منور ملا حسون - رفيف الأماني...

جلست في زاوية غرفتها وهي تحاول دفن السر الصامت في ثنايا ذاكرتها .. وظفائرها الكستنائية ، تتدلى على فستانها الأسود الذي بات يلازمها منذ سنتين .

تنهدت .. وهي تلملم بقايا ذكرياتها التي أيقظها صوت البلبل المغرد في قفصه قرب النافذة . شهقت .. وهي تنظر إليه وترسم لحظات الماضي الذي غاب عنها وتناثر على أجنحة الأيام .

بتغريدة البلبل ، عادت صحائف الأيام بأسطرها أمام عينيها ، فغدت الذاكرة تنثر ما نسجته تلك الأيام . وبشهقة ٍ حزينة ٍ قالت :

- ليت عقارب الساعة توقفت ، وأنت تعطر أيامي بأسعد اللحظات !!

فأخذتها الذاكرة الى رحاب ذلك المنزل العامر الذي زارته ذات يوم مع العائلة ، حيث انشغل أفراد العائلتين في صالة الدار بأحاديث ذات شجون ! وإذا بصوت بلبلٍ يدغدغ رهفَ إحساسها .. راق لها أن تخرج الى حديقة منزل العائلة المضيفة .

خرجت وهي تمسك بيد شقيقها الأصغر وهو في أولى سني عمره الأربع ، مشت وهي تخطو نحو قفص البلبل الغريد ، الذي داعب رقة حسها . رفعت رأسها ، إذا به يحدق فيها ! فنظرت إليه باستحياء . قطف وردةً جوريةً حمراء وقدمها إليها ويداه ترتجفان خشيةَ أن تردها . مدت يدها مترددة وكأن الوردة ستسقط من بين أصابعها . جلست على أقرب مقعد في الحديقة وهي تتأمل الوردة وتشم عبقها الوردي بخجل .. ثم نطقت بابتسامة خجولة :

- أستأذنك .. سأشارك العائلة في جلستها .

أخذت بيد شقيقها الصغير ودخلت الى الصالة والوردة النشوانةٌ بين أصبعيها.

لم تكن تقتنع بالحب ، إذ حاول الكثيرون اختراق قلبها، لكنها كانت صامدة حتى أمام أعذب الكلمات .. لم يكن في حسابها يوما ما أن ( يوسف) سيتربع على عرش قلبها .

وفي يوم ربيعي أخضر، خرجت العائلتان في نزهة ربيعية حيث الأشجار والبساتين الحالمة .. فالتقتْ عيناهما مرة أخرى .. لكن الخجل منعهما من البوح . كانت تصطنع اللامبالاة .. وكل واحد منهما مسرور بالآخر دون أن يفصحا حلمَهما السرمدي .. !

بدأت ( سلوى) توزع الحلوى ، وحين وصلت إليه مدّ يده ليتناول قطعة ، فوقعت قطعة منها على الأرض . فانحنى الاثنان مرة واحدة لرفعها ، حينها اصطدم رأسهما برفقٍ فأرسلت ابتسامة خجولة فارتسمت الإشراقة على وجهه .

كانت ( سلوى) تدير معمل الخياطة الذي يمتلكه والدها ، إذ لم تحبذ التعيين رغم حصولها على بكالوريوس العلوم قسم الحاسوب . فكانت تجيد إدارة المعمل وبإتقان. أما ( يوسف) ، فكان حائزا على بكالوريوس إدارة الأعمال ويشرف على أعمال إحدى المحال التجارية .

وفي أحد الأيام زارها في مكان عملها ، ليعرض عليها مشروعا تجاريا لشراء الألبسة الجاهزة لعرضها في المحل التجاري الذي يشرف عليه .

فرحت (سلوى) بزيارته فالتقت نظراتهما التي يسكن فيه همس الحنين !

وفي دفء الصمت نظر الى قميصها البنفسجي ثم قال :

- لون البنفسج يوقظ شذى الربيع .. !

نظرت ( سلوى) الى الأرض باستحياء فزاد الصمت دفئاً .. ثم انصرف بعد أن اتفقا أن تتحدث مع والدها بشأن صفقة الألبسة .

كان الإحساس بينهما بالحب ، كزهرة تتفتح رويدا لتنثر عطرها على ذاكرة الأيام .

وحين بلغ الشوق حدّهُ ، لملم كلماته و أفصح لأمه بأنه راغبٌ بالزواج من (سلوى) التي لا تفارق خياله . رحبت والدته بذلك فقالت :

- هي ابنة صديقة العمر ، ووالدها شخصية معروفة بثرائه ووقاره .

ملأت الغبطة قلبه وكأنه اقترب من تحقيق خياله ..

فقرروا تحديد موعد للزيارة . وعند لقاء العائلتين يوم الخطبة ، لم يكن جواب والدها مطَمْئنا ًحين قال :

- أقترح تأجيل هذا الأمر ؟

فبهت (يوسف) مخذولا ..! وهو يمتص ذؤابة آماله .. قام مسرعاً وهو يعانق جرحه ، توجه نحو سيارته ترافقه والدته وهما في مرارة وخذلان .

إلا أن والدة (سلوى) كانت بلسماً للشرخ ، إذ حاولت إرضاء والدها لقبول الخطبة ، كي لا ترتدي ابنتها رداء الألم ، لكنه لازم الصمت .

أما ( يوسف) فقد تناثرت أحلامه وكأن مواسم الرياح الحزينة قد مزقت أشرعة آماله الظمأى الى من يرسم سطور غده المجهول .

لم يستطع الصبر أمام طاحونة الزمن المرير .. حاول أن ينفض عن نفسه صخب الضياع ، فقرر الاستغناء عن عمله والسفر الى إحدى الدول ، بصفة لاجئ مع مجموعة من أصحابه الذين ضاقت بهم سبل الحياة والعيش الرغيد .

ودّع والديه وهو يقبلهما ..والألم الساكن في دواخله يكاد يصرخ في تلاطم ذاته :

- أنتظر دعاءكم ..

شهقت الأم لكنها حبست ألمها، فاحتضنته ووالده وهما في وقفة رجاء من الله أن يحفظه ويوفقه في مسعاه .

مرت الأيام و(يوسف) في رحلة البحر الموحش مع رفاقه في سفينة تتمايل مع الأمواج الصاخبة .. وإذا بعاصفة تمزق أشرعة المركب ،حتى بدأ يتأرجح يميناً وشمالا والكل ينادي :

- لطفك يا رب ..

وإذا بالبحر يبتلع جزءاً من المركب ، حتى عجز السّفان من السيطرة على قيادته فانقلب بجميع ركابه ..! وكل راكب يستنجد الإله أن يُنقذه . ويا للكارثة فقد غرق أغلبهم .. أما (يوسف) الذي خبأ أحلامه المصلوبة ، حاول مجاهدا أن ينجو من صخب الأمواج وهو يصارع الغرق . أنهكته السباحة وهو في خضم المد والجزر .. وإذا به قرب سفينة قديمة غارقة منذ سنين . تشبث بطرفٍ منها وهو يتسلقها بوهن لا يطاق ، حتى رمى بجسده المنهك الى باحتها . تنفس عميقا وقد تمزقت ملابسه ، فاتكأ على جدار السفينة وهو حامد لربه .

شعرَ بالجوع بعد أن أحسَ بالأمان ، فبدأ يفتش في زوايا السفينة المهجورة !

وإذا به يعثر على فتات خبز يابس . نقّعه بماء عثر عليه في قنينة تحت أحد المقاعد، فتناوله ليكسر به جوعه محتفظا ً بالباقي .

بقي ( يوسف) يومين وهو يعاني الوحدة ، فأراد أن يكسر سكون الوحشة .. وإذا به يصيح بأعلى صوته :

- هل من أحدٍ يسمع صوتي ؟ هل من منقذ لي من هذه الوحدة !!

وإذا بصوته يصل الى أذن سيدة خرجت تتنزه قرب البحر ، وهي سيدة ثرية تعيش في جزيرة قريبة من تلك السفينة . أرسلت إليه إثنين من حراسها ، فجاؤوا به الى منزلها . وبعد ان نال راحةً وفهمت قصته ،اتفقت معه أن يعمل عندها فلاحا في مزرعتها .

مضت من عمره سنتان وهو يحاول اجترار آلامه الحبلى بأنين الشوق الى أهله والى من استقرت في أوردته دون منازع ، (سلوى ) ..

ورغم ظنه أن مفاتيح العودة محتجبة عنه ، لكنه قرر العودة الى الوطن الأم ! ولكثرة معارف سيدة الجزيرة ، يسرتْ له أمر العودة .

أما (سلوى) .. ما زالت تعانق جرحها وفي القلب صمت نازف وهي تعيش تفاصيل أيامها لحظة بلحظة . والسواد يلفها منذ سنتين ، منذ أن وصلتها أنباء غرق السفينة بأكملها ، والموت الجماعي وانقطاع أنباء من عاشت من أجله في رفيف الأماني . لم ترض بقيود الوهم ، إذ كانت تُمنّي النفس أن تسمع صوته ، تشم عبق أنفاسه وتعيش ابتسامته المفقودة عنها. كبرتْ أكثر من عمرها والخيبة تحاصرها .

جاء موعد مغادرة (يوسف) مزرعة سيدة الجزيرة التي أكرمته طيلة عمله فيها .

فقد سئم الاغتراب وبدأت رحلة العودة .. وهو يحمل أندى الأمنيات . وبعد سفر طويل مليء بالصعاب ، وصل الى مدينته الأم .. وقال في سره :

- سأقبّلُ ثراكِ .. لأنسى محطات حزني .. فقد يبستْ عروقي ظمأ ً الى مَنْ اشتقت إليها .. هي فرحي البنفسجي إنها (سلوتي ) .

وقبل أن يذهب الى داره قادته قدماه الى بيت الحبيبة التي مازالت تعيد خيوط ذكريات وردية الهمسات رغم ارتدائها رداء الألم .

سمعت رنين الجرس ، فتحتْ وإذا برجل أشعث الشعر طويل اللحية .. وهلةٌ من الصمت جالت ْ بينهما، أمعنتْ النظر فيه وهو يحدق فيها بشغف . فحصتْ تفاصيل وجهه الذي اسمرّ لونه ، جراء العمل تحت الشمس في المزرعة .

ابتسمت عيناها حين رأت الشامة النشوانة تحت شفته السفلى ، تخبرها بأن الغائب المنتظر قد حضر دون موعد .. ! فانتشت الروح النابضة صبرا ..

و بدفء الصمت تعانق القلبان .. !!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى