نجم الأميري - زقاق أمّ الأحزان.. قصة قصيرة

قادته قدماه بخطى متثاقلة، ارهقتها سني الغربة الطويلة صوب شارع (التوراة) ذلك(الغيتو) القديم ..

توقف عند مدخله متاملاً اطلال (الكنيس) الذي ما زال يكتنفه الغامض من اسرار (العهد القديم)..

ثم جال بنظره مستعرضاً واجهات الدور التي بدت هرمة متداعيةٌ يعلوها بقايا ( شناشيل) حال لونها وفقدت زخرفتها وجزءاً من الواحها، ولم يبق من زجاجها الملون سوى شظايا عليها بقية من الوان باهتة كانت في يوم ما بهجة الشارع ورونقه. فما ان تشرق الشمس حتى تتسلل اشعتها مخترقةً ذلك الزجاج ومكونةً على جدران غرف الشناشيل ما يشبه القوس قزح او الوان الطيف الشمسي.

نقل خطواته ببطء متجاوزاً خرائب (الاليانس) مدرسة (اسكول) ذات الخصوصية التي يلفها الغموض منذ ذلك الزمان.

لم يكن الشارع بهذه الحالة المتهالكة والمحبطة، حين غادره صغيراً قبل ثلاثة عقود ونصف.

فقد كان ملتقى المحبين في الاعياد والمناسبات وايام الاحاد.

ثم واصل سيره نحو زقاق كنيسة (ام الاحزان) الذي يقع في منتصف الشارع.

اقف – الان- مرتعشاً عند مدخله، استذكر دقات ناقوس الكنيسة، ويتراءى لي القس الاب (سمعان) يرش الماء المقدس على وجوه المصلين في الوقت الذي اقف على اطراف اصابعي الصغيرة اطل من منافذة الكنيسة اراقب ما يجري بشغف مأخوذاً بأنغام (الارغن) واصوات جوقة المنشدين والمنشدات في اداء (اوبرالي) يوحي بالقداسة في اجواء كهنوتية تأخذ بمجامع القلوب، منتظراً انتهاء القداس حتى تخرج (روز ماري) مع ابويها واختها الصغرى (جانيت) كي نلعب ونمرح سوياً ببراءة والفة. لم يتغير شيء في خارطة الزقاق، ضيق نهايته مغلقة بباب الكنيسة ومدخله يصب في منتصف شارع التوراة، بيوت ثلاثة عليها فعل الزمن واضحٌ وقد فقدت روعة شناشيلها. كان الاب (سمعان) يقطن احداها، واسرة الاستاذ (لورنس) مدرس اللغة الانكليزية والد(روزا) واسرتنا يسكنان الاخريين مسح دمعة ساخنة سالت على خده، حين استحضر ما جرى في تلك الليلة القارسة البرودة من ليالي كانون، وكأنه يستمع لذلك الطرق العنيف على باب الدار، رجال اقتحموا منزلهم، وانتزعوه من فراشه الدافئ بملابس نومه، وأركبوه مع امه وابيه في سيارة كبيرة مكشوفة، جلسوا فيها القرفصاء مع آخرين، ملتصقين بعضهم بالبعض الاخر طلباً للدفء والامان، وسارت بهم بقية الليل، ومع خيوط الفجر الاولى، القوا بهم في الحدود.

ومنذ تلك الليلة المشؤومة لم ير (روزا)، لكن الامل ظل يراوده سيلتقي بها في يوم ما.

لم يفارقني حنيني للوطن لحظة واحدة، وقد عشت مرارة الغربة وذلها وكلما تأزمت وظاقت الدنيا في عيني، استحضرت بقعة صغيرة على خارطته، يشدني اليها رباط عاطفي أخذ ينمو رويداً رويدا ولا ارى من خلاله سوى صورة (روزا) ذات العشرة سنوات ووجهها البيضويالطفولي، يجللها شعر أشقر ذهبي بجدلتين ذهبيتين تتراقصان على كتفيها، وذلك الالق الاخاذ في عينيها النرجستين الضاحكتي، عزمت أن اخطو خطوتي الاولى في الزقاق بعد كل تلك السنين.

دقات قلبي اكاد اسمعها، وانا مازلت ارتعش، وتدور في رأسي عدة اسئلة تبحث عن اجابات مطمئنة.

يا ترى، هل سأرى (روزماري) مجدداً؟، وكيف صورتها الآن ؟.

فقد رسمت لها في خيالي على مدى السنين الطوال صورة اطرتها باطار رومانسي على اجمل ما تكون سيدة في العقد الرابع من عمرها.

والسؤال الذي اخشى جوابه والذي يتوقف عليه مستقبل القادم من أيامي والذي طالما ارقني، ياترى ، هل تزوجت روزا؟ ..

طرقت الباب باستحياء وتردد وانتظرت الجواب متوتراً خوف المجهول.

فتحت الباب صبية فيها من مخايل طفولة(روزا) الشيء الكثير تأملتها بشغف وكأني ارى الزمان يعود القهقرى ، سألتها متلهفاً:

– عمو ، هل انت ابنة (روز ماري)؟.

– كلا، أنا ابنة اختها (جانيت)، أخذت نفسا عميقاً واستعدت توازني.

– تفضل ، ياعم ، ماذا تريد؟ سألتني بأدب جم.

– أسأل عن(روزا)، ان كانت موجودة من فضلك.

– ماذا، اقول لها، ومن انت ! ؟ بدت متعجبة ومستغربة من معرفتي بخالتها.

– صديق قديم، جار من زمن مضى،(أحمد) قولي لها أحمد بالباب، لحظات الانتظار ممضنة، كأنها حقبة من الزمن، اعترتني فيها نوبة هذيان ومناجاة، روزا يا ألق الطفولة وبراءتها، يا روعة الزمن الجميل وبهائه، يا ناسجة احلام الطفولة والصبا.

فتح الباب وأطلت (روزا)، وجه شاحب ببقايا من جمال طفوليشعر ذهبي خالطة لون فضي، حزن عميق شاب العيون العسلية الضاحكة، في العقد الرابع من عمرها لكنها بدت لي اكبر من ذلك.

تلالات دمعة في عينها، اخذت يدها بين يدي وسرت من خلالها شجنات اشواقي وعواطفي المكبوته، واستجابت لها بأرتعاشة خفيفة اجتاحت جسدها النحيل. لحظتها وخزني قلبي فهي تبدو لي وكأنها تعاني الما ما او مرضاً.

اخذت زمام المبادرة قائلاً:

– روزا، ياعزيزتي، هل نبقى واقفين امام باب الدار؟ وقد نسينا انفسنا.

– احمد، تفضل، أدخل، انت لست غريباً، هذا بيتك، وضحكت وقالت برقة متناهية.

– اتذكر يا احمد، لطالما لعبنا ومرحنا في طفولتنا في ساحته وغرفه.

حال نظره في غرفة الاستقبال، صورة السيدة(العذراء) مازالت في مكانها وعلى الجدار المقابل عدة صور عائلية ابرزها صورة زفاف(جانيت) اما مكتبة الاستاذ(لورنس). في ركن الغرفة غابت روزا فترة قصيرة وأقبلت تحمل اكواب الشاي وجلست قبالتي، اخذت أتاملها بمحبة وشوق وقد بدت، متعبة شديدة النحول، ومنذ تلك اللحظة بدأت أقلق حيال وضعها الصحي واذا بشيء ينطفي في داخلي فجأة ويعتصر قلبي.

وقبل أن ابادر بالسؤال والحديث معها، أقبلت جانيت وزوجها فبادرتها روزا قائلة.

– جانيت، هذا احمد، صديق طفولتنا، والذي انقطعت اخباره منذ تلك الليلة، قبل عدة اعوام.

رحبت بي جانيت بحرارة وقدمت لي زوجها المهندس (يونان) الذي صافحني بحفاوة وحرارة استنتجت من خلالهما انهما تحدثتا امامه عنا كثيراً.

ثم واصلت روزا حديثها قائلة:

– أبي وامي توفيا منذ سنوات، وأتذكر انهما حزنا عندما بيع داركما واثاثكما بالمزاد العلني..

قدمت لها اسفي وحزني الشديد ومؤاساتي وتذكرت كيف كانا يعطفان ويرحبان بي في دارهما وكأنني ابنيهما الوحيد.

ساد صمت بيننا احتراما لمشاعر الجميع، قطعته جانيت بسؤالها:

– احمد، كيف جرت الامور معكم هناك في المهجر؟

– افتتح ابي متجراً للسجاد مبتدءاً حياته العملية من الصفر وعندما توفي ورثته وطورت التجارة والحمدلله ، ثم توفيت امي بعده بسنتين وكانت دائمة الحديث عنكم وعن تلك العشرة الطيبة، أستأذنت روزا وقامت لأداء بعض شؤونها الخاصة، ولقد اقلقني وضعها الصحي فأردت التأكد من جانيت حول ما تعانيه، فقلت:

– جانيت … أرى روزا تكاد ان تنطفئ، ماهذا الشحوب والنحول، هل هي مريضة؟ .

– نعم، وقد راجعت عدة اطباء، والان تعيش مع المسكنات والمهدئات، ونحن في قلق دائم.

في تلك اللحظة اتخذت قراري بالعودة للمهجر لتصفية تجارتي والعودة السريعة لشراء دارنا مجدداً وبأي ثمن، ثم المستحيل من أجل معالجة روزا وبأذن الله، لتستعيد عافيتها، ثم اطلب يدها من جانيت وزوجها ونستقر جميعاً في زقاقنا المحبب بقية عمرنا.

غادرتهم بعد ليلة قضيناها ساهرين نستعيد الذكريات وكانت من احلى ليالي عمري وعيني لم تفارقا روزا لحظة واحدة، ولم انم تلك الليلة، ومع الفجر ودعتهم على امل اللقاء قريباً.

بعد ثلاثة اشهر انجز متعلقاته في المهجر وعاد يحدوه امل اللقاء وتحقيق احلامه.

توجه مباشرة صوب شارع (التوراة) بهمة ونشاط…

وما ان وضع قدمه على عتبة الشارع، حتى ادهش عند سماعه ناقوس كنيسة(أم الاحزان) يدق بلا انقطاع، شعر بانقباض وحزن وكأن شيئاً انطفأ في داخله فجأة وقال في نفسه ان هذا اليوم ليس بيوم الاحد ولا احد الاعياد التي اتذكرها.

سار متوجهاً وكلما اقترب من الزقاق ازداد ضرب الناقوس شدة لاح له من بعيد جمع من النساء والرجال في مدخل الزقاق ازداد توتراً وقلقاً وانقباضاً وهو يقترب من هذا الجمع اقترب بحذر واستفسر من اقرب امرأة واقفة، همست قائلة بأن امرأة توفيت في الزقاق هذا الصباح.

شق الجمع وهو ينحب نحيباً يقطع نياط القلوب.

وقف – وقد تحجرت الدموع في مآقبه – بين جانبيت وزوجها وقبل ان توارى (روزا) الثرى، القى نظرة اخيرة على جسدها المسجى، ثم خرج – متعثراً- على غير هدى، تاركا الزقاق وشارع التوراة خلف ظهره وأخذ يتخبط في سيره وحيداً يائساً حتى تلاشت دقات الناقوس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى