تماضر كريم - مجنون..

إبتسمتُ برضاً لكلّ شيء، لشكلي الذي قالت عنه أمي إنه مبهر،
للبرودة الخفيفة التي أستشعرها، للسُحب الخفيفة التي تتجمع برقة في السماء الهادئة، حتى إسفلت الشارع تحت حذائي كان وادعاً ومهللاً، كما لو أنه يبارك خطواتي الحثيثة. لم يكن يفصلني عن عملي الجديد كمديرة تحرير سوى مقابلة اليوم، ليس هناك منافسون كُثُر، زميلة واحدة فقط يقول عنها أصدقائي أنها أدنى مني موهبةً وجمالاً.
لفترة ما، سار كل شيء على نحوٍ من الكمال، لكن في المشاهد الكاملة، ثمة شيء لا ينتبه إليه احد، يبزغ من زاوية عصية، مثل إصبعٍ سادسة، لا نعرف ماذا نفعل بها.
هكذا كأن الأرض قذفت به من جوفها، أو أتت به من شارعٍ فرعي، أو ربما خرج من أحد المنازل، ذلك ما لم أفهمه تحديداً...من أين أتى ذلك الرجل ذو الملابس الرثة، واللحية الغزيرة، والخطوات المترنحة، يا للعجب! كان واضحاً أنه يكلم نفسه بصوتٍ عال.
إنه ببساطة رجل مجنون، لطالما اعتقدتُ أن المجنون أكثر خطراً من كلبٍ شرس، أو حتى ذئب، بل أشد خطورة بالنسبة لي من قنبلة قد تنفجر في وجهي! بانَ بما لا يقبل الشك أنه يتجه نحوي، لأول مرةٍ يبدو الهدوء مفزعاً على هذا النحو، وفراغ الشارعِ شاسعاً راسخاً، أبداً لم يبدُ لي أن ثمة مؤشر على وجود حياة بهذا الكوكب، ليس ثمة شيء...ليس ثمة أحد!
تتقلص المسافة بيننا، ويعلو صوته أكثر، وتزداد حركات يديه حدة، كأنه يتشاجر مع أحدٍ ما في ذاكرته، لكن قدميه تأتيان به إليّ، في خطٍ متعرج، ومع اقترابه غشيتْ حواسي رائحة تسببت لي في الغثيان، لا أعرف كم أصبحت المسافة بيننا، لكن بات جلياً أنه توقف قليلاً، كأنه يفكر ماذا يصنع،
أو ينتظر ماذا أفعل، كلا لن أكون مغفلة لأختار الهرب، حينها سيعرف أني خائفة، عليّ أن أكمل سيري بهدوء، أتذكر أني فعلتُ ذلك مرة مع الكلاب السائبة، حيث تظاهرتُ بالهدوء، متجاهلة نباح كلبين لحقا بي، لكني لم أركض، كنتُ أكتم فزعي، وأسير بثبات، لأن أبي أخبرني مرةً أن الركض أمام الكلاب يجنّنها، عندما نجوتُ من الكلبين، لازلتُ أذكرُ أني بكيتُ بحُرقة. بدأ الرجلُ المجنون يدور حولي، مواصلاً حديثه، لكن هذه المرة ليس مع الشخص في خيالهِ، إنما معي، لم يكن حديثاً بالمعنى المعتاد، كان يكيل لي الشتائم، شتائم لم اتخيل يوماً سماعها، فيما تقلصت المسافة بيننا بدرجةٍ وصلت فيها رائحة فمه، وباتت الصُفرة في أسنانه شديدة الوضوح. رفع صوته وهو يسبّني بنبرة كادت تصم أذنيّ، حتى إن بعض اللعاب تطاير في وجهي، أحطتُ رأسي بيديّ، لم أكن أريد رؤية أو سماع شيء، حتى لو كان هذا المجنون يتألم ويعاني من شيء ما حصل له في الماضي لكني أردته أن يموت، أن يختفي، أن يتلاشى تماما، ماذا لو خرج شخصٌ ما من أحد المنازل الآن لينقذني؟
تراجع المجنون قليلاً، بدا لي أنه يلتقط أنفاسه، ثم فتح كيساً بحوزته وراح يقضم كعكة وهو ينظر لي بريبة ويسبقني بخطىً قليلة، بعدها راح يضحك ويطلق شتائمه الجنسية.
إلتفتُّ إلى الوراء، بالكاد رأيتُ باب منزلي، نظرتُ إلى الأمام، بالكاد أرى الشارع الرئيسي حيث حركة السيارات، أنا في المنتصف تماما، وحُلُمي معي، هنا يقطنُ حيث لايمكنُ للمجنون أن يمسّه، تذكرتُ الكتب التي قرأتها عن النضال والصمود، أحببت كثيرا ذلك النوع من الكتب، كانت تمدّني دائما بالعزيمة، لكن أياً من تلك الكتب لم يذكر كيف نواجهُ شخصا مجنونا في شارعٍ فارغ! لكن تباً..ماذا لو كان هذا الشارع عالماً، والمجنون هو القدر!
كلّ ما عليّ فعله هو الصمود أولاً، ثم تحدّيه، وإعلان النصر. كدتُ أبتسم للفكرة لولا ضحكته التي دوت قريباً مني، ويده التي باغتتني، إنه يريد إيقاعي أرضاً، فكرت أن أدفعه وأعدو بكلّ قدرتي على الركض، لكن وصية أبي بعدم الهرب تحاصرني! ماذا لو كان هذا المجنون أسرع مني، وأقوى جسدا؟ حينها سيمسك بي ويقتلني، بهذه الحجارة الكبيرة التي يلوّح بها الآن، حجارة من الأسمنت ذات حواف حادة، هل سيكون موتي هكذا، مقتولةً في الشارع على يد مجنون!
إنه الآن خلفي، لا أعرف بماذا يفكر! لكن مهلاً، لِمَ أنا خائفة قد يكون هذا المجنون مسالماً، كل ما يفعله هو كيل الشتائم. لم تكف أمي عن إخباري أن الصالحين تحصل لهم أمور جيدة، وإنهم ينتصرون حتماً، تقول لي إنها سنّة الكون بالضرورة، أنا فتاة صالحة، أنا طيبة، عليّ أن أكرر هذا كثيرا..أنا طيبة...أنا صالحة.. والصالحون تحصل لهم أمور جيدة..للحظة لم أفهم لماذا فقدت اتزاني، وانقذف جسدي للأمام بتلك القوة المباغتة، عندما شعرت بالألم في وجهي، وركبتي، عرفتُ أنه دفعني بكلتا يديه، بصقتُ التراب والحصى الناعمة من فمي، وحاولتُ الوقوف، بينما ملأت ضحكته الفراغ من حولي. فكرتُ أني يجب أن أتحلى بالشجاعة، سأهربُ، وأقاومهُ إن حاول اللحاق بي، هكذا مثل محاربٍ وقع بين البحر والعدو.
سأضربُ وجهه بحقيبتي، أفاجئهُ ثم أعدو..أعدو بكلّ طاقتي. في الصف الثالث المتوسط أحرزت المركز الأول فى مسابقة العدو، لازلتُ أملكُ لياقتي،
لو نجحتُ سوف أدون هذا اليوم مع الأيام التي لا تُنسى، وأضحك حد البكاء، ربما سألحقُ موعد المقابلة! تخيلتُ زميلتي الآن جالسة تجيب عن الأسئلة، بلا منافسة أخرى...ثم يباركون لها المنصب الجديد.
لازال المجنون يلوّح بالحجارة، ويُخرِج من فمه أصواتاً حادة، وضحكات متقطعة، ويسير مرة إزائي وأخرى حولي، فيما كنت أحتضن الحقيبة بيدين راجفتين وقلب يخفق، شرعتُ أعدُّ..واحد.. إثنان...عند العدد عشرة سأضرب وجهه بالحقيبة وأهرب، بكلّ هذا الألم الذي يفور، عشرة...لم أتصور أن يدي ستخذلني، فاجأني حجم الألم الذي فيها بسبب سقوطي على الأرض، لم يرتبك أبدا كما توقعت، وراح يعدو خلفي، في نهاية الشارع قد تكون مدرّستي هناك وسوف تصفق لي، وتقبلني، ثم تسلمني الكأس، لن أبكي من أجل المنصب الضائع أبداً، لن أحزن لأن الصالحين لم يحصلوا على مزايا، ولن اتسائل بخصوص جدوى الثبات أمام الكلاب، سأفرح فقط لو بلغتُ الشارع الرئيسي حيث الكثير من المارة، لمستْ حجارته ذراعي، شاهدتها تهوي على الرصيف، لم آبه كثيرا لتمزّق قميصي، ولا لخطواته التي تكاد تقترب مني، كنت أعدو وأعدو وأعدو، والجميع أمامي يحثونني، والكأس يتلألأ أمام عينيّ.
عندما مدّ يده اخيراً، ليمسك بي، كانت ثمة أياد أخرى، تبعده عني، لم أشفق عندما ضربه أحدهم بقسوة.
نظرتُ إلى ساعتي، ثمة وقت بعد،
سأخبر المدير بما حصل لي، عندما يراني سيفهم ويشفقُ عليّ، وسوف أفوز، الأخيار دائما يفوزون كما قالت أمي.
لم أهتم للنظرات الذاهلة والمتسائلة لملابسي الممزقة وشعري المنكوش ووجهي المليء بالكدمات.
كنت أسير بخطىً ثابتة نحو غرفة المكتب. كدتُ أدخل لولا أنها خرجت فجأة بابتسامة كبيرة، وعينين شغوفتين.
إستدرتُ بسرعة نحو باب الخروج، في البداية كنت أمشي..أمشي ببطىء، ثم بخطوات متسارعة، بعدها رحتُ أعدو .. أعدو باكية كأن مجنوناً يطاردني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى