كاهنة عباس - غربة الغربة : " أو إن الغريب من في غربته غريب." كما كتب أبوحيان التوحيدي .

كلّما غربت الّشمس، تغرّبت معها ، فانفصلت عنّي جذوري فإذا بي في غربة عن نفسي ، لا أرى أنيسا ولا رفيقا يلوح بمرآتي ليشبهني فيخفّف عنّي وحشة تفرّدي . ترى من يمكنه التعرّف عنّي دون اسمي ولقبي ؟ وإذا ما رحلت ، من سيذكر أنّني هنا كنت ،وفي هذا المكان حللت، بهذه الدّروب مررت ؟ وعن لغتي ، من تراه يدرك معانيها ويطمح إلى فكّ رموزها ؟ من سيكون شاهدا على كينونتي الّتي وجدت ذات يوم ثمّ زالت ؟
أمّا عن أشقائي في ما أعانيه من تساؤل وحيرة ، فقد خيّروا الرّكون بإتّباع غيرهم ترسيخا لانتمائهم، لذلك، كان الشّرخ الّذي يفصلني عنهم سميكا رهيفا في الآن نفسه، فأنا لا أنتمي إلاّ إلى وحدتي ، تلك الّتي ما انفكّت تجمعني بالأرض وبالسّماء بالزّمان والمكان والحاضر وبالماضي ، إلى الفراغ الرّهيب داخلي .
أليس الولوج إلى عالم الحلم غربة، والتّوغّل في تجربة الحبّ غربة؟ أو، لم يكن التّفلسف بحثا عن الحقيقة غربة ؟ أليس استجلاء الأوهام غربة، والاندفاع خلف ما يأباه الفكر ولا يخفق له الفؤاد غربة ؟ إن لم يكن الانتماء إلى النّفس هو المبتغى ، فكيف الولاء لما هو خارج عنها ؟
ورثت هذه العبارة وحملتها فسكنت أعماقي وما انفكّت تحدّثّني عنها وتلهمني بغيرها ،دون أن تكشف لي كنه معناها الحقّيقي وهي لأبي حيان التوحيدي حين كتب : "الغريب من في غربته غريب" .
فالمجنون الّذي حجبت عنه مظاهر الواقع غريب و المفكّر الّذي يبحث عن الحقيقة غريب و الفنّان المسكون برؤى أخرى غريب والتّائه غريب ، والمحبّ الولهان غريب ، والضّال الّذي أجرم في حقّ غيره غريب والعالم الّذي اكتشف أسرار الطّبيعة غريب ، والمسافر الّذي يجوب الدّنيا من بلاد إلى بلاد غريب والمهاجر المستوطن بغير وطنه غريب والحائر غريب ، والمعتزل الّذي ابتعد عن النّاس ليختلي بنفسه غريب.....
ولا أحد مناّ يدرك مقاصد الآخر فعلا ولا قولا ، ولا من هو عالم بأسرار النّفس والرّوح ، فكلّ منّا يجهل جوهر ذاته ولا كيف استطاعت الوعي بوجودها فأضحت بفضل ذلك الوعي قادرة، فاعلة، ناطقة، عارفة، حائرة ،مفكرة ، شاعرة بما يجول بداخلها وخارجها .
أتتمثّل غربتها في جهلها بحقيقتها ؟ أليست حياتنا سعيا للاستئناس بغيرنا ،مهما كان ثمنه، تفاديا للإحساس بالغربة ؟
ما الغربة؟ أن لا يرى الآخر نفسه فيّ ولا أرى نفسي فيه ،فلا يجمعني به شيئا لا لغة ولا مكان ولا زمان وأن لا يجمعه بي شيئا نشترك فيه؟
هل للإنسانّية من مكانة في لقاء الغرباء باختلاف أصنافه ؟ أليست الإنسانّية فكرة مجردة، لا تحيل إلى مشترك يخفّف من غربة النّاس عند اختلافهم في الجنس واللّغة والمكان والزّمان والثقافة ؟ ألا تكون الغربة إذا، جزءا من وجودنا ،أم أنّها لعنة تلاحق البعض منّا ،أم هي داء يصيب بعضنا دون الأخر، أم قدر محتوم موصول بوضعية الإنسان وحاله المتغيّر من حين إلى آخر؟
قد يكون الأمر كذلك .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى