فتحية دبش - مأتم...

قصتي ليست جميلة هذه المرة! هي فعلا قبيحة ككل السابقات. القصص الجميلة أحاول صياغتها فلا تأتيني، ربما كنت محسودة، هكذا قال لي صديق ذات مرة، و ربما كنت غير موهوبة، هكذا قلت لنفسي مرارا، وربما تستعصي علي اللغة، هكذا قالت لي كل القصص التي لم أكتب...
غير أنني مصرّة، هذا المساء ستقرؤون لي وستصفقون لي أو تبصقون علي، لكم الخيار ولي طبعا حق رد الثناء أو البصقة...
لكنني طبعا سأجبركم واحدا واحدا، واحدة واحدة، أن تقفوا ولو لنصف عشر دقيقة، أو أكثر قليلا أو أقل قليلا....
قصتي هذا المساء هي في الواقع رسالة، أكتبها لزوجي الذي عدت للتو من مراسم دفنه. في العادة لا يذهب النساء إلى المقبرة ولكنني، بما أنني تمردت على النواميس، فقد قررت أن أذهب وأن أصلي دون وضوء.
وقفت مع الواقفين، دسست جسمي في جلباب سميك، وتحت الجلباب بنطلون من الجينز الأزرق، على رأسي وضعت خمارا أسود... هكذا أمرتني عجوز القرية حالما وصل نبأ حتفه.
رشقتني النساء بنظرات اختلط فيها الإعجاب بالإدانة. استنكر الرجال وقفتي في آخر الطابور. طلبوا مني العودة إلى بيتي و البكاء في صمت إكراما لروح زوجي. لم أذعن إلى أوامرهم، و لا حتى في الوقوف في الصف الأخير بعد آخر رجل معتوه جاء يستلم نقود الصدقة، وآخر تفوح من ثيابه رائحة قيء بعد جلسة خمر ينظمونها كثيرا في عمق واحة النخيل غير البعيدة.
لماذا تفتحون أفواهكم هكذا وتحدقون بي؟
أليس زوجي و أنا أحق منهم جميعا بمصاحبته إلى مثواه الأخير؟
قضى في حادثة سيارة، كان يحب الضغط على الزناد. وعندما يكون وراء المقود لا ينثني على مداعبة جنون الموت، يراوغه ويبتسم في كل مرة لأنه انتصر وعاد سالما. هذه المرة داعبته جنية العجلات والفرامل، تمردت عليه و هزِئت من غيّه وغروره، لم تمهله حتى لحظة فيها يودعني!
لم يلتفت رجل إليّ مصافحا و لا معزيا، فقط نظراتهم كانت ترميني بالجنون، يستغفرون له من ذنبي، يتأسفون عليه و يسخطون عليّ، يتهامسون في حقد، يتمتمون أنه الشقي حُرِم من وقوف الملائكة عند رأسه بسببي...
قال بعضهم إنه لفي خسران فقد كان يسمح لي بالخروج سافرة، يقرأ الشعر عليّ في أعياد الحب ويقبلني كلما التقينا حتى بعد فراق لحظة.
رفعت رأسي بينهم، باغتهم صوتي واثقا متمكنا و صنعت صنيعا غريبا، لم أقرأ على روحه الفاتحة ولكنني قرأت مرثية طويلة.
كنت صبية في مقتبل الشباب عندما التقينا صدفة على الطريق المحفوف بالصفصاف، لم أخفض بصري ولا طرحت خماري على جيبي ولم يغض البصر ولا استغفر لرؤيتي، تقدم مني بخطى واثقة و قال :
-" أريدك حبيبة، زوجة و أما لأولادنا، هل تقبلين؟"
لم أتكلم...
كان قميصه ذو الخطوط المستقيمة قد استرعى انتباهي، لونه واحد مع اختلاف طفيف بين الخط والآخر، مكوي وخط واحد وحيد من أعلى الكتف و حتى المعصم، وبعناية فائقة كان بنطلونه مرتبا عليه كأنه عارض أزياء من شمع...
كان يناديني ب"قطتي الصغيرة" وكنت أحب التمسح به كما تفعل صغار القطط، يهدهد وجعي إن تألمت ويهتف باسمي كلما نجحت ويبتسم راضيا في جل حالاته.
مازلت ألقي مرثيتي عندما نظروا إلى بعضهم بعضا، بسرعة و كما يوارون خروفا واروه التراب و هرولوا بعيدا عني ...
عند رأسه جلست، أزحت عني الغطاء الحزين، فردت شعري و ألقيت بالجلباب جانبا.
لم يطاوعني دمع ولا آهة، فقط عاتبته لرحيله المفاجئ وسألته كيف لي أن أستمر بدونه...
أعرف، إنكم جميعكم تشمئزون من سفوري في المقبرة...
لا، لا!
الموتى لا يتحرشون بي ولا يخشون الفتنة.


فتحية دبش
من (صمت النواقيس) ط1، القاهرة 2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى