تململتُ فِي مقعدي وأنا أنظرُ إلى الساعة المُعلقَةِ على الحائِط، والتِي تشيرُ عقاربُها إلى عشرين دقيقة بعدَ الثامنة مساءً، ارتشفتُ آخرَ رشفةٍ مِن فنجانِ القهوة، ثُمَّ وضعْتُه على الطاولة أمَامِي، والتِي أسعَى إلى الجلوسِ عَليها في كلِّ مرةٍ أرتادُ فِيها هذا المَقْهَى؛ فهي تقعُ فِي آخره، حيثُ أجلسُ وظهري إلى الحائط، بينما تنكشفُ المساحةُ كلُّها أمامي بما فيها بابُ المقهى؛ ممَّا يتيحُ لي رؤيةَ رُوادِه بوضوح، الجالس منهم والقائم، الداخل والخارج.
التفْتُ يمينًا ويسارًا أحصي الجالسين، في محاولة لاستهلاكِ الوقت الذي يبدو بطيئًا حين تنتظر أحدهم، كانت المفاجأةُ حينَ وجدْتُه خاليًا إلا مني، مما دفعني للتفكير في السبب الذي جعل رواده يعزفون عن القدوم إليه في مثل هذا الوقت، كدت أن أستدعي النادل بالفعل، ثم تذكرتُ أمر كورونا والحظر ومواعيد غلق المقاهي في التاسعة مساءً، تذكرت الحال قبل الوباء اللعين عندما كان الزحام هنا على أشدِّه، والذي كنت أتمنى معه أن أجد هذه الطاولة خالية في كل مرة أقصده، لمُقَابَلة شريكِي في العمل، والذي هو في الأساس صديقي.
بدأَ الضيقُ يتسللُ إليَّ عندما وصلْتُ بتفكيري إلى ذِكرِ شريكي، لقدْ هاتفَني في السادسة بعد أن غادرنا المكتب، وطلبَ مني في إلحاحٍ أن أقابلَه هنا لأمرٍ هامٍّ، وشددَ على ضرورة حضوري في تمام الثامنة، نظرتُ مرة أخرى إلى الساعة التي أشارت عقاربها إلى خمسٍ وعشرين دقيقة بعد الثامنة؛ مما جعلني أزفرُ في ضيق واضح.
التفتُ في حدة عن اليمين عندما سمعت أحدهم يقول: "التمسْ لأخيك العذرَ"، شعرت بالدهشة وقد فاجأني وجودُ أحدِهم يجلس على إحدى الطاولات؛ فأنا لم أشعرْ به أو أرَه وهو يدلف إلى المكان ويجلس هناك، بمجرد أن نظرت إليه التفتَ إليَّ بآليه، والعجيب أن فمَه كان مُغلقًا، كيف سمعته يتحدث في وضوح؟!
ما لبثت دهشتي أن ازدادت، وقد سمعت أحدهم عن يساري يقول: "لقد بدأت أشك في أنه يسرقُ أموالَ الشركة"، ها هو شخصٌ آخر، لم أشعرْ بدخوله أيضًا، ويجلس عن يساري، ويلتفت ناحيتي بمجرد أن أنظر إليه، فمه مغلقٌ أيضًا.
تكرر الأمر، ظهر بعضهم يجلسون على الطاولات عن يميني ويساري، واحد آخر من جهة اليمين يقول: "الغائب معه حجته"، فيقول آخر من اليسار: "لقد أصبح شخصًا غير مسؤول"، آخر من اليمين: "لا يجب أن تسيءَ الظنَّ بالآخرين"، وآخر من اليسار: "لا يمكن الثقة بمثل هؤلاء"، علا صوت من اليمين: "عاملْ الناسَ بما أنت أهلٌ له، عاملْهم بالطيبة والإحسان"، صرخ أحدهم عن اليسار: "نحن نحيا في غابةٍ، وعليكَ أن تختار بين أن تكون فيها فريسة أو وحشًا كاسرًا".
ازدادتْ دهشتي وأحاطتْ بي حيرتي، كيف دلف هؤلاء إلى المقهى، وجلسوا على الطاولات دون أن أراهم؟ وكيف أسمعُ كلامهم بهذا الوضوح مع أنهم لا يتحدثون؟ ثم انتبهتُ إلى أنهم يجلسون فرادى، إلى من يتحدث كل منهم بفرض أنهم تحدثوا بالفعل؟ أتراهم يتحدثون إلى أنفسهم؟
كنت أصارع حيرتي حين لاحظتُ بعضًا من الأمور، هؤلاء النفر الذين يجلسون عن يميني يرتدون جميعهم البياض، ومن هم عن اليسار يرتدون السواد، والجميع هنا وهناك متشابهون، أغمضْتُ عيني وأنا أمسك رأسي بكلتا يدي، كيف يتغير البشر، ويتحول الصديق إلى عدو، والأمين يصبح خائنًا؟ كيف جرَّدنا الوباءُ من أخلاقِنا وكشف عورة أنفسنا؟ كيف أصبح كلٌّ منا يُسيء الظن بالآخر؟ هل بقيَ من خيرٍ بداخلنا؟
علا صوتٌ عن اليمين: "ابدأْ بنفسك"، وقبل أن يقولَ أحدٌ من اليسار شيئًا، وجدت نفسي أردد في بطء: "نعم، معك حق، سأبدأ بنفسي وألتمسُ لصديقي العذر، سأتوقف عن الشكِّ في ذمته وإساءة الظن به، سأظل أُعامله بأخلاقي"
فتحتُ عيني ونظرت بعفوية إلى الساعة المعلقة على الحائط، وتعلق حاجباي في أعلى جبهتي بعد أن ارتفعا عاليًا ورفضا النزول؛ وعقاربها ما زالت تشير إلى خمسٍ وعشرين دقيقة بعد الثامنة! وقد تحول الجميع عن اليمين واليسار إلى ما يشبه التماثيل، كما لو كان مشهدًا يُعرض عاى شاشة ثم توقفت الصورة فجأة.
فُتِحَ بابُ المقهى وظهر على عتبته شريكي، اتجه ناحيتي وهو يبتسم في خجلٍ، حيَّاني ثم جلسَ بجواري، أخذ يقصُّ عليَّ ما حدث معه وهو قادم في الطريق لمقابلتي، يخبرني بما كان على وشك أن يصيبه والذي كان السبب في تأخره، ولولا ستر الله ما كان على سطح الأرض الآن بل في جوفها.
وقبل أن أستدعِيَ النادل وأسأله عما يحب أن يحتسي، وحتى قبل أن أقول له حمدًا لله على سلامتك، أخرج من جيبه ورقة مطوية فضها في لهفة، ثم قال في سعادة: "لقد استطعت أن أحصل على الصفقة التي طالما تمنيناها، هاتفني مديرهم بعد أن غادرنا الشركة، وأبلغني باختيار شركته لنا، ذهبت إليه مسرعًا ومضيت معه العقد، باسم شركتنا".
توقف أخيرًا عن الكلام، نظرت عن يميني فوجدتُ على وجوههم السرور، ثم حدث ذلك الأمر، لقد تجمعوا معًا وكونوا شخصًا واحدا، أما من هم عن اليسار كان الحزنُ يكسو وجوههم قبل أن يجتمعوا في شخص واحد بدورهم، وقف الشخصان، تحرك كلٌّ منهما واتجه إلى مكانه المعتاد، واحد خلف أذني اليمنى والثاني خلف اليسرى.
أخرجني من شرودي صوت شريكي الذي هو في الأساس صديقي يخبرني بوجوب المغادرة؛ فقد اقتربت الساعة من التاسعة مساءً، موعد بدء الحظر.
التفْتُ يمينًا ويسارًا أحصي الجالسين، في محاولة لاستهلاكِ الوقت الذي يبدو بطيئًا حين تنتظر أحدهم، كانت المفاجأةُ حينَ وجدْتُه خاليًا إلا مني، مما دفعني للتفكير في السبب الذي جعل رواده يعزفون عن القدوم إليه في مثل هذا الوقت، كدت أن أستدعي النادل بالفعل، ثم تذكرتُ أمر كورونا والحظر ومواعيد غلق المقاهي في التاسعة مساءً، تذكرت الحال قبل الوباء اللعين عندما كان الزحام هنا على أشدِّه، والذي كنت أتمنى معه أن أجد هذه الطاولة خالية في كل مرة أقصده، لمُقَابَلة شريكِي في العمل، والذي هو في الأساس صديقي.
بدأَ الضيقُ يتسللُ إليَّ عندما وصلْتُ بتفكيري إلى ذِكرِ شريكي، لقدْ هاتفَني في السادسة بعد أن غادرنا المكتب، وطلبَ مني في إلحاحٍ أن أقابلَه هنا لأمرٍ هامٍّ، وشددَ على ضرورة حضوري في تمام الثامنة، نظرتُ مرة أخرى إلى الساعة التي أشارت عقاربها إلى خمسٍ وعشرين دقيقة بعد الثامنة؛ مما جعلني أزفرُ في ضيق واضح.
التفتُ في حدة عن اليمين عندما سمعت أحدهم يقول: "التمسْ لأخيك العذرَ"، شعرت بالدهشة وقد فاجأني وجودُ أحدِهم يجلس على إحدى الطاولات؛ فأنا لم أشعرْ به أو أرَه وهو يدلف إلى المكان ويجلس هناك، بمجرد أن نظرت إليه التفتَ إليَّ بآليه، والعجيب أن فمَه كان مُغلقًا، كيف سمعته يتحدث في وضوح؟!
ما لبثت دهشتي أن ازدادت، وقد سمعت أحدهم عن يساري يقول: "لقد بدأت أشك في أنه يسرقُ أموالَ الشركة"، ها هو شخصٌ آخر، لم أشعرْ بدخوله أيضًا، ويجلس عن يساري، ويلتفت ناحيتي بمجرد أن أنظر إليه، فمه مغلقٌ أيضًا.
تكرر الأمر، ظهر بعضهم يجلسون على الطاولات عن يميني ويساري، واحد آخر من جهة اليمين يقول: "الغائب معه حجته"، فيقول آخر من اليسار: "لقد أصبح شخصًا غير مسؤول"، آخر من اليمين: "لا يجب أن تسيءَ الظنَّ بالآخرين"، وآخر من اليسار: "لا يمكن الثقة بمثل هؤلاء"، علا صوت من اليمين: "عاملْ الناسَ بما أنت أهلٌ له، عاملْهم بالطيبة والإحسان"، صرخ أحدهم عن اليسار: "نحن نحيا في غابةٍ، وعليكَ أن تختار بين أن تكون فيها فريسة أو وحشًا كاسرًا".
ازدادتْ دهشتي وأحاطتْ بي حيرتي، كيف دلف هؤلاء إلى المقهى، وجلسوا على الطاولات دون أن أراهم؟ وكيف أسمعُ كلامهم بهذا الوضوح مع أنهم لا يتحدثون؟ ثم انتبهتُ إلى أنهم يجلسون فرادى، إلى من يتحدث كل منهم بفرض أنهم تحدثوا بالفعل؟ أتراهم يتحدثون إلى أنفسهم؟
كنت أصارع حيرتي حين لاحظتُ بعضًا من الأمور، هؤلاء النفر الذين يجلسون عن يميني يرتدون جميعهم البياض، ومن هم عن اليسار يرتدون السواد، والجميع هنا وهناك متشابهون، أغمضْتُ عيني وأنا أمسك رأسي بكلتا يدي، كيف يتغير البشر، ويتحول الصديق إلى عدو، والأمين يصبح خائنًا؟ كيف جرَّدنا الوباءُ من أخلاقِنا وكشف عورة أنفسنا؟ كيف أصبح كلٌّ منا يُسيء الظن بالآخر؟ هل بقيَ من خيرٍ بداخلنا؟
علا صوتٌ عن اليمين: "ابدأْ بنفسك"، وقبل أن يقولَ أحدٌ من اليسار شيئًا، وجدت نفسي أردد في بطء: "نعم، معك حق، سأبدأ بنفسي وألتمسُ لصديقي العذر، سأتوقف عن الشكِّ في ذمته وإساءة الظن به، سأظل أُعامله بأخلاقي"
فتحتُ عيني ونظرت بعفوية إلى الساعة المعلقة على الحائط، وتعلق حاجباي في أعلى جبهتي بعد أن ارتفعا عاليًا ورفضا النزول؛ وعقاربها ما زالت تشير إلى خمسٍ وعشرين دقيقة بعد الثامنة! وقد تحول الجميع عن اليمين واليسار إلى ما يشبه التماثيل، كما لو كان مشهدًا يُعرض عاى شاشة ثم توقفت الصورة فجأة.
فُتِحَ بابُ المقهى وظهر على عتبته شريكي، اتجه ناحيتي وهو يبتسم في خجلٍ، حيَّاني ثم جلسَ بجواري، أخذ يقصُّ عليَّ ما حدث معه وهو قادم في الطريق لمقابلتي، يخبرني بما كان على وشك أن يصيبه والذي كان السبب في تأخره، ولولا ستر الله ما كان على سطح الأرض الآن بل في جوفها.
وقبل أن أستدعِيَ النادل وأسأله عما يحب أن يحتسي، وحتى قبل أن أقول له حمدًا لله على سلامتك، أخرج من جيبه ورقة مطوية فضها في لهفة، ثم قال في سعادة: "لقد استطعت أن أحصل على الصفقة التي طالما تمنيناها، هاتفني مديرهم بعد أن غادرنا الشركة، وأبلغني باختيار شركته لنا، ذهبت إليه مسرعًا ومضيت معه العقد، باسم شركتنا".
توقف أخيرًا عن الكلام، نظرت عن يميني فوجدتُ على وجوههم السرور، ثم حدث ذلك الأمر، لقد تجمعوا معًا وكونوا شخصًا واحدا، أما من هم عن اليسار كان الحزنُ يكسو وجوههم قبل أن يجتمعوا في شخص واحد بدورهم، وقف الشخصان، تحرك كلٌّ منهما واتجه إلى مكانه المعتاد، واحد خلف أذني اليمنى والثاني خلف اليسرى.
أخرجني من شرودي صوت شريكي الذي هو في الأساس صديقي يخبرني بوجوب المغادرة؛ فقد اقتربت الساعة من التاسعة مساءً، موعد بدء الحظر.