الكل يرفض..
الكل يلهث.
الوقت ضيق..
لا وقت للتفكير، لا وقت للكلام، الصدر ضيق، لا أحد لديه القدرة والشجاعة للاستماع إلى الآخر ، حتى الزمن تمر دقائقه بسرعة لانهائية، والمكان يضيق ويضيق، فيصبح قفصا صدريا، ضلوعا تكون قضبان سجن لشتى الأحاسيس والمشاعر.
والعين مفتوحة يتسرب إليها شيء من الضوء، كما يتسرب من باب دهليز عميق، ضارب في العمق، بها من الاتساع ما يجعلك تظن أنها تنظر إليك، تفهم كلامك ، وهي فارغة، تائهة، في فيافي شاسعة من الوهم والخيال، وليس فيها ذرة من البصر و البصيرة، والشمس حارقة، ولا ظل ولا حائل.
الطريق طويل أمام حليمة، طويل، وهي تسير عليه كل يوم أثناء ذهابها إلى العمل، وعودتها إلى البيت، ومع كل خطوة تخطوها ، تتورم قدماها، ومع ذلك تمضي، تمضي والديك يصيح قبيل الفجر، معلنا يوما جديدا قد ولد كما ولد الأمس بالأمس، واليوم بالأمس وكما سيولد الغد، وهكذا.... تخطو كل مرة خطواتها نفسها على الطريق المؤدي إلى العمل ومن العمل إلى البيت، ورأسها يطن بالأسئلة، بالأجوبة، إنها لا تستطيع النظر إلى وجوه من تجدهم في طريقها، تخشى أن تصادف نظراتها عيونهم المفتوحة فتغرق في ظلامها، ولن تعود، وحينما تصل إلى الزقاق الذي يوصل إلى بيتها ، تسرع الخطى وكأنها تكاد تجري، لا تريد أن تتعلق بها نظرات أهل الحي، لا تريد أن ترى البؤس والألم والتعاسة قد عششت على وجوههم، فلم يعد يظهر منها إلا عيون تعبة وشفاه متدلية، من فرط اليأس، وأنوف قد تقوست من كثرة تطاولها على الزمن وعلى مشاكل الحياة ومآسيها.
لا تريد أن تصطدم بأطفال الحي، فكلهم يذكرونها بحياتها، بشقائها الأبدي... وهم... رجال الغد... رجال المستقبل.
اليوم وهي عائدة من عملها، وجدت نفسها أمام زميل قديم لها، طالما حاولت أن تناقشه في أمور عديدة قبل أن تصل إلى أعماقه المجوفة ، قبل أن تكتشف أغوار نفسه الفارغة وقبل أن تتركه إلى الأبد ينعم بفراغ نفسه وعبثه ...
اضطرت إلى أن إلقاء تحية إليه ، أحست أن كلماتها لا تخرج من فمها بل من ثغر لا يمت إليها بصلة ، وبصوت ليس صوتها ، ولكي تواسي نفسها المشمئزة اعتبرت أن حديثها إليه آخر مرحلة من مراحل النفاق المفروض عليها والذي تظهر به خلال يومها ، قبل أنت حتمي بجدران البيت ،بعيدا عن أيامها المتشابهة.
وقف متسول يستعطفها، لكن قبل أن تنبس بكلمة، طرقت أذنها كلمات زميلها وهو ينهر المتسول:
ــــ الله يسهل ....
نظر إليهما المتسول وكأنه ينتظر أن يبدل أ حدهما رأيه ويتصدق عليه ببعض الريالات إلا أن استعطافه انهزم أمام إصرارهما، فاستدار متأففا وهو يدمدم بكلمات لم تستوعبها.
نظر إليها زميلها وعلى وجهه علامات الانتصار وهو يقول :
ـــ ألم تلاحظي أن عدد المتسولين والمتسكعين قد زاد هذه الأيام ؟ ههه ...ههههه
وأكمل كلامه رغم أنه لم يبد على وجهها أي اهتمام بمايقوله ، بينما زاغت نظراتها تتبع خطوات المتسول الذي ابتعد عنهما في تثاقل .
ــ والمجانين قد امتلأ بهم الشارع ، تجدينهم في كل مكان يدمدمون ... أه ..اه ههههه
وفي لحظة شرودها ، عذابها ، أحست أن كلماته سياط ينهال على جسدها في ضربات عنيفة متوالية ، تجعل هيكلها العظمي المكسو بقليل من اللحم والمغطى بجلد شفاف يتلوى من الألم ، وقد اختبأت وراءه روحها وهي ترتعش من التعاسة والحزن ....
تعجب مما لاح على وجهها ، من تعابير تدل على ما يعتمل في صدرها من أحاسيس مروعة ، من غضب .... نفور .... ويأس...حاولت أن تبدد ما لاح على صفحة وجهها من مشاعر، وهي تبتسم ، فبدت وكأنها تبكي ،تبدي له مجاملة ، وكأنها توافقه على رأيه .
أصابه بعض الحرج ، تلفت يمينا وشمالا وهو يقول :ـــ على كل ،كل ما كنت أريد معرفته أ،ك بخير وبصحة جيدة .( نعم... نعم ،ألا ترى ، كيف تشك في ذلك ؟ أمثالي لا يعرفون التعب أوالمرض أبدا ..)
صمت لحظة ، وهو يتأملها كمن يستعد لشيء ما ، ثم قال :
ـــ حليمة.. أرجوك، يجب أن نتحدث، يجب أن نشرب شيئا ما معا، وافقي .. هيا ،
هناك مكان لن يعرفك فيه أحد.....
ـــ شكرا ـ لا أستطيع .....وألان وداعا ... وداعا.
استمرت في طريقها إلى البيت ، وصوت بكائها الذي أصبح يلازمها يتردد داخل أجواء جسدها ، هذا الصوت الحاد الذي يطحن داخلها ، يصول ويجول فيه دون رقيب ، يثيرها، يقلقها ، يهدمها ، تريدألا تسمعه ، لكنه يتغلغل شيئا فشيئا في أعماقها ،يذكرها بكل الأشقياء، بأهل حيها ، بالمتسكعين ومجانين الشارع .
في البيت يثير انتباهها جهاز الراديو ، تفتحه ،لعلها تنسى الصوت الذي ينهش أعماقها ، تسمع خلاصة أخبار اليوم ....
ويصبح صوت المذيع أزيز قنابل تتفرقع في أذنها ، حروب في كل مكان ، بين العرب ، وفي أفريقيا ، وبين الدولتين العظيمتين ... وبين ضلوعها و أحاسيسها ،وبين الصوت المنبعث من الراديو وأذنها .
كلمات المذيع متورمة، تكاد تشم رائحة العفن تنبعث منها.
الشوارع تغص بالمتسكعين، و ماسحي الأحذية، والمتسولين والمجانين......
عيون أجدادنا جحظت من تحت قشرة الأرض، انبعثت تطل على ما ارتكبته أيدينا من هدم وتحطيم لما بنوه وتعبوا من أجله.
أغلقت جهاز الراديو في عصبية، وأخذت مجلات قديمة علها تجد فيها السلوى والأمان .
لقد أضربت عن قراءة الجرائد والمجلات الحديثة لما تحتويه من أخبار الدمار و الحرب، أخبار مفزعة تحطم إنسانية الإنسان بمعاول من حديد بقوة كبيرة لا حدود لها.
فرغم أن إنسانية الإنسان ملكية خاصة ، ورغم أن الحق لا يموت ، فإن القتل العصري الذي أصبح ينفذ أمام العالم أجمع ودون خجل وكأنه صناعة حديثة تعرض على الجمهور، كل ذلك يثير تقززها ، ينتشر في ثنايا مخها ، يصيبها بالأرق الدائم ، فلا تنام ......
تقرأ على صفحة من صفحات إحدى المجلات:( القلق سمة عصرنا هذا، والخوف من المستقبل من علاماته البارزة، فالقلق والخوف مشكلة إنسان هذا الزمان أينما حل وارتحل ، وحيثما استقر
واستوطن ....).
رمت بالمجلة جانبا ،
أحست بسخونة تصعد إلى رأسها وتستوطنه ، وغضب كبير يجتاحها ، فقررت ألا تقرأ شيئا .
إنتهى إليها صوت أختها الصغرى تناديها :
ــ" حليمة ــ حليمة ، قد بدأ المسلسل العربي، هيا أسرعي !!
جلست أمام جهاز التلفزيون ، وبعد قليل اتكأت على وسادة كانت إلى جانبها .. وغفت وراء أحاسيسها المتعبة ، أحست بإحدى أخواتها تلقي عليها بغطاء ، انكمشت على نفسها تحته ملتذة بملمسه ، على جسدها الذي نخرته أحاسيس حالكة من الغيظ والحنق .
استرجعت ذاكرتها ما قرأته ( القلق سمة عصرنا هذا.......)
اختلطت المعاني في ذهنها، وصوت بكائها بمنقاره الحاد، ينقر قلبها ، رئتيها ، شرايينها ولم يعرف النوم سبيلا إلى جفنيها ...
استفاقت من غيبوبتها في الصباح لتتجرع قهوتها وكأنها دواء مر ، مفروض عليها تناوله ، ودوار شديد يستولي عليها ، تتماسك ، يجب أن تذهب إلى العمل مهما كانت الأحوال .
على الطريق الطويل ...صادفت ابن الجيران ، لم تكن لتكلمه أبدا ...لكنه ، في هذا الصباح ، بينما هي تحاول أن تتنفس نسمات عليلة ، لتخرج ما تكدس خلال الليل في أدران قفصها الصدري من مشاعر يائسة وتطلقها في الهواء شحنات ، تساهم بها في تلويث الجو
..قطع عليها تنفسها، وهو يقترب منها ويخطو معها خطواتها نفسها ، قائلا :
ـــ ألا تقولين صباح الخير!
نظرت إليه باستغراب وغيظ وقالت :
ـــ " أتظن انه من ا لواجب أن أقولها لك أنا بالذات .."
ـــ " لم لا ! ؟ مادامت المرأة تطالب بالمساواة ..."
ماذا يريد هذا الأجوف في صباح مثل هذا ، ألا يرى أني لا أريد أن يرافقني على الطريق...
ثم ... آه ...المساواة، هذه الكلمة يمنون بها على المرأة حتى في تحية الصباح !!
نظرت إليه متفحصة ملامح وجهه في جرأة اضطر معها إلى إطباق جفنيه وقالت :
ــ " يا سيدي ، أنا مثلا لا أطالب بالمساواة أبدا ... "
أجاب مرتبكا :
ــ " لا ، لم أقصد هذا... بل كان من الواجب أن تقوليها، ما دمنا نلتقي على هذا الطريق كل صباح...و..ونمشي الخطوات نفسها تقريبا ...أليس كذلك؟ لماذا لا تقولها أنت وتحوز قصب السبق ؟
أنا لن أقولها ... لن أقولها . "
ابتعدت في خطى سريعة ....
وعاد الدوار يستعمر جمجمتها، لو كانت هناك منعرجات لاتخذت طريقا غير هذا الطريق الطويل .
وفي العمل ،
يبادرها رئيس عملها في سخرية واستهزاء، وفي فضول أيضا :
ـــ هل فهمت كل ما شرحته لك ؟
ـــ نعم ، بكل تأكيد .
ـــ لا أظن ذلك، يبدو أنك منشغلة بشيء ما، ولا تسمعين مما أقول شيئا ؟
ـــ لا أبدا أنا غير منشغلة أنني أركز في العمل وما تقوله يا سيدي .!
ــ لا ــ لا يبدو ذلك ــ نعم ! يا سيدي لدي مشاكل ككل الناس، ولا يجوز أبدا أن أحكي لك عنها، فلا تشغل بالك . ثم إنها مشاكل تخصني ! سأعمل على حلها بمفردي !
نظر إليها باندهاش ،
لم يكن يتخيل أنها ستتحدث إليه بكل تلك الجرأة.
وقفت تنتظر أوامره، وفي لحظات انتظارها، كانت تتمنى أن تندثر وتختفي .
أتى إليها صوته متحشرجا ، ودون أن ينظر إليها :
ــ اذهبي الآن ، سأناديك فيما بعد .
على مكتبها أخذت رأسها بين كفيها ، وغرقت في تفكير عميق ، كانت تود أن تنبهه إلى كل ما يدور
حوله ، إلى مشاكل كل الناس، والتي هي مشاكله ومشاكلها في الوقت نفسه ، لكنها كانت تعرف أن الوقت ضيق ، حتى الشفاه ضاقت عن الكلمة ، عن الابتسامة ولاذت بالصمت ، الصمت المدمر ، القاتل .
و أحست بكل شيء يضيق حولها، جدران الغرفة تكاد تنطبق عليها، عينا زميلتها في العمل ضاقتا وأصبحت نظراتها تكاد تنحصر ما بينهما.
الدوار الشديد يزداد حدة ، يجب أن تلجأ إلى كل جرأتـها وشجاعتها لتخترق حدود هذا الضيق .
مدت يدها بصعوبة قليلا، بدا على وجهها أنها تتألم ، وكأن حركتها تلك تتطلب منها بذل مجهودات جبارة .وأخيرا وصلت يدها إلى حقيبة يدها ، أخذتها بسرعة ،واتجهت في صمت نحو الباب الذي ظهر لعينيها وكأنه ضاق هو الآخر عن جسدها ، لكنها خرجت دون أن تنظر إلى الوراء ، وأمامها ارتسم طريقها المؤدي إلى البيت طويلا ، طويلا جدا ، وضيقا لا يكاد يتسع لخطواتها .
الكل يلهث.
الوقت ضيق..
لا وقت للتفكير، لا وقت للكلام، الصدر ضيق، لا أحد لديه القدرة والشجاعة للاستماع إلى الآخر ، حتى الزمن تمر دقائقه بسرعة لانهائية، والمكان يضيق ويضيق، فيصبح قفصا صدريا، ضلوعا تكون قضبان سجن لشتى الأحاسيس والمشاعر.
والعين مفتوحة يتسرب إليها شيء من الضوء، كما يتسرب من باب دهليز عميق، ضارب في العمق، بها من الاتساع ما يجعلك تظن أنها تنظر إليك، تفهم كلامك ، وهي فارغة، تائهة، في فيافي شاسعة من الوهم والخيال، وليس فيها ذرة من البصر و البصيرة، والشمس حارقة، ولا ظل ولا حائل.
الطريق طويل أمام حليمة، طويل، وهي تسير عليه كل يوم أثناء ذهابها إلى العمل، وعودتها إلى البيت، ومع كل خطوة تخطوها ، تتورم قدماها، ومع ذلك تمضي، تمضي والديك يصيح قبيل الفجر، معلنا يوما جديدا قد ولد كما ولد الأمس بالأمس، واليوم بالأمس وكما سيولد الغد، وهكذا.... تخطو كل مرة خطواتها نفسها على الطريق المؤدي إلى العمل ومن العمل إلى البيت، ورأسها يطن بالأسئلة، بالأجوبة، إنها لا تستطيع النظر إلى وجوه من تجدهم في طريقها، تخشى أن تصادف نظراتها عيونهم المفتوحة فتغرق في ظلامها، ولن تعود، وحينما تصل إلى الزقاق الذي يوصل إلى بيتها ، تسرع الخطى وكأنها تكاد تجري، لا تريد أن تتعلق بها نظرات أهل الحي، لا تريد أن ترى البؤس والألم والتعاسة قد عششت على وجوههم، فلم يعد يظهر منها إلا عيون تعبة وشفاه متدلية، من فرط اليأس، وأنوف قد تقوست من كثرة تطاولها على الزمن وعلى مشاكل الحياة ومآسيها.
لا تريد أن تصطدم بأطفال الحي، فكلهم يذكرونها بحياتها، بشقائها الأبدي... وهم... رجال الغد... رجال المستقبل.
اليوم وهي عائدة من عملها، وجدت نفسها أمام زميل قديم لها، طالما حاولت أن تناقشه في أمور عديدة قبل أن تصل إلى أعماقه المجوفة ، قبل أن تكتشف أغوار نفسه الفارغة وقبل أن تتركه إلى الأبد ينعم بفراغ نفسه وعبثه ...
اضطرت إلى أن إلقاء تحية إليه ، أحست أن كلماتها لا تخرج من فمها بل من ثغر لا يمت إليها بصلة ، وبصوت ليس صوتها ، ولكي تواسي نفسها المشمئزة اعتبرت أن حديثها إليه آخر مرحلة من مراحل النفاق المفروض عليها والذي تظهر به خلال يومها ، قبل أنت حتمي بجدران البيت ،بعيدا عن أيامها المتشابهة.
وقف متسول يستعطفها، لكن قبل أن تنبس بكلمة، طرقت أذنها كلمات زميلها وهو ينهر المتسول:
ــــ الله يسهل ....
نظر إليهما المتسول وكأنه ينتظر أن يبدل أ حدهما رأيه ويتصدق عليه ببعض الريالات إلا أن استعطافه انهزم أمام إصرارهما، فاستدار متأففا وهو يدمدم بكلمات لم تستوعبها.
نظر إليها زميلها وعلى وجهه علامات الانتصار وهو يقول :
ـــ ألم تلاحظي أن عدد المتسولين والمتسكعين قد زاد هذه الأيام ؟ ههه ...ههههه
وأكمل كلامه رغم أنه لم يبد على وجهها أي اهتمام بمايقوله ، بينما زاغت نظراتها تتبع خطوات المتسول الذي ابتعد عنهما في تثاقل .
ــ والمجانين قد امتلأ بهم الشارع ، تجدينهم في كل مكان يدمدمون ... أه ..اه ههههه
وفي لحظة شرودها ، عذابها ، أحست أن كلماته سياط ينهال على جسدها في ضربات عنيفة متوالية ، تجعل هيكلها العظمي المكسو بقليل من اللحم والمغطى بجلد شفاف يتلوى من الألم ، وقد اختبأت وراءه روحها وهي ترتعش من التعاسة والحزن ....
تعجب مما لاح على وجهها ، من تعابير تدل على ما يعتمل في صدرها من أحاسيس مروعة ، من غضب .... نفور .... ويأس...حاولت أن تبدد ما لاح على صفحة وجهها من مشاعر، وهي تبتسم ، فبدت وكأنها تبكي ،تبدي له مجاملة ، وكأنها توافقه على رأيه .
أصابه بعض الحرج ، تلفت يمينا وشمالا وهو يقول :ـــ على كل ،كل ما كنت أريد معرفته أ،ك بخير وبصحة جيدة .( نعم... نعم ،ألا ترى ، كيف تشك في ذلك ؟ أمثالي لا يعرفون التعب أوالمرض أبدا ..)
صمت لحظة ، وهو يتأملها كمن يستعد لشيء ما ، ثم قال :
ـــ حليمة.. أرجوك، يجب أن نتحدث، يجب أن نشرب شيئا ما معا، وافقي .. هيا ،
هناك مكان لن يعرفك فيه أحد.....
ـــ شكرا ـ لا أستطيع .....وألان وداعا ... وداعا.
استمرت في طريقها إلى البيت ، وصوت بكائها الذي أصبح يلازمها يتردد داخل أجواء جسدها ، هذا الصوت الحاد الذي يطحن داخلها ، يصول ويجول فيه دون رقيب ، يثيرها، يقلقها ، يهدمها ، تريدألا تسمعه ، لكنه يتغلغل شيئا فشيئا في أعماقها ،يذكرها بكل الأشقياء، بأهل حيها ، بالمتسكعين ومجانين الشارع .
في البيت يثير انتباهها جهاز الراديو ، تفتحه ،لعلها تنسى الصوت الذي ينهش أعماقها ، تسمع خلاصة أخبار اليوم ....
ويصبح صوت المذيع أزيز قنابل تتفرقع في أذنها ، حروب في كل مكان ، بين العرب ، وفي أفريقيا ، وبين الدولتين العظيمتين ... وبين ضلوعها و أحاسيسها ،وبين الصوت المنبعث من الراديو وأذنها .
كلمات المذيع متورمة، تكاد تشم رائحة العفن تنبعث منها.
الشوارع تغص بالمتسكعين، و ماسحي الأحذية، والمتسولين والمجانين......
عيون أجدادنا جحظت من تحت قشرة الأرض، انبعثت تطل على ما ارتكبته أيدينا من هدم وتحطيم لما بنوه وتعبوا من أجله.
أغلقت جهاز الراديو في عصبية، وأخذت مجلات قديمة علها تجد فيها السلوى والأمان .
لقد أضربت عن قراءة الجرائد والمجلات الحديثة لما تحتويه من أخبار الدمار و الحرب، أخبار مفزعة تحطم إنسانية الإنسان بمعاول من حديد بقوة كبيرة لا حدود لها.
فرغم أن إنسانية الإنسان ملكية خاصة ، ورغم أن الحق لا يموت ، فإن القتل العصري الذي أصبح ينفذ أمام العالم أجمع ودون خجل وكأنه صناعة حديثة تعرض على الجمهور، كل ذلك يثير تقززها ، ينتشر في ثنايا مخها ، يصيبها بالأرق الدائم ، فلا تنام ......
تقرأ على صفحة من صفحات إحدى المجلات:( القلق سمة عصرنا هذا، والخوف من المستقبل من علاماته البارزة، فالقلق والخوف مشكلة إنسان هذا الزمان أينما حل وارتحل ، وحيثما استقر
واستوطن ....).
رمت بالمجلة جانبا ،
أحست بسخونة تصعد إلى رأسها وتستوطنه ، وغضب كبير يجتاحها ، فقررت ألا تقرأ شيئا .
إنتهى إليها صوت أختها الصغرى تناديها :
ــ" حليمة ــ حليمة ، قد بدأ المسلسل العربي، هيا أسرعي !!
جلست أمام جهاز التلفزيون ، وبعد قليل اتكأت على وسادة كانت إلى جانبها .. وغفت وراء أحاسيسها المتعبة ، أحست بإحدى أخواتها تلقي عليها بغطاء ، انكمشت على نفسها تحته ملتذة بملمسه ، على جسدها الذي نخرته أحاسيس حالكة من الغيظ والحنق .
استرجعت ذاكرتها ما قرأته ( القلق سمة عصرنا هذا.......)
اختلطت المعاني في ذهنها، وصوت بكائها بمنقاره الحاد، ينقر قلبها ، رئتيها ، شرايينها ولم يعرف النوم سبيلا إلى جفنيها ...
استفاقت من غيبوبتها في الصباح لتتجرع قهوتها وكأنها دواء مر ، مفروض عليها تناوله ، ودوار شديد يستولي عليها ، تتماسك ، يجب أن تذهب إلى العمل مهما كانت الأحوال .
على الطريق الطويل ...صادفت ابن الجيران ، لم تكن لتكلمه أبدا ...لكنه ، في هذا الصباح ، بينما هي تحاول أن تتنفس نسمات عليلة ، لتخرج ما تكدس خلال الليل في أدران قفصها الصدري من مشاعر يائسة وتطلقها في الهواء شحنات ، تساهم بها في تلويث الجو
..قطع عليها تنفسها، وهو يقترب منها ويخطو معها خطواتها نفسها ، قائلا :
ـــ ألا تقولين صباح الخير!
نظرت إليه باستغراب وغيظ وقالت :
ـــ " أتظن انه من ا لواجب أن أقولها لك أنا بالذات .."
ـــ " لم لا ! ؟ مادامت المرأة تطالب بالمساواة ..."
ماذا يريد هذا الأجوف في صباح مثل هذا ، ألا يرى أني لا أريد أن يرافقني على الطريق...
ثم ... آه ...المساواة، هذه الكلمة يمنون بها على المرأة حتى في تحية الصباح !!
نظرت إليه متفحصة ملامح وجهه في جرأة اضطر معها إلى إطباق جفنيه وقالت :
ــ " يا سيدي ، أنا مثلا لا أطالب بالمساواة أبدا ... "
أجاب مرتبكا :
ــ " لا ، لم أقصد هذا... بل كان من الواجب أن تقوليها، ما دمنا نلتقي على هذا الطريق كل صباح...و..ونمشي الخطوات نفسها تقريبا ...أليس كذلك؟ لماذا لا تقولها أنت وتحوز قصب السبق ؟
أنا لن أقولها ... لن أقولها . "
ابتعدت في خطى سريعة ....
وعاد الدوار يستعمر جمجمتها، لو كانت هناك منعرجات لاتخذت طريقا غير هذا الطريق الطويل .
وفي العمل ،
يبادرها رئيس عملها في سخرية واستهزاء، وفي فضول أيضا :
ـــ هل فهمت كل ما شرحته لك ؟
ـــ نعم ، بكل تأكيد .
ـــ لا أظن ذلك، يبدو أنك منشغلة بشيء ما، ولا تسمعين مما أقول شيئا ؟
ـــ لا أبدا أنا غير منشغلة أنني أركز في العمل وما تقوله يا سيدي .!
ــ لا ــ لا يبدو ذلك ــ نعم ! يا سيدي لدي مشاكل ككل الناس، ولا يجوز أبدا أن أحكي لك عنها، فلا تشغل بالك . ثم إنها مشاكل تخصني ! سأعمل على حلها بمفردي !
نظر إليها باندهاش ،
لم يكن يتخيل أنها ستتحدث إليه بكل تلك الجرأة.
وقفت تنتظر أوامره، وفي لحظات انتظارها، كانت تتمنى أن تندثر وتختفي .
أتى إليها صوته متحشرجا ، ودون أن ينظر إليها :
ــ اذهبي الآن ، سأناديك فيما بعد .
على مكتبها أخذت رأسها بين كفيها ، وغرقت في تفكير عميق ، كانت تود أن تنبهه إلى كل ما يدور
حوله ، إلى مشاكل كل الناس، والتي هي مشاكله ومشاكلها في الوقت نفسه ، لكنها كانت تعرف أن الوقت ضيق ، حتى الشفاه ضاقت عن الكلمة ، عن الابتسامة ولاذت بالصمت ، الصمت المدمر ، القاتل .
و أحست بكل شيء يضيق حولها، جدران الغرفة تكاد تنطبق عليها، عينا زميلتها في العمل ضاقتا وأصبحت نظراتها تكاد تنحصر ما بينهما.
الدوار الشديد يزداد حدة ، يجب أن تلجأ إلى كل جرأتـها وشجاعتها لتخترق حدود هذا الضيق .
مدت يدها بصعوبة قليلا، بدا على وجهها أنها تتألم ، وكأن حركتها تلك تتطلب منها بذل مجهودات جبارة .وأخيرا وصلت يدها إلى حقيبة يدها ، أخذتها بسرعة ،واتجهت في صمت نحو الباب الذي ظهر لعينيها وكأنه ضاق هو الآخر عن جسدها ، لكنها خرجت دون أن تنظر إلى الوراء ، وأمامها ارتسم طريقها المؤدي إلى البيت طويلا ، طويلا جدا ، وضيقا لا يكاد يتسع لخطواتها .