إبراهيم عدنان ياسين - قلعة الرمل

مياه البحر المالحة لم تعد تتّسع لمزيد من الملوجة القادمة من قناته الدّمعية. لم يفهم حتى الساعة لماذا يصرّ أبواه على اصطحابه إلى الشاطئ ظنّاً منهما أن ذلك قد يفجّر بعض الحيوية في دواخله المحطّمة، فإذا بجلسات البحر هذه تنقلب إلى جلسات تعذيبٍ متكرّرة وكأنّ جلسته الأبدية على الكرسيّ المدولب لا تكفيه حسرةً ومعاناة.

أخذ يُبحر بالذاكرة إلى الماضي البعيد. كلّ ما يتذكره عن قدميه المشلولتيْن كان بضع ومضاتٍ سريعة كقفزةٍ طفوليةٍ داخل حقلٍ ما، ثمّ ركلةٍ لكرةٍ جلديّة حطّمت إحدى المصابيح قبل أن يفتك به ذلك "الشيء" الذي أقعده على حين غرّة. كلّ ما يذكره عن ذلك "الشيء" كان بضع زياراتٍ إلى المستشفى، مع بضع عباراتٍ غير مفهومةٍ من الطبيب، تلتها بضع دمعاتٍ حارة من والدته أتبعتها جلسةٌ طويلة خانقة لم تعرف أحذيته بعدها ملمس الأرض مطلقاً.

"صاحب الحذاء النظيف"، هكذا كان يلقّبونه أطفال الشاطئ وهم يطبعون بصمات أحذيتهم وأقدامهم العارية على جبين الرمل. لم يستطع تحديد ما إذا كانت التسمية تنمراً أم مواساةً غير مباشرة عبر الإشادة بأناقة حذائه الذي لن يطأ الرمال أبداً. أحسّ بمزيدٍ من السخونة فوق خدّيه نتيجةً لانهمار المزيد من الدموع لرؤية أقرانه وأقدامهم الطفولية وهي ترسم على الشاطئ طوقاً حول قلعةٍ رمليّة كانوا قد شيّدوها تباعاً قبل أن يقيموا حولها رقصتهم الإحتفالية.

عاد أخيراً إلى المنزل محمّلاً بالكثير من الأحزان التي اعتاد كاهله عليها. استسلم لمصيره ظناً منه أن ذلك قد يُسكت بكاءه الداخلي الذي مازال يستعر بصمت. هاج البحر في تلك الليلة وثارت الأمواج على سواحلها. أخذ يراقب العاصفة من النافذة لعله يبتعد معها بأفكاره عن واقعه الأسود.

انتظر الجميع هدوء العاصفة، وفدوا إلى الشاطئ، وهناك على الرمال المتعبة، وحده كان دون سائر الأطفال لم يبكِ على قلعة الرمل المهدّمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى