السي حاميد اليوسفي - لا (ما نمشيش)...

بعث جابر برسالة قصيرة.. الأب كان يفكر في ارتشاف فنجان قهوة رفقة زملائه قبل العودة الى البيت.. الداخلية مريضة.. هو مثل بعض العمال يطلقون على الزوجات هذا الوصف من كثرة الأسئلة التي تطرحنها عندما يتأخرون عن العودة إلى البيوت.. المسكينة تحتاج إلى إجراء عملية جراحية.. في المستشفى العمومي قالوا بأنهم لا يتوفرون على أجهزة للفحص، ولا على أطباء متخصصين.. هو لا يملك المبلغ الذي طلبه الطبيب الخاص والمصحة.. كان ينوي مفاتحة أصحابه في جمع سلفة له حتى يتمكن من إنقاد زوجته..
رن الهاتف.. فتح الواتساب.. خشي في البداية أن تكون الحالة الصحية لسيدة البيت قد تدهورت، وتستدعي نقلها إلى قسم المستعجلات.. مسح الرسالة بعينيه بسرعة.. بدت مثل سكين حاد:
ـ (تم اعتقالي في الساحة.. كنت واقفا رفقة أصدقائي وصديقاتي.. نحن الآن في الدائرة الأمنية)..
بعث برد يستوضح فيه الأمر:
ـ (لماذا اعتقلوك؟ ماذا فعلت؟)..
يبدو أن الرسالة لم تصل.. انقطع الخط.. ربما سحبوا منه الهاتف.. في الطريق أحسّ كأن كابوسا أيقظه على غفلة من نوم عميق.. تذكر احتجاجات الأمس.. سمع العمال يتهامسون في المصنع عن حركة من الشباب تُدعى جيل Z212 خرجت من الانترنيت إلى الشارع تحتج وترفع مطالب اجتماعية تخص الصحة والتعليم والشغل والحريات ومناهضة الفساد.. لا أحد يعلم من يقف خلفها.. الشباب يقولون بأنهم حركة مستقلة لا أحد يزايد على عملها من أجل مصلحة الوطن..
بعد نصف ساعة وصل أمام باب الدائرة الأمنية.. وجد حشدا كبيرا من الناس متفرقين في جماعات صغيرة يتحدثون فيما بينهم ينتظرون الإفراج عن أبنائهم وبناتهم... أقفل الدراجة ووضعها عند الحارس، ثم سأله بلطف عما يحدث.. أجاب وهو يلتفت لزبون قادم:
ـ البوليس اعتقل مجموعة من الشباب المشاغب.. قالوا بأنهم شبعوا من الخبز..
صعد الدرج، فأوقفه شرطي أمام الباب، وطلب منه أن ينتظر مع الناس، حتى ينتهي التحقيق مع ابنه. لم يفهم شيئا.. لكن منسوب الخوف والوساوس ارتفع عاليا..
بعد أكثر من ساعة بدأ بعض الشباب ومعهم جابر يخرجون من قسم الشرطة، ويعانقون ذويهم كأنهم عائدين من سفر طويل..
في الطريق، ومع ضجيج المارة ومنبه السيارات، والتفكير في حالة الزوجة المريضة أجل الحديث مع ابنه حتى يصلا إلى المنزل.. سرقته الذكريات، وعادت به إلى ماض سحيق.. قال محدثا نفسه:
ـ بالأمس يا محمد لم يكن هناك أنترنيت، ولا هواتف سمارت.. إذا تعرضت للاعتقال أثناء الاحتجاجات مشيت فيها.. لا أحد يتصل بأهلك أو يخبرهم أين أنت.. وعندما تتأخر عن العودة إلى البيت يسألون أصدقاءك في المدرسة أو الحي ثم العائلة.. بعد ذلك يبحثون في المستشفيات وأقسام الشرطة.. لا أحد يعرف أين أنت!.. كأن الأرض ابتلعتك!. وقد يمتد البحث عنك أيام وأسابيع وشهور وربما سنوات.. الحمد لله.. بعض الشباب تمكنوا من الاتصال بذويهم.. أجروا مع بعضهم التحقيق، وأخذوا ما يحتاجونه من معلومات، وأطلقوا سراحهم.. ربما العملية ستقتصر في البداية على التخويف والترهيب..
الزمن تغير!.. زمنك رحل يا محمد.. أنت كنت ترى سيارة الشرطة وتغير الطريق، رغم أنك تسير بجانب الحائط ولا تحرك دجاجة عن بيضها.. كنت تخاف أن يعتقلوك، ويلفقوا لك تهمة أنت بريء منها كما فعلوا مع إبراهيم., ابراهيم صديقك في العمل احتج على موظف في مستشفى عمومي لأنه رفض حتى الاستماع إليه. تظاهر الموظف بأنه تعرض لاعتداء.. اعتقلوا عباس مسكين واتهموه بإهانة موظف، وعرقلة العمل بمرفق عمومي.. تعب من أن يُقسم بأنه بريء، لكن لم يصدقه أحد.. قيل له الموظف فيه اثني عشرة شاهدا.. الزمن تغير!.. زمنك وزمن عباس رحل يا محمد..
كسر جابر حاجز الصمت وأعاد والده إلى الواقع، وقال:
ـ عندما أحكما شرطيان جسمي من الذراعين، وسحباني إلى السيارة، أثار انتباهي طفل صغير لا يتجاوز العاشرة يتابع ما يجري عن قرب.. يرفع شارة النصر، ويردد شعار: (الشعب يريد محاربة الفساد).. صرخ أحدهما في وجه الطفل أن يذهب إلى البيت..
أتعرف ماذا فعل الطفل؟!.. حدق في الشرطي بعينين يتطاير الشرر منهما وقال:
ـ لا ما نمشيش!
نظر الشرطي إليه بدهشة واستغراب، ثم كرر الطفل في تحد وبصوت عال:
ـ الشعب يريد محاربة الفساد..؟!

مراكش 30 / 09 / 2025

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى