تفقدَ محرر الصفحة الاجتماعية بريده الإلكتروني ليجد إحدى وثلاثين رسالة جديدة.
ردَّد مع نفسه: ما أحوجني إلى الاختلاء بنفسي!
لم يجد لديه رغبة في القراءة أو تبادل الحديث مع أي شخص موجود في الغرفة رغم الابتسامات التي يراها على وجوه زملائه وهم يتبادلون النوادر.
حانت منه نظرة ثانية إلى بريده الإلكتروني.
كان يعرف أن هذه الرسائل ستدخله وسط دوامة من مشاعر، وأحاسيس لن يخرج منها إلاّ وهو منهك القوى.
أشعل سيجارة مع فنجان الشاي بالهيل الذي يفضله محاولًا تغيير مزاجه الذي يعمل كالستائر السميكة حينما تحجب أشعة الشمس خلفها، فتخيّم العتمة على المكان.
الأفكار في رأسه تناطح بعضها البعض دون هوادة بينما رئتاه تدفعان الهواء بانتظام، وبانتهاء كل جولة يجد المزيد منها قد بدأ بالتناسل دون أن يوقفها شيء.
حدق صوب النافذة حيث الغيوم التي أخذت تتشتتْ على صفحة السماء، قال محدثًا نفسه: ستعيدها الرياح ثانية، لكن بهيئة أخرى كما فعلتْ الحياة معي.
عشرون عامًا مرتْ منذ ارتباطه بزميلة له في العمل بعد قصة حب عادية. كانت مسؤولة عن تحرير الصفحة الأدبية في المجلة، بعد ذلك آثرتْ ترك كل شيء والتفرغ للبيت والأولاد. حاول ثنيها عن قرارها ربما ليبدو أمامها بمظهر الرجل المتحضر، لكن في قرارة نفسه كان يقول: ما حاجتي لامرأة تكتب الشَّعر؟
بعد عودتهما من شهر العسل قالت له: منذ اليوم، سأكتب القصائد لك وحدك!
بعدها، لم تكتب.
كبر الأولاد وتحولت إلى امرأة تراقب الأحداث من خلف ثقب الباب.
سريعًا، مر طائر أمام النافذة، ذكّره برسالة آخر عشيقة له وقد ورد فيها: يوم أمس، كنت أسير في الشارع، وأردد مع نفسي حان وقت الرحيل، وإن غادرت ، فإلى الأبد ... صدقني، سأجد رجلًا آخر نكاية بك.
كتب لها استردادًا لكرامته: أنا أيضًا منذ زمن أفكر بالرحيل، كنت أبحث عن مفردات مناسبة، المفاجأة أن الأمر لا يحتاج سوى ثلاث كلمات، أرغب في الرحيل!
الغريب أنه لم يشعر بأي حزن لفراقها، فقط حزمة ذكريات، وإحساس تجذر داخله من أنه وغد.
أكثر من ثلاثين عامًا قضاها وهو يكتب حلولًا لمشاكل نساء، ورجال لم يرهم في حياته، عشاق مخدوعون، وأمهات يشكون عقوق الأولاد، رجال يبحثون عن الحب بعد سن الخمسين، نساء يعانين خيانة الأزواج، مراهقون يفكرون في الانتحار، مشاكل بين أفراد الأسرة بسبب الإرث، فتيات حملنّ بلحظة حب غبية، ربما يقف القتل الشّبح المهدد لهن.
ثمة رسالة غريبة من امرأة أثارتْ فضوله تسأله: هل يحق لها رد الخيانة بالخيانة؟
كتب لها جوابًا طويلًا بيّن فيه أن الخيانة تسرق أحلام صاحبها، وفي أعماقه يقول: إن استطعتِ، فافعلي.
كل القصص يطالب أصحابها بحلول سحرية يمنحها المارد لهم بمجرد دعك المصباح، كتب مقالًا ذكر فيه أن الحلول مختبئة في ظلام جيوبنا بينما نبحث عنها تحت أعمدة النور الشاحبة.
أهدر سنوات من عمره لا يرى العالم إلا من خلال تلك الرسائل المليئة بخيبات الأمل والانكسارات المريرة، أحيانًا ينتابه شعور من أنه أدمن تلك القصص التي يخفي أصحابها الحقيقة!
انتهى من عمله ليغادر دون وداع أحد.
دخل أحدى المقاهي. وهو يرتشف من قدح الشاي بالنعناع، راقب مشهد المطر عبر الزجاج. صوّبَ نظره نحو السماء المليئة بغيوم سوداء متجهمة كمعاطف الشتاء، كأنها تحاول إلقاء حمولتها على الأرض كقراء صفحته وهم يسردون مشاكلهم في سطور.
عند المساء عاد لبيته. جلس صامتًا ينظر لزوجته، التي راحت تبتسم له في صمت هي الأخرى، خطر على باله أن يسألها: هل أنا ضروري في حياتكِ؟ ماذا لو عرفتِ بخيانتي لكِ مع نصف نساء المدينة؟
لكنه لم يقل أية كلمة، بل توجه لحاسوبه ليجد رسالة في بريده الإلكتروني .. إنها من ذات السيدة التي تراسله منذ شهور دون الإفصاح عن اسمها، لكن بريدها الإلكتروني كان باسم إنتظار. كتبتْ له:
- مساء الخير أستاذ عادل، ترددتُ قليلًا قبل أن أقرر مراسلتك!
- مساء الخير سيدتي، ما سبب انقطاعكِ الفترة الماضية؟
- شعرت بحاجتي للوحدة!
- في زمن الجنون، الذي نعيشه، تبدو الوحدة مطلبًا باهظ الثمن!
- تجتاحني هذا المساء رغبة للتحدث عن نفسي!
- وأنا مستمعٌ مثالي!
- مشكلتي أن الخيارات أمامي ليست كثيرة، أما الرحيل أو البقاء!
- بذلك تكون الحياة كريمة معك، هل لي بمعرفة التفاصيل سيدتي؟
- ستصلك رسالة مني، ستجد في نهاية سطورها أكوامًا من العواطف، لحظات كانت الأرض فيها متسعة، نادتني كي أعيشها، وقد عشتها بما قل ودل!
- متشوق لقراءة سطورك!
لقد سبق له الحديث مع هذه السيدة أو هكذا ظن. ظلال حروفها أحيتْ بداخله إحساسًا بالراحة، وفي ذات الوقت ذكرته بالشمس المشتعلة في كبد السماء. هذه المرأة نجحت في إثارة اهتمامه من جديد بالقصص التي لم يعد يملك شهية لقراءتها.
ظل محدقًا في الشاشة بانتظار رسالتها.
سكن لدقيقة ثم تلتها دقيقة أخرى كمن يريد النهوض ولا يقوى على الحركة. يود وبقوة رؤية صاحبة الرسالة، لكنه يخشى الاقتراب كما يقلقه الابتعاد. مد ذراعه والتقط الجهاز فكانت تلك الرسالة، التي كان ينتظرها وراح يقرأ:
حبيبي !
أين اختفى البريق الذي شدك إلى عينيّ حين رأيتني للمرة الأولى؟!
لم أنسَ حين أخبرتني أنكَ منهما تراقب ولادة النهار والليل!
كيف تبدد السِحر الذي كان يحيط بكلماتي حين تسمعها؟!
صمتكَ حوّل الكلمات إلى جثة تنتظر الدفن في ليلة ممطرة!
وأنا ألامس يدكَ، لم أعد أشعر بنبضات قلبكَ...
حرارة أنفاسك أصابها البرد...
كنت تقول لي: شفتاكِ لم تخلق للكلام... الآن لم تعد تغريك بالقبل!
ما عاد عطري يهزم ليلك، فأخذتك الأحلام بعيدًا.
هل أنسى لهفتك بينما نظراتك تلاحقني، تبعثرني ثم تلملمني، تميتني ولا تحييني!
قصائدك المرتجفة شوقًا وحنينًا سقطتْ حروف منها، فتاه المعنى بين السطور!
ما بالكَ تطارد اليأس حافي القدمين؟!
لماذا تركت الحزن يعشعش على نوافذنا؟!
ستحاول حجب النوافذ بالضباب، والحياة تفاصيل صغيرة.
لطالما قرأت رسائل العشق التي كنت ترسلها للآخريات...
كيف سأعثر على الدرب وسط الفوضى؟
الجواب يكمن في خزائنك القديمة.
وإذا ما حصل فراق، سأغفر، فالمسافات لم تبطل مفعول الأشواق!
لو أننا نعود إلى الماضي...
إلى أول لقاء، ونقول ما لم نفصح عنه وقتها، ربما لا نحتاج سوى كلمات بسيطة، لكنها مفعمة بالسعادة، فيصبح الحزن أقل وجعًا.
ليتنا نحاول تبادل الحديث دون أقنعة!
أتعرف ما الذي أخشاه؟ أن أصحو فأجد نفسي لا أعرفك.
هذه هي مشكلتي يا سيد الحلول!
بعد انتهائه من القراءة، امتلأت عيناه بالدهشة. ترك مقعده ومضى بخطوات بطيئة صوب الغرفة الأخرى حيث تجلس زوجته وهي تتطلع صوب جهاز الحاسوب خاصتها.
ردَّد مع نفسه: ما أحوجني إلى الاختلاء بنفسي!
لم يجد لديه رغبة في القراءة أو تبادل الحديث مع أي شخص موجود في الغرفة رغم الابتسامات التي يراها على وجوه زملائه وهم يتبادلون النوادر.
حانت منه نظرة ثانية إلى بريده الإلكتروني.
كان يعرف أن هذه الرسائل ستدخله وسط دوامة من مشاعر، وأحاسيس لن يخرج منها إلاّ وهو منهك القوى.
أشعل سيجارة مع فنجان الشاي بالهيل الذي يفضله محاولًا تغيير مزاجه الذي يعمل كالستائر السميكة حينما تحجب أشعة الشمس خلفها، فتخيّم العتمة على المكان.
الأفكار في رأسه تناطح بعضها البعض دون هوادة بينما رئتاه تدفعان الهواء بانتظام، وبانتهاء كل جولة يجد المزيد منها قد بدأ بالتناسل دون أن يوقفها شيء.
حدق صوب النافذة حيث الغيوم التي أخذت تتشتتْ على صفحة السماء، قال محدثًا نفسه: ستعيدها الرياح ثانية، لكن بهيئة أخرى كما فعلتْ الحياة معي.
عشرون عامًا مرتْ منذ ارتباطه بزميلة له في العمل بعد قصة حب عادية. كانت مسؤولة عن تحرير الصفحة الأدبية في المجلة، بعد ذلك آثرتْ ترك كل شيء والتفرغ للبيت والأولاد. حاول ثنيها عن قرارها ربما ليبدو أمامها بمظهر الرجل المتحضر، لكن في قرارة نفسه كان يقول: ما حاجتي لامرأة تكتب الشَّعر؟
بعد عودتهما من شهر العسل قالت له: منذ اليوم، سأكتب القصائد لك وحدك!
بعدها، لم تكتب.
كبر الأولاد وتحولت إلى امرأة تراقب الأحداث من خلف ثقب الباب.
سريعًا، مر طائر أمام النافذة، ذكّره برسالة آخر عشيقة له وقد ورد فيها: يوم أمس، كنت أسير في الشارع، وأردد مع نفسي حان وقت الرحيل، وإن غادرت ، فإلى الأبد ... صدقني، سأجد رجلًا آخر نكاية بك.
كتب لها استردادًا لكرامته: أنا أيضًا منذ زمن أفكر بالرحيل، كنت أبحث عن مفردات مناسبة، المفاجأة أن الأمر لا يحتاج سوى ثلاث كلمات، أرغب في الرحيل!
الغريب أنه لم يشعر بأي حزن لفراقها، فقط حزمة ذكريات، وإحساس تجذر داخله من أنه وغد.
أكثر من ثلاثين عامًا قضاها وهو يكتب حلولًا لمشاكل نساء، ورجال لم يرهم في حياته، عشاق مخدوعون، وأمهات يشكون عقوق الأولاد، رجال يبحثون عن الحب بعد سن الخمسين، نساء يعانين خيانة الأزواج، مراهقون يفكرون في الانتحار، مشاكل بين أفراد الأسرة بسبب الإرث، فتيات حملنّ بلحظة حب غبية، ربما يقف القتل الشّبح المهدد لهن.
ثمة رسالة غريبة من امرأة أثارتْ فضوله تسأله: هل يحق لها رد الخيانة بالخيانة؟
كتب لها جوابًا طويلًا بيّن فيه أن الخيانة تسرق أحلام صاحبها، وفي أعماقه يقول: إن استطعتِ، فافعلي.
كل القصص يطالب أصحابها بحلول سحرية يمنحها المارد لهم بمجرد دعك المصباح، كتب مقالًا ذكر فيه أن الحلول مختبئة في ظلام جيوبنا بينما نبحث عنها تحت أعمدة النور الشاحبة.
أهدر سنوات من عمره لا يرى العالم إلا من خلال تلك الرسائل المليئة بخيبات الأمل والانكسارات المريرة، أحيانًا ينتابه شعور من أنه أدمن تلك القصص التي يخفي أصحابها الحقيقة!
انتهى من عمله ليغادر دون وداع أحد.
دخل أحدى المقاهي. وهو يرتشف من قدح الشاي بالنعناع، راقب مشهد المطر عبر الزجاج. صوّبَ نظره نحو السماء المليئة بغيوم سوداء متجهمة كمعاطف الشتاء، كأنها تحاول إلقاء حمولتها على الأرض كقراء صفحته وهم يسردون مشاكلهم في سطور.
عند المساء عاد لبيته. جلس صامتًا ينظر لزوجته، التي راحت تبتسم له في صمت هي الأخرى، خطر على باله أن يسألها: هل أنا ضروري في حياتكِ؟ ماذا لو عرفتِ بخيانتي لكِ مع نصف نساء المدينة؟
لكنه لم يقل أية كلمة، بل توجه لحاسوبه ليجد رسالة في بريده الإلكتروني .. إنها من ذات السيدة التي تراسله منذ شهور دون الإفصاح عن اسمها، لكن بريدها الإلكتروني كان باسم إنتظار. كتبتْ له:
- مساء الخير أستاذ عادل، ترددتُ قليلًا قبل أن أقرر مراسلتك!
- مساء الخير سيدتي، ما سبب انقطاعكِ الفترة الماضية؟
- شعرت بحاجتي للوحدة!
- في زمن الجنون، الذي نعيشه، تبدو الوحدة مطلبًا باهظ الثمن!
- تجتاحني هذا المساء رغبة للتحدث عن نفسي!
- وأنا مستمعٌ مثالي!
- مشكلتي أن الخيارات أمامي ليست كثيرة، أما الرحيل أو البقاء!
- بذلك تكون الحياة كريمة معك، هل لي بمعرفة التفاصيل سيدتي؟
- ستصلك رسالة مني، ستجد في نهاية سطورها أكوامًا من العواطف، لحظات كانت الأرض فيها متسعة، نادتني كي أعيشها، وقد عشتها بما قل ودل!
- متشوق لقراءة سطورك!
لقد سبق له الحديث مع هذه السيدة أو هكذا ظن. ظلال حروفها أحيتْ بداخله إحساسًا بالراحة، وفي ذات الوقت ذكرته بالشمس المشتعلة في كبد السماء. هذه المرأة نجحت في إثارة اهتمامه من جديد بالقصص التي لم يعد يملك شهية لقراءتها.
ظل محدقًا في الشاشة بانتظار رسالتها.
سكن لدقيقة ثم تلتها دقيقة أخرى كمن يريد النهوض ولا يقوى على الحركة. يود وبقوة رؤية صاحبة الرسالة، لكنه يخشى الاقتراب كما يقلقه الابتعاد. مد ذراعه والتقط الجهاز فكانت تلك الرسالة، التي كان ينتظرها وراح يقرأ:
حبيبي !
أين اختفى البريق الذي شدك إلى عينيّ حين رأيتني للمرة الأولى؟!
لم أنسَ حين أخبرتني أنكَ منهما تراقب ولادة النهار والليل!
كيف تبدد السِحر الذي كان يحيط بكلماتي حين تسمعها؟!
صمتكَ حوّل الكلمات إلى جثة تنتظر الدفن في ليلة ممطرة!
وأنا ألامس يدكَ، لم أعد أشعر بنبضات قلبكَ...
حرارة أنفاسك أصابها البرد...
كنت تقول لي: شفتاكِ لم تخلق للكلام... الآن لم تعد تغريك بالقبل!
ما عاد عطري يهزم ليلك، فأخذتك الأحلام بعيدًا.
هل أنسى لهفتك بينما نظراتك تلاحقني، تبعثرني ثم تلملمني، تميتني ولا تحييني!
قصائدك المرتجفة شوقًا وحنينًا سقطتْ حروف منها، فتاه المعنى بين السطور!
ما بالكَ تطارد اليأس حافي القدمين؟!
لماذا تركت الحزن يعشعش على نوافذنا؟!
ستحاول حجب النوافذ بالضباب، والحياة تفاصيل صغيرة.
لطالما قرأت رسائل العشق التي كنت ترسلها للآخريات...
كيف سأعثر على الدرب وسط الفوضى؟
الجواب يكمن في خزائنك القديمة.
وإذا ما حصل فراق، سأغفر، فالمسافات لم تبطل مفعول الأشواق!
لو أننا نعود إلى الماضي...
إلى أول لقاء، ونقول ما لم نفصح عنه وقتها، ربما لا نحتاج سوى كلمات بسيطة، لكنها مفعمة بالسعادة، فيصبح الحزن أقل وجعًا.
ليتنا نحاول تبادل الحديث دون أقنعة!
أتعرف ما الذي أخشاه؟ أن أصحو فأجد نفسي لا أعرفك.
هذه هي مشكلتي يا سيد الحلول!
بعد انتهائه من القراءة، امتلأت عيناه بالدهشة. ترك مقعده ومضى بخطوات بطيئة صوب الغرفة الأخرى حيث تجلس زوجته وهي تتطلع صوب جهاز الحاسوب خاصتها.