تماضر كريم - البداية من البحر..

بكل هدوء، وبصوتٍ واطىء، أخبرني أنه في آخر رحلةٍ له إلى دمشق، تزوج امرأة سورية، منذ حوالي سنة، وإنها على وشك وضع طفلهما الأول. لكنه تلعثم قليلا، عندما قال وهو يتجنب النظر إلى عينيّ أنه ينوي السفر معها إلى أوروبا.
لا أذكر أننا تحدثنا كثيرا. في ذلك الأسبوع الذي قضاه في إتمام أعماله،و تجهيز نفسه للسفر.
كان يتعمد العودة في وقت متأخر. يذهب فورا إلى غرفة الولدين. عرفت فيما بعد أنه كان يطمئنهما بأنه سيكون قريبا دائما.
لم أنس ذلك اليوم، ليس لأنه كان ممطرا بغزارة، ولا لأن قدم إبني البكر (أمين) تعرضت للتمزق العضلي أثناء الركض في المدرسة، ولا حتى بسبب إحساسي بالعار وهو يناولني مفاتيح سيارته الغالية، مذكرا إيٌاي بأن البيت صار ملكي، مع مبلغ من المال. لم أستطع نسيانه لأنه قبل أن يغلق الباب همس وإحدى قدميه في الخارج (ستصلك ورقة الطلاق قريبا ..لكي تعيشي حياتك).
لم يكن العيش من دونه صعبا إلى ذاك الحد. عدا إن اليوم الأول كان عليّ حمل إبني إلى السيارة،وفي المشفى، تجرّعت رؤيته يتألم تحت كفيّ الطبيب الذي راح يبحث عن موضع الألم.
عدا ذلك كانت الأيام تمرّ بتعاقبٍ حياديٍ وقاس. لازلت أصحو مبكرا، آخذ الولدين إلى مدارسهم، ثم أذهب لعملي كمصممة برامج في شركة هندسية. وفي المساء كنت أعدّ لهم الوجبة التي يحبان. لا أذكر أننا كنا نتحدث أو نمزح كثيرا. كنت اسألهم فقط حول واجباتهم المدرسية، قبل أن أنسحب أخيرا إلى غرفتي.
أحببت كثيرا ذلك الوقت بعد العشاء، إنه وقتي المفضل، حيث أنعم باسترخاء كبير، اتمدد على فراشي، أقرأ قليلا. أشرب القهوة، وأدخن أحيانا.
عندما أفتح هاتفي، كثيرا ما كنت أراه، مع زوجته ذات الشعر الأشقر القصير. لطالما أحب التقاط الصور، ونشرها في هذا الموقع أو ذاك. إنه يحب إيصال رسائل من نوع ما إلى أصدقائنا وأهلنا، كان يفعل ذلك قبل أعوام، عندما كنا نقضي الساعات معا تلو الساعات.
هي لا تعرف كم كان جميلا آنذاك. وكم كان شعره -الذي أخذ بالتساقط الآن- كثيفا ومشاكسا، حتى إنه ربطه مرة إلى الوراء في تقليعة وجدها مسلية. ولا زلت أذكر كم ضحكنا على حركته تلك.
في كلّ ليلة، كنت أحب كثيرا رؤية مقاطعهما الفيديوية وصورهما قبل أن أنام. لم أشعر بالسوء أبدا. أنا نفسي تعجبت من اللذة الغريبة التي كانت تنتابني وأنا أشاهدهما معا. يلعبان بالثلج.. يتسوقان برفقة طفلهما..يسيران تحت المطر.. كانت تلك لذة تشبه الركون للإحساس الكامل بالظلم والأسى والعذاب. حتى أصبحت تلك عادة لا غنى عنها.
في مساءٍ ما، وكان قد نشر لهما مقطعا وهما على مائدة الفطور في إحدى المدن الباردة، بدا مريضا. دائما كنت أعرف عندما يمرض من غير حتى أن يقول. وجهه يشحب وشفتاه تبيضان. اعتقد أنه لم يتغير بخصوص أخذ الدواء. إنه من ذلك النوع الذي يكتفي بحبّة واحدة.
كنت ألحّ عليه أنا لكي يكمل دواءه.
‏لكن لا شيء يبقى على حاله. حتى أنا قصصت شعري البنيّ الطويل، وأزداد وزني بضعة كيلوات. وصرت أكره النزهات مع الأولاد، والصديقات.
‏لم تكن الأيام تمر بالسرعة الكافية.
‏تأكد لي أن للأمكنة لعنتها التي تلاحقنا، لذا قررت تغيير المنزل والمدينة. خطر لي أن السفر فكرة مناسبة، وكانت تركيا وجهتي. احتجت أسبوعا واحدا لإنجاز ما يهمني. حرصت على أن يكون أسبوعا، كما فعل هو تماما. كنت أعرف أنه سيسأل عن الولدين. إعتاد أن يكلم أمين كلّ يوم جمعة. يتحدثان معا ساعة كاملة. حتى زوجته تكلّم أمين بلهجتها السورية. تلك اللهجة التي كان يستلطفها كثيرا. أظن أنني لم أنتبه لميله إلى الزواج من امرأة عربية، وهو كثير السفر، كثير المال. فيما بعد تذكرت تلك العبارات التي يمرّرها بين فترة وأخرى، عن ثقافة النساء المغربيات، وقوة النساء اللبنانيات، وجاذبية المرأة في تركيا، وكفاح المرأة المصرية وجمال النساء في سوريا.
‏الآن، تحضر رحلاته المتكررة في عقلي آنذاك. واختفاء الأموال، واستغراقه في التأمل. لم أفهم وقتها أنه كان يعيش قصة حب ستأخذه منّا للأبد. لست واثقة إن كان أحبّها بذات الطريقة التي أحبني فيها. هل قال لها أنها حبُّ حياته، وإن مجرد مرورها في خياله يجعله سعيدا وشغوفا، كما كان يخبرني.
‏تحضر كلّ ساعاتنا الحلوة في رأسي، عندما بدأ شغفنا بالكتب، وحبّنا للحياة، وفيما بعد مشاريعنا وثروتنا التي جمعناها، وخططنا التي وضعناها، فصارت هباء.
‏على شاطيء البحر، منزلنا الجديد.
‏في اليومين الأولين كان أمين عابسا، لكن صديقا واحدا من أولاد الجيران كان كافيا ليبدل حزنه بالفرح والبهجة، وينسيه- ولو لفترة ما- حتى اتصال أبيه. صممت أن أجعل الإتصال به مستحيلا.
‏قررت أن السعادة التي حصل عليها حتى الآن كافية تماما. لا يمكن أبدا أن نحصل على كلّ شيء. نحن شركاء في هذه السعادة وهذا الجحيم.
‏على الساحل كنت أراقب أمين يقذف بالكرة إلى صديقه، وكان شقيقه يحاول اللعب معهما ايضا، لكنهما لم يرغبا بوجوده، فقط لأنه كان صغيرا. طلبت من صغيري أن نبني بيتا من الرمال. هكذا سأبعده عنهما بطريقة لن تسبب له الأذى.
‏كانت يداه الصغيرتان مذهلتين في البناء. خطر لي أننا مهما بنينا فإن كل شيء سيهوي في النهاية. تماما مثل بيوت الرمال.. ‏إن لم يهدمها قانون الطبيعة الصارم فسوف يهدمها الملل( هيا يا صغيري لننادي أخاك و ندخل إلى المنزل).
‏على الساحل ثمة سكون مباغت وقد تلبدت السماء بسحب كثيفة.
‏كان عليّ إيجاد أمين وصديقه قبل أن تمطر. فكرت أنهما سبقانا إلى المنزل. ذهبت مهرولة هناك، بحثت في جميع الأرجاء، لكنهما لم يكونا موجودين. لم يبق سوى العثور عليهما في بيت صديقه.
‏في الطريق بدا البحر الكبير أمامي فاغرا فاه، باطشا وجبارا. تسارعت نبضات قلبي وتملكني خوف عجيب، ورغبة في التقيؤ، والصراخ. تلك المسافة إلى بيت صديقه، كانت كافية لجعلي استعيد حياتي السابقة، بكلّ خساراتها. كلّها مرتْ أمامي وشعرت بسُخفها، وبشاعتها في آن واحد.
‏لم أطرق الباب، الأشياء التي تعتمر في قلبي كانت كافية لدفعه دون مبالاة. لا أذكر ماذا قلت، لا أذكر شيئا أبدا سوى وجوده هناك ينتظرني، متكورا على نفسه بسأم.
‏في طريق العودة، كنت أمسك بكفّه،وأقبلها بين دقيقة وأخرى. كنت قد شرعتُ للتو أفكر في البدء من جديد.

تماضر كريم


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى