د. سيد شعبان - الملك لك يا صاحب الملك...

يدق جرس هاتفي كل ليلة عند الساعة الرابعة إلا ثلث؛ حاولت أن أوقفه مرات عديدة عن هذه العادة الآلية لكنني عجزت، تركته يفعل ما يحلو له، فقد الناس السيطرة على حواسهم؛ يخشون ذلك الوباء الذي يحوم حولهم؛ فكل الأشياء من حولي تتحرك بل وتتابع دون إرادة مني؛ يأتي مطر ويضرب إعصار؛ حتى القطط والكلاب تغادر وقتما تشاء لا تراعي ودا ولا تحفظ معروفا.
انتبهت إلي؛ لاتنام إلا قليلا من الليل منذ أن ارتحل الطيب إلى العالم الآخر تقص علي حكاياته بل صارت تسمع أصواتا بالبيت غير مألوفة لي؛ نادتني: هل كان بحجرتك أطفال صغار؛ ترى مالذي أصابها؟
هل تعني أن هاتفي يصدر صخبهم وعراكهم؟
تلفت حولي كل ناحية؛ لم يعد بالبيت غيرنا؛ كلانا يدرك كم نعاني من الوحشة والاغتراب!
رجوتها ألا تحكي عن هذا أبدا؛ أخشى أن تظن بي زوجتي ظن سوء؛ لست ممن يرمون بنظراتهم بعيدا؛ غادرت عالم الليالي المخملية منذ سنوات.
يعاني الرجال من الجفاف في تلك السن؛ إنهم متبلدون لا يفلح معهم دهن العطار ولا حيل البهلوان؛ باتت النساء تعانين ملوحة لا يصلحها ماء النيل حيث ألف سد من وراء السد.
أتساءل:
هل ضربها الخرف في هذه السن التي صارت ذاكرة الناس أوهن من بيت العنكبوت؟
أوبئة ومجاعات تحاصرهم؛ يبقى لنا من دعاء آبائنا حجاب من كل هذا البلاء.
أعذتها بالله من الشيطان الرجيم؛ إنه صوت منبه الهاتف، لم تقتنع، عليك في المرة القادمة أن تطعم القطة البيضاء؛ إنها تؤاخي الجن، لا تجوعها بل لاتطردها.
حاولت ألا أزعجها؛ مشيت على أطراف أصابعي؛ الأمهات يعرفن حيل الأبناء بعدما يحتفظون بزوجات ينشب بينهن وببن حمواتهن شجار لا تخمد ناره، طلبت مني أن أفتح نافذة البيت الخلفية، قوم يأتون بالليل، يحتاجون أرغفة الخبز وحبات الفاصوليا البيضاء؛ تعد طعاما كثيرا وتترك نافذة حجرة الطعام مشرعة.
تقف بومة عجوز أعلى شجرة المانجو قبالة مدخل البيت.
تقول: إنها تترصد الفئران، تميل بأذنها جهة اليسار مرة فتحرك جناحيها؛ تحتضن صغارها وتلقي إليهم بنصائحها، على بعد مسافة لا تتجاوز خمسة أمتار تورد نشرة الأخبار تحذير هيئة الأرصاد الجوية من ذلك الإعصار القادم، أسراب الجراد القادمة من الصحراء الكبرى.
كنتها تغافلها أكثر من مرة؛ تختلس منها عبوات السكر وقنينة الزيت المدعوم؛ لم تكتف بهذا؛ تتهمها دائما بأنها تسلبني منها.
تصيبها الدهشة حين وجدت المحمر ترامب ذلك الرجل يمتلك شيفرة القنابل النووية؛ يضع قناعا واقيا على أنفه وفمه؛ يتوسل إلى الرب أن يقي بلاده شر جرثومة لعينة.
أخبرتني بعدما اعتدلت في جلستها وأخذت تحتسي كوبا من الشاي: هذا يا ولدي شغل حاو يتلاعب بنا.
يبدو هذا عجيبا؛ كيف لها بمعرفة كل هذه الأنباء؟
هل تراها آخت جنية تواتيها بالأخبار كل آونة؟
لم تكتب يوما في ورقة ولم تسمع غير إذاعة القرآن الكريم وابتهالات نصر الدين طوبار.
تمسك بمسبحتها ثم تغمض عينيها؛ تظل اليوم تعتاش على كسرات من الخبز مغموسة في الماء؛ بت مقتنعا أن أمي مباركة أينما ذهبت مصدقة، متى قالت!
تموء القطة عند منتصف الليل؛ تأمرني أن أحضر حساء العدس وأغمس فيه كسرات من الخبز؛ يجب أن يكون ساخنا؛ فهي تحمل إليها نبأ جديدا، تضرب البومة بجناحيها وتخرج صغارها؛ تفر هاربة؛ يبحثون عن السر الذي تخفيه عنهم أمي في ذلك البيت الحجري العتيق.
تحليل سردية د.سيد شعبان
"الملك لك يا صاحب المللك بقلم :
د.محمود المهدى
التناول النقدي أوالتحليل الفني للنص هو نص موازٍ، لا يقل عن النص الأصلي في التصريح بكل أعيانه، بل - أحيانا -تلتمع به ما وارته السطور من مرموزات؛ فيشرعها كفلق الصبح.
بداية العنوان "الملك لك يا صاحب الملك" يوحي بالروح الإيمانية للمصريين حين تنزل بهم النوازل؛ فلا يكون منهم إلا التسليم لأمر الله سبحانه وتعالى والامتثال لأمره، كما يعكس مدى تمكن التسليم بالقضاء والقدر من أنفسهم،وعدم الضجر حتى في أحلك الظروف.
أما السرد في جملته فهو عبارة عن محطات تتباين في وجهتها ، وتتفق في غايتها؛ وربمايكون ذلك انعكاسا لحالة الخوف المسيطر بسبب ما ذاع وانتشر من سرعة انتشار " كرونا"فجاء السرد سريعا منعزلا كهبات الخوف التي تعتري وجداننا من آن لآخر ، إلا أنه يسلكها جميعها خيط دقيق - الذعر والخوف - لا يُدْرك ابتداءً لاصطباغ السرد بالرمزية.
والسردية مبناها على الرمز في محطاتها المختلفة ؛ حيث يعد تكرار دق التليفون في ساعة متأخرة من الليل رمزا للخطر المحدق بِنَا هذه الأيام، وما ينتج عنه من فوضى وهلع في قلوب الناس، وكأن دقاته السابقة إشارة لما ابتليت به مجتمعاتنا سابقا من جوائج لا تقل عن كرونا مثل: إنفلونزا الخنازير والطيور .... ، ولم يصدر منا وسيلة واحدة للتحكم فيها؛ ففوضنا فيها الأمر لله!، وقد أعيتنا - نحن الضعفاء - الحيل، وكلها هناك خلف هذا المحيط مع هذا اللعين- ترامب - الذي يحرك العالم بجنونه، كما يحركنا هذا الوباء بهلعه من آن لآخر، ثم تراه يصرح بما تزامن مع هذه الجائحة من أعاصير وأنواء، وكأن الكاتب يذكرنا بأنها رسائل لنستعيد علاقتنا مع الله، ونحسن من حالنا معه .
ويتعلق بما سبق مرموزة أخرى؛ حيث تلك القطط والكلاب التي تأتلفك في وقت رخائك، وتغيب عنك إذا ضربتك الشدة، وهذا انعكاس لسياسة النفعية التي تحكم العالم وتسوده.
وعلى الرغم من أن الكاتب منفعل بما يموج به المجتمع، إلا أننا نراه ينكص على عقبيه عائدا لمسقط رأسه الذي نبت من ترابه، وتعمَّد في نبعه، فلا يستطيع أن يبرحه أو ينفك عنه بوجدانه؛ وربما يعود ذلك لشدة ارتباطه بالبيئة التي نشأ فيها وتربى، ليتدثر بحديث أمه، وما عساها قد لمست من غريب سلوك كردة فعل لحالة الهلع واللا استقرار الطارئة؛ فيرجوها التكتم عنه، حتى لا يصل إلى الزوجة، وهذا إقحام دلف من اللاشعور إلى القلم، ولعل زخم الأحداث وانفلاتها ، ألقى بظلاله على حالته النفسية فجعلته يعاني مما يعاني منه الرجال في مثل هذه الظروف، أو في سنٍ متقدمة.
ويتأكد لنا ارتباط الكاتب بمسقط رأسه وما يموج فيه من مأثورات وحكايا تتملك على عقل الصبية، ثم تسافر معهم عبر رحلة العمر ، ولا تنفك عنهم!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى