجمر هذا اللقاء لأصدق أنني لا أحلم.

أخذته الحماسة و الحب فقال لها:

- أخبري عائلتك أنني سأزورهم لطلب يدك سنتزوج بسرعة لتنجب لي أبناء بمثل جمالك..

كانت سعيدة لقراره.. انتظرته كثيرا ، فهو فارسها الذي سيغير حياتها الرتيبة و يحملها على جناح الحب إلى بلد آخر وهي التي لم تحلم أبدا حتى بمغادرة قريتها الصغيرة .

أضاف قائلا :

- علينا أن نلتقي قبل ذلك وحدنا .

و لكنها لا تعرف كيف تلتقي به وحدها بعيدا عن أعين إخوتها و معارفها . كان اللقاء الافتراضي أكثر سهولة و يسرا من الواقعي لهذا أمضت سنة كاملة من عمرها على هاتفها الذكي تتحادث معه في كل الأوقات دون مشاكل و لا رقيب أما الآن فالأمر مختلف ..قالت بعد صمت :

- لا أستطيع أن التقي بك و أنا وحدي ، أخبرتك أن عائلتي محافظة و لن تتركني أفعل .

- حاولي معهم، علينا أن نقضي يوما أو يومين مع بعضنا لنتآنس في الواقع كما تآنسنا في الافتراضي، هذه خطوة لا بد منها لننتقل إلى المرحلة القادمة. لا تنسي أننا لم نلتق مباشرة أبدا.

كان عليها أن تفعل بسبب إصراره و لكنها خائفة من هذا اللقاء و تحسب حسابه منذ أن قرر العودة ..

طمأنته إلى أنها ستحاول مع أمها لكي تجد طريقة للقاء بعيدا عن الأعين فلا يمكنه أن يأتـي إلى بلدتهم و لا يمكنها الذهاب إليه..اتفقا أخيرا على اللقاء في نزل بإحدى المدن الساحلية و أن يقضيا ليلة معا في وجود خالتها فأمها لم تكن لتفوت على احدى بناتها هذه الفرصة خاصة و ان العريس غني و يقيم بالخارج..

من الغد ،و هو يدخل إلى الفندق كان يشعر أنه ما يزال محلقا في سماء الشوق و اللهفة اللذان أضنياه منذ أن عرفها.

ذهب الى عون الاستقبال يقدم نفسه و يسأل عن الحجز الذي تم تأكيده لغرفته و غرفة حبيبته و خالتها. تسلم مفتاح غرفته و طلب من العون إعلامه بوصول الفتاة و خالتها و قد كانا في الطريق.

كان حريصا على أن يستحم و يغير ثيابه قبل وصولها لتلقاه في حلة تليق بها .

حين رن هاتف غرفته و هاتفه في نفس الوقت كان ينزل درجات السلم وهو يكاد يقفز ليصل اليها و هو لا يكاد يصدق أنه سيراها أخيرا ، سيحتضنها و يقبلها حتى أمام خالتها لن يتمكن من التحكم في مشاعره في هذه اللحظات التي شاهدها في أحلامه و رسم لها تفاصيل كثيرة لن يفرط في أي منها .

جال ببصره في البهو باحثا عن حبيبته فلم يرها .كان البهو مليئا بالنزلاء رجالا و نساء يتبادلون الأحاديث و يضحكون .على أحد الصالونات جلست امرأتان رأى في إحداهما شبها بضحى رغم أنها تضع على عينيها نظارات شمسية، فاقترب منهما مترددا. ما إن رأته حتى وقفت مبتسمة وهي تمد يدها إليه مسلمة بارتباك اللقاء الأول:

- أهلا هيثم!

تفرس فيها جيدا و هو يمد يده دون تركيز.

- أهلا بك ، أنت ضحى ؟

- طبعا ألم تعرفني ؟

تلعثم صوته و اهتز حائرا و هو يقول :

- لا طبعا عرفتك هذا صوتك لا يمكنني أن أنساه و لكنك مختلفة قليلا، لست أدري..

- هو بعض التعب بسبب السفر و سيزول عندما ارتاح .

سحب يده من يدها و دعاها إلى الجلوس بعد أن سلم على خالتها و رحب بها ثم استدرك قائلا:

- اذهبا إلى غرفتيكما و ارتاحا قليلا لنلتقي على الغداء.

بعد أن أوصلهما، حملته ساقاه إلى الصالون غائم القلب و النظر..

" أكاد لا أعرفها، ليست هي.. لا يمكن أن تكون هي، حبيبتي شقراء بشعر ذهبي طويل و هذه تميل بشرتها إلى اللون الأسمر و شعرها بني و قصير، لكنها هي عرفت صوتها لا يمكنني أن أخطئه "..
مادت به الأرض و لم يصدق ما رآه فبقي ساهما شارد النظرات لا يكاد يتحرك من مكانه.

في الغرفة كانت ضحى منزعجة، أحست بصدمته أمام شكلها الذي تغير قليلا عما كان عليه في الافتراضي . ملأها الارتباك و الخشية من أن يغير موقفه و نظرته إليها و قد كشف كذبها .. لا لم أكن أكذب ، كنت أتسلى و أتجمل ككل البنات و عندما صار الأمر جديا ها أنني أكشفه بنفسي ..

البارحة قالت لخالتها و هي تستعد للقاء :

- سأقابله دون رتوش ، عليه أن يتقبلني كما أنا ، سنصير زوجين و سيراني بشكلي العادي .

احتجت خالتها و قالت:

- كان عليك أن تخبريه بذلك منذ البداية و قبل اللقاء.

- هو يعرف أن الأشكال التي تبدو بها البنات على صفحات التواصل ليست حقيقية بنسبة كبيرة فالتكنولوجيا أتاحت لنا أن نتجمل كما نريد و أن نبدو بأشكال مختلفة و هذا ما كنت أفعله ..أما و قد صار الأمر جديا فعليه أن يراني كما أنا دون تزييف.

- أخشى أن لا يفهمك و يفسد الأمر.

نظرت إلى خالتها بحيرة وقالت:

- أعرف أن هيثم يحبني كثيرا و سيتفهم هذا الأمر.

عندما أرسل إليها دعوة الصداقة و قد رأى صورها الجميلة على صفحات التواصل قبلته كما تقبل كل الدعوات ، كانت تلك تسليتها الوحيدة و قد انقطعت عن الدراسة و بقيت في البيت تقوم بشؤونه مع أمها و تهتم بإخوتها الصغار..لم يملأ فراغات يومها إلا هاتفها الذي وصلها بالعالم الخارجي فوالدها المحافظ لا يقبل أن تتواصل مع أحد خارج البيت ..بمرور الزمن عرفت خبايا التكنولوجيا و أتقنت أسرارها فصارت تصنع لنفسها أشكالا مختلفة استقرت في النهاية على شكل الشقراء الساحرة التي تخطف الألباب فصارت الدعوات تنهال عليها و يتغزل أصحابها بجمالها الصارخ ..كان ذلك يرضيها و يعوض لها الكثير من تعاستها و قد بدأت تستشعر ثقل الزمن ، إلى أن توطدت علاقتها بهيثم و صار يحادثها في كل وقت و في كل محادثة يتعلق بها أكثر ، كان لا يمل من الحديث عن جمالها فقد تجسد فيها حلمه ، لهذا لم ترد إخباره في البداية بأنها ليست بالضبط كما تبدو عليه في الصور حتى تضمن أنه ،إن تعلق بها فسيتقبلها كما هي و تركت لكل حادث حديث ..

عند الغداء كان هيثم قد هدأ قليلا و بدأ يقنع نفسه بأنه أحبها لروحها أكثر ممّا أحبها لشكلها ثم إن شكلها ليس سيئا فما المشكلة إذا اختلف لون شعرها أو قَصر عما رآه أو أن تكون بشرتها مسمرّة قليلا، لقد خططا لزواجهما و هما متفقان في النظر إلى أغلب الأمور و هذا هو الأهم في الحياة الزوجية .
قرر أن يتقبل الأمر و يعوّد نفسه على ألوانها الجديدة فهو يحبها و لا يستطيع الاستغناء عنها رغم صدمته ..
ابتسم لها وهو يساعدها على الجلوس ثم يجلس قبالتها فاطمأنت نفسها و عرفت أن حبه لها استطاع المقاومة و انتصر في النهاية. وضعت هاتفها أمامها ثم نزعت نظارتها الشمسية عن عينيها و شبكتها فوق شعرها عندما سمعت هيثم يصيح بصوت مذهول وهو ينظر إلى عينيها السوداوين و يغادر الطاولة ثم الفندق وهو يقول :
- لا ! إلا هذا يا ضحى ! إلا هذا ! لن أقبل بك دون عينيك الزرقاوين و إن مت !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى